محاولة لتعريف الأناركية
يقول ألبير كامو في الإنسان المتمرد أن هناك مقاربتان أساسيتان للعالم , للأنا و الآخر , فإما أن نكون دوغمائيين لدرجة الاستخفاف بالآخر و مستخفين بالآخر لدرجة قتله , أو أن تكون ذواتنا هي محور ذلك الإنكار , أن نكون نحن المتهمين , و عندها سيكون هذا الشك لصالح الآخر , و حقه في الوجود , في الحالة الأولى يكون قتل الآخر هو الفعل الطاغي و في الثانية يؤدي الشك و إنكار الذات إلى الانتحار , يضيف كامو "في العهود الأولية الساذجة حين كان الطاغية يمسح مدنا بأكملها لإعلاء مجده , و حين كان العبد الموثق بعربة المنتصر يسير معروضا في شوارع المدن المختلفة بأعياد النصر , و حين كان يرمى بالعدو إلى الحيوانات المفترسة أمام جموع الشعب المحتشد , نقول : إزاء جرائم بمثل هذه السذاجة كان في وسع الوجدان أن يكون ثابتا و في وسع الحكم أن يكون جليا . أما أن تقام معسكرات العبيد تحت راية الحرية , و أن تبرر المجازر بمحبة الإنسان أو بالميل إلى إنسانية متفوقة فهذا لعمري ما يعيي , بوجه ما , قوة التمييز و الحكم . حينما تتزين الجريمة بثوب البراءة ..." "قبل عقد النية على القتل أنكرنا و أنكرنا كثيرا حتى أنكرنا ذاتنا بالانتحار . الله يغش , و الجميع يغشون معه , و أنا نفسي أغش , بناءا على ذلك , أنا أموت : لقد كان الانتحار محور الموضوع . أما النظريات العقائدية في الوقت الحاضر فلم تعد تنكر سوى الآخرين , الغشاشين الوحيدين . بناءا على ذلك يقتل الآخرون . و هكذا في مطلع كل فجر , ثمة قتلة مزدانون بالأوسمة يتسللون إلى زنزانة : لقد أصبح القتل محور الموضوع" ( كامو , الإنسان المتمرد , ص 6 – 8 ) , عندما تنتصر الدوغما و تقضي على الشك و أي مظهر آخر للنقد , لا بد من ضحايا , لا تستمر الدوغما دون ضحايا , فمظهر الحقيقة المطلقة يرفض أي وجود للآخر , مجرد هذا الوجود تحد لإطلاق و طغيان تلك "الحقيقة" , اليوم , كما في الأمس , ما يصم آذاننا هو الدعوة لقتل الآخر ببراءة يحسد عليها القاتل , ما زال بمقدور بعض الهراطقة على الرغم من ذلك أن يتساءلوا بشغب : من هم الأمريكان أو الأصوليون ليمتلكوا الحق بقتل الآخر أو إلغائه , بل لنكن أكثر وضوحا , من هو هذا الإنسان , على وجه هذه الأرض , الذي يتجاسر على أن ينسب لنفسه , عدا عن امتلاكه السلاح اللازم لقتل الآخرين , الحق ليحكم على أي إنسان , بالموت أو حتى بمجرد "مصادرة حريته كإنسان" لمجرد أنه مختلف , لكن كأناركي أريد هنا أن أستمر بتمييز عنف إلغاء الآخر عن العنف الذي يصاحب ثورات الأغلبية على طغيان أقلية ما , فعنف إلغاء الآخر , كالحروب الطائفية و الدينية و الحرب على الإرهاب و غير ذلك , كل هذا عبارة عن عملية تطهر باستخدام دماء الآخر , عن طريق إلغائه على درجة القتل , عن طريق كراهيته و لعنه , عبارة عن التقرب لآلهة ما , لسادة ما , بقرابين من دم و لحم و حرية الآخر , أما ثورة الأغلبية في سبيل حريتهم ضد طغيان أقلية ما , فهو ليس إلغاءا لهذه الأقلية بقدر ما هو إلغاء لطغيانها , إنه فعل تطهر يجري مع الآخرين و ليس ضدهم , مع الآخر و ليس ضده , بصفته البشرية المحضة , هو فعل يثبت حريته لا يلغيها , إنه عنف يريد أن يقر أخيرا حرية الاختلاف و حرية النقد لا أن يقرر مطلقا جديدا بعد آخر و سجنا جديدا بعد آخر , هذا هو التعريف الفعلي للأناركية , مجتمع , عالم لا يملك فيه أي كان الحق في إلغاء الآخر أو سلبه حريته , عالم يرسم فيه الجميع تفاصيل حياتهم على قدر المساواة , يعيشون على قدر المساواة , أحرارا , جميعا دون أن يكون لأي منهم القدرة على اغتصاب حرية أو عمل أو حياة الآخرين
الجمل- مازن كم الماز
إضافة تعليق جديد