سميح القاسم: ليس لدينا قواعد صاروخية بل قصائد صاروخية
سميح القاسم، ابن الرامة التي لم يغادرها، إلا للقاءات شعرية في أرجاء الوطن العربي، واحد من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، بنى رصيداً كبيراً خلال السنين الطويلة التي كتب فيها شعراً يتوزع على هموم الحياة بأسرها، من هنا رفضه في أن يفصل ما بين باب وباب في الشعر، إذ أنه يكتب نفسه أولاً وأخيراً.
هنا لقاء معه، جرى مؤخراً في عمان (الأردن) خلال مشاركته في «أيام عمان الشعرية»، الذي دار، الحديث، حول جملة من الموضوعات الشعرية والثقافية والسياسية.
÷ سميح القاسم، بعد أكثر من خمسين كتاباً وبعد أكثر من خمسين سنة من التفكير بالقصيدة وكتابتها إلى أين وصلت بالشعر أو لنقل إلى أين أوصلك؟ وهل وجدت تعريفاً ما لكلّ ما فعلته في هذه الحياة عبر الكتابة؟
ـ حين أشعر بدنو أجلي، بدون شك سأطرح مثل هذه الأسئلة على ذاتي، لكني بتكويني، بطبيعتي، بمزاجي، بوعيي، لا أخاف الموت ولا أحبه ولا أستدرجه، لكني أيضاً لا أستعجله. أما إذا جاء فلن يجد رجلاً بركبتين مرتجفتين هلعاً. لا أحبه ولا أخافه لكنني لا أستعجله. وإذا طرحت على نفسي أسئلة من طراز سؤالك هذا فسأكون مسكوناً بالرعب من القادم غير المرحب به وهو الموت. صراحة أنا لا أطرح مثل هذه الأسئلة وأكثر من ذلك قد يكون اعترافاً خطيراً: أنا لا أفكر بالقصيدة، أعيشها، أضعها على الورق، أقرأها، وتبلغ العلاقة بيني وبين قصيدتي الأخيرة عادة حالة تشبه الجماع والنشوة الكبرى. أو لنقل النيرفانا بالنسبة إلى الطهوريين من البشر. ولا أسأل ماذا فعلت بها أو ماذا فعلت بي، أعيشها وحسب. لكن من ردود الأفعال الخارجة عن نطاقي وعن حدودي، ردود أفعال النقاد مثلاً، ردود أفعال الجمهور، جمهور الشعر. بهذا المعنى أستطيع أن أموت قرير العين لأن هذه القصيدة كما يبدو تحولت إلى طاقة واسعة الانتشار يتفاعل معها قارئ الشعر العربي أو الأجنبي في حال ترجمتها وأكثر من ذلك. قرأت في عدة مدن أجنبية وكنت أفاجأ بالجمهور يطلب إضافة إلى القصائد المترجمة أن أقرأ بالعربية، فقط بالعربية التي لا يفهمها. ودائماً أجد متعة استثنائية في التفاعل بين القصيدة وبين جمهور يحسها ولا يفهمها.
÷ بهذا المعنى هل تحولت القصيدة إلى حياة في مشروع الحياة عندك؟
ـ نعم، ولهذا السبب أنا أحترم رأي ناقد عربي وصف قصيدتي بأنها قصيدة حياة. ليست قصيدة سياسية أو وطنية أو قصيدة حب أو قصيدة جسد أو قصيدة روح بل إنها قصيدة حياة بكل معنى الكلمة.
نقّاد المئة دولار
÷ من هنا وتعقيباً على قول الناقد ألا تعتقد أن النقد العربي قصر حين وضع الشعر في خانات ما. إذا أردنا أن نتحدث عن الحياة، فالحياة تتضمن كل ذلك. صحيح أننا نقول بوجود باب الوصف وباب الحماسة الخ، لكن كل تلك الأمور تشكل وحدة متكاملة؟
ـ نعم، لكن اسمح لي قبل كل شيء أن أعبر عن اعتزازي بعدد من النقاد العرب الكبار الذين كتبوا عن قصيدتي من داخلها واستطاعوا أن يضيفوا إلى القارئ عدة مفاتيح لم تكن واضحة. لكن ما يدهشني حقاً هو بعض النقاد الأجانب الذين كتبوا ما كنت أتمنى أن يكتبه نقاد عرب. مثلاً أن تأتي باحثة أميركية وتكتب دراسة ضخمة حول تحديث الجناس في قصيدة سميح القاسم، أعتقد أن هذا يدل على اهتمام استثنائي وعلى تعمق وعلى دراسة ودراية. كنت أتمنى أن يهتم بهذه المسائل نقاد عرب...
÷ ولكن هذا الأمر يدل أيضاً على تقصير النقاد العرب أو على الأقل عدم المواكبة الثقافية والنقدية.
ـ أخي النقاد العرب كما أقول دائماً نوعان: هناك نقاد شعر وهناك نقاد المئة دولار. نقاد الشعر هم قلّة بالطبع، لكنهم موجودون ومحترمون وعلى مستوى عالمي وأرجو إعفائي من إعطاء أسماء حتى لا أظلم أحداً. لكن بتعبير بسيط، من إحسان عباس حتى عبد الواحد لؤلؤة مثلاً هناك أسماء راقية جداً في النقد العربي وعلى مستوى أكاديمي وعلمي وثقافي عالمي لا أستخف بأثرهم، لكن يؤلمني محدودية مساحتهم ونفوذهم في ما يسمى الساحة الثقافية. الصوت الأعلى الآن هو ما يسمى نقاد الصحافة وبعضهم نقاد المئة دولار. نحن اليوم بمئة دولار نستطيع أن نشتري لقب متنبي أو شوقي أو بودلير أو ما تشاء، بالثمن المدفوع. هؤلاء معرفون.
÷ أنت تشير إلى أمر خطير في الحياة الثقافية العربية...
ـ طبعاً
÷ برأيك لماذا وصلت الحياة الثقافية العربية إلى هذا الدرك؟
ـ أولاً أنا أشير بالطبع إلى حالة خطيرة وأفضل أن لا أشير إلا إلى الحالات الخطيرة لأن حياتنا كأمة وكشعب وكوطن موجودة في دائرة الخطر وأزعم دائماً أن الخندق الثقافي هو آخر معقل للعرب وإذا سقط هذا الخندق فسيصبح العرب مجرد قطعان من المستهلكين لبضائع أجنبية بدون عمود فقري إنساني وثقافي وحضاري وبدون وجود مؤثر على الخريطة البشرية. من هنا قلقي على الخندق الثقافي ومن هنا غضبي على ظواهر الارتزاق والعمالة والتزلف والتساقط الذبابي على قطعة نقد وضيعة. لكن لا يجوز فصل الواقع الثقافي أيضاً عن الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري وبهذا المعنى نحن في حالة تردٍّ عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبطبيعة الحال هذا التردي ينعكس على الحالة الثقافية.
÷ إزاء هذا التردي الذي أصبح واقعاً، السؤال الذي يجب أن نسأله اليوم ماذا تستطيع الثقافة أن تقوم به في ظل هذا التهميش وبخاصة من قبل النظام العسكري السياسي والنظام الديني. شئنا أم أبينا تتعرض الثقافة اليوم إلى حالة إقصاء وإخصاء فعلية. هل يمكن بعد كعرب أن نلعب دوراً ثقافياً ما؟ هل من الممكن أن تلعب الثقافة الدور في حياتنا؟
ـ قطعاً وبدون تردد، أريد التنبيه إلى أن جبروت الاستبدادية والعسكريتارية والمخابراتية في الحياة العربية والقمع الثقافي لا يتم عفواً وبصورة ارتجالية. هناك إحساس لدى السياسي وفي الوعي السياسي الرسمي بأن الخطر الأكبر يأتي من الجانب الثقافي، لا من المجال الاقتصادي ولا العسكري. ليست لدي قواعد صاروخية سرّية لكن لدي قصائد صاروخية وفتاكة. نعم تستطيع قصيدتي أن تكون فتاكة لذلك فإن المعسكر السياسي، العبثي في رأيي والمناقض لسنة الحياة، يفقد صوابه إزاء الثقافة ويحاربها ويحاول قمعها ويحاول تدجينها وهنا الخطر الأكبر: التدجين، شراء المثقفين، تحويل المثقفين إلى أقنان وإلى حيوانات أليفة في حظائر السياسة والمال وهذا يحدث على امتداد الوطن العربي. هناك أسماء تبدو كبيرة ولكنها في جوهرها صغيرة جداً، لأنها قبلت أدوار الخصيان في قصور المؤسسة السياسية والقصور بالمناسبة ليست وقفاً على النظام الملكي. جمهورياتنا لديها أيضاً قصورها، لذلك يبقى الخندق الثقافي هو الأمل الأخير...
÷ تقصد أننا «محكومون بالأمل»...؟
ـ لا لسنا محكومين بالأمل، أنا لا يحكمني الأمل. أنا أبدع هذا الأمل أنا أخلق هذا الأمل لأنه أملي الأخير. بدون أمل نفقد مبرر وجودنا كبشر كأفراد. أنا كفرد، كمواطن عربي، في وطن عربي افتراضي، يحكمه العرب افتراضياً، في كينونة افتراضية، الكينونة العربية الآن هي افتراضية غير حقيقية، وهمية بالمطلق، وبشكل فاجع جداً. وليس من قبيل الغرور، إذ أرفض أن أتهم بالغرور وبالكبرياء وبالعجرفة والعنجهية، أرفض هذه التهم سلفاً لأنها تهم باطلة، بل من منطلق المسؤولية الإنسانية، المسؤولية الشخصية تجاه نفسي. أنا لا أريد بقصيدتي أن أحرر الأمة العربية بل أريد أن أحرر ذاتي. لا أريد أن أحرر الوطن العربي الكبير أريد أن أحمي منزلي وحديقته ومقبرة أجدادي وبقعة الأرض التي سأدفن فيها والتي تغيرت ثلاث مرات لأسباب شتى. هذا هو دور الثقافة، هذا هو دور القصيدة. برأيي يبقى دور الشاعر أكبر من دور الجنرال هذه هي وجهة نظري.
اسمح لي بعبارة، لا أريد اختراع هالة مسيحية حول رأسي كأنني المخلص الأخير والوحيد والمصلوب فداء للأمة، كلا، هناك عناصر كثيرة، عناصر ثقافية على امتداد الوطن العربي، هناك مثقفون أحياء، شجعان، نظيفون، مبدعون، والعنصر الغائب هو لقاء هؤلاء.
ليست كماليات
÷ بالتأكيد، لكن السؤال، كيف يمكن اليوم تحويل هذه الثقافة «الافتراضية» كما أسميتها، إلى ثقافة «كونكريتية»، محسوسة ومجسدة. تستطيع فعلاً أن تستعيد دورها في المجتمع بشكل عام؟ ننظر إلى الثقافة اليوم وكأنها من كماليات الأمور؟
ـ أبداً، ليست من كماليات الأمور. الثقافة الافتراضية هي من كماليات الأمور، أما الثقافة الحقيقية، الحية فليست من الكماليات...
÷ لكنها تفقد دورها وحضورها...
ـ لا، لها حضورها ومساحتها، أنا أتجول في الوطن العربي وكما يقول الإعلاميون هناك، أمسياتي الشعرية في الوطن العربي أكبر أمسيات في العالم. وهذا الجندي أو العامل أو المثقف الذي يقطع مئات الكيلومترات الذي يأتي ليسمعني، لا يفعل ذلك سعياً وراء المتعة فقط، هناك تكافل حضاري قوي ومتين وفاعل. الإنسان العربي في عمقه طاقة إنسانية هائلة مقموعة إلى حين. القمع هو الافتراضي في الوجود المطلق، صحيح أنه الحقيقي في الواقع الملموس، لكنه افتراضي في المستقبل، لن يدوم، لن يستقر، لن ينتصر. أقولها مكرراً ما حدث لي حين ودعت منظمة التحرير تونس في طريق العودة إلى فلسطين. قلت ستقوم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الآن أو غداً أو بعد غد، لكنها ستقوم. فقال لي أحدهم هذا كلام شعراء، هذا خيال شعراء، وأجبت على الفور من على المنصة، ليس هناك على الأرض ما هو أكثر واقعية من خيال الشعراء. الحالة الافتراضية هي العابرة وهي الزائلة ويبقى في المحصلة واقع الروح.
÷يقودنا هذا الجواب إلى السؤال عن الوضع الفلسطيني الراهن. سميح القاسم المقيم في الأرض المحتلة كيف ينظر إلى ما يحدث في فلسطين.
ـ أولاً أنا مقيم في وطني. وسأحاول الإقامة في وطني حتى يومي الأخير. وسأهتم في أن يقيم جثماني من بعدي وترابي ورمادي في هذا الوطن. وسأحاول أن يقيم أبنائي وأحفادي في هذا الوطن، لأنه وطن جميل يستحق التضحية وجدير بأن نكون مواطنيه ونحن جديرون بأن نكون مواطنيه. أما الحالة الفلسطينية، فأنا طبعاً لا أضيف حين أقول إنها حالة بائسة وتعيسة وساقطة ومنحطة وبعيدة عن أي احترام وبعيدة عن أي مسؤولية وعن أي شعور بالمسؤولية. وهي حالة إما أن تلغي الطموح الفلسطيني إلى الحرية والاستقلال، وإما أن يتصدى لها الشعب. المعادلة ليست حماس وفتح فقط، هناك شعب، والشعب أكبر من حماس وأكبر من فتح. هناك شعب بأكمله يضع نفسه في خانة الفلسطيني. لا يعقل أن يحسم أمر هؤلاء بالصراع بين قبيلتين عربيتين. حالة الجاهلية الجديدة ليست وقفاً على الوطن العربي الكبير، هي تشملنا نحن أيضا، لدينا حالة الجاهلية الجديدة، الموجودة بين الفلسطينيين. من قال إن الفلسطيني من طينة مختلفة. هو من طينة عربية معروفة ومألوفة.
÷ وكيف الخروج من جاهليتنا الجديدة برأيك؟
ـ بالدعوة والتبشير والكفاح وبوعي آيتين كريمتين من القرآن الكريم ـ وأنا لست متديناً ـ بل علماني، مؤمن بالله. وعكس العلمانية هو الجهلانية وليس الإيمان. هناك لعبة وسخة تحاول تصوير العلمانيين بأنهم كفرة ملحدون وأن عكس العلمانية هو الإيمان. عكس العلمانية هو الجهلانية. أنا مؤمن بالله تعالى وبأنبيائه ورسله وصديقيه، وهذه حقيقة لا جدال عليها. هناك آيتان: «ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، إذاً الله يضع علينا مسؤولية التغيير ويرفض الاتكالية. يجب فهم هذه الآية بصورة جدية ومحترمة وعميقة وعدم تعليق كل عيوبنا على مشجب الله سبحانه وتعالى. ثانيا: «وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون...» اعملوا ولم يقل تكلموا. والعمل مسألة ملموسة، واقعية، مجسدة. العمل ليس نظرية. إذاً بإدراك المسؤولية، مسؤولية التغيير الذاتي، وقد وضعها الله على البشر لا عليه، وبالعمل، ليس الأمر مستحيلاً. العبثية هي في تزوير أقوال الله وأقوال أنبيائه ورسله. هناك عملية تزوير بشعة ورهيبة تكتسح حياتنا ولذلك يجب إعادة الأمور إلى نصابها. والاعتراف بالمسؤولية.
القصيدة
÷ قارئ شعرك لا بد أن يلاحظ سمة أجدها حاضرة كثيراً وهي هذا المزج ما بين لحظة ميتافيزيقية من جهة وبين تفاصيل الحياة اليومية من جهة ثانية. برأيك كيف تفسر هذا المشروع الشعري إذا جاز التعبير؟ هذا المزج بين أمرين يبدوان مستحيلين للوهلة الأولى؟
ـ أذكر ربما من ثلاثين عاماً، أحد النقاد استهجن أن أستعمل ألفاظاً من مثل تكنولوجيا وتلفون وطوربين في قصائدي، واستهجن آخرون أن أستعمل كلمات من مثل «أوكي»، كجزء من القصيدة وأن أدخل ألفاظاً عبرية وفرنسية وإنكليزية وروسية... وكان ردي بسيطاً، هذا الرجل الذي استنكر عليّ، في حياته اليومية يتوضأ استعداداً للصلاة وينظر في ساعة سويسرية للتأكد من وقت الصلاة. الساعة السويسرية والتلفزيون والوضوء وآيات الذكر الحكيم ورنين أجراس الكنيسة والميكروويف في المطبخ، هي متداخلة. وإذا كنت شاعر حياة أو بعبارة أقصر إذا كنت شاعراً حقيقياً فلا يجوز الانتقائية. لا يحق لي وكرامتي الشعرية لا تقبل بانتقائية: قصيدة للدين، قصيدة للوطن، قصيدة للمرأة، للشجرة، لا... قصيدتي تعبر عني ببساطة لا تعبر عن الأمة ولا عن الشعب ولا عن الوطن ولا عن الثورة، كل من يقول لك إني أكتب للشعب والثورة والأمة لا تصدقه، فهو دجال. أنا أكتب لذاتي أولا وقبل أي شيء، حتى أتوازن مع نفسي ومع الكون. حتى أستطيع السير في الشارع بشكل منتظم، حتى أجن أو أنتحر أو أكتب قصيدة. أصعب الخيارات.
÷ كتابة القصيدة...
ـ لأني من برج الثور، عنيد.
÷هذا الخيار فرض عليك أيضاً، فيما لو نظرنا إلى الأسلوب الشعري إذا جاز القول، لوجدنا أن القصيدة مركبة أحيانا بطريقة كبيرة، وأحياناً، لا، إذ تذهب أكثر إلى المباشرة. لماذا أيضاً هذان الخياران؟
ـ هذا ليس خياراً. هو حالة تعبر عن ذاتها بعفوية كاملة. بالمناسبة، فيما يتعلق بمسألة المباشرة وهي أحياناً سيئة.
÷ لا أستعملها بهذا المعنى؟
ـ لكن المباشرة القادمة مع أدوات فنيّة استثنائية هي الاختبار للشاعر. قصيدة عن الانتفاضة أو عن لبنان أو عن بغداد، بموضوع واضح وحاد، لا يحتمل الغموض أو التأويل... هذه الحالة لا يعبر عنها بعبارات غامضة غير مفهومة، قابلة للتأويل إلا إذا كان لدي موقف سياسي معارض. لذلك الحالة هي التي تفرض الشكل والتي تفرض الصورة والإيقاع. لا يعقل أن أطالب بقصيدة مهموسة عن الانتفاضة، عن مظاهرات شاركت فيها بجسدي. في أي حال، إذا توفرت الشروط الفنية للقصيدة تبقى القصيدة وإذا لم تتوفر تذهب.
÷ في قراءاتك العديدة والمتعددة، كيف تجد تفاعل الجمهور مع هذه القصائد المركبة؟ هل أن ذائقتنا تستوعب قصائد بحاجة إلى تفكير؟ أقصد سماعاً في الأمسيات؟
ـ لدينا وعي خاطئ في الإعلام العربي، بمسألة الجمهور والإبداع. هناك انطباع وكأن المبدع في برج سماوي شاهق، والجمهور في حضيض الكرة الأرضية. هذه صورة خاطئة جمهور الشعر وبالذات جمهور الشعر العربي، في خلفيته الطويلة والعميقة في تاريخ الشعر، هذا الجمهور من أذكى الجماهير وأخطرها. قرأت في كل أنحاء العالم، الجمهور العربي جمهور خطير جداً قد يكون المستمع أميّاً لا يقرأ ولا يكتب لكنه ناقد خطير يحس القصيدة ويميز بين الصادق والدجال، بين القوي والركيك، بين الأصيل والمفتعل. الجمهور أخطر ناقد عربي. هناك علاقة متميزة وحقيقية بيني وبين الجمهور العربي. في كل مكان. لذلك هذه الألفة بيني وبين الجمهور سمحت لي أكثر من مرة أن أجري هذا الاختبار، لي وللجمهور. قرأت مرة في تونس «سربية»، (وهي التي كانوا يطلقون عليها المطولة الشعرية، وهي ليست مطولة، هي طويلة وليست مطولة بشكل متعمد)، قرأت هناك سربية «أشد من الماء حزناً»، وهي عمل مركب أيضاً، ويبدو صعباً على الجمهور، فاكتشفت أن هذا الجمهور استوعبني، امتصني جسدياً، وكانت من أجمل أمسياتي في تونس وفي غير تونس.
÷سؤال أخير، متى ستقرأ في بيروت وماذا تعني لك هذه المدينة؟
ـ بدون فلسفة وبدون استعراضات، مسألة يعرفها كل الناس. بيروت مدينتي وهي أختي، أخت حيفا وأخت القدس. هي إحدى مدني. ولمدينتي هذه التي اسمها بيروت حضور خاص في وعيي الثقافي والإنساني والسياسي أيضاً. أرى فيها فرساً عربية أصيلة لا تقبل بأن يمتطيها أي فارس. هي مدينة حرية، مدينة كرامة، ومدينة عروبة بتميز وبامتياز. يرضيك هذا الكلام أو لا يرضيك، صدّق لا يعنيني. أنا أقول ما أحسه. بيروت بمناخها الحر نسبياً لا بأس. في كل مكان الأمور هي نســبية. في واشــنطن هي نسبية. وفي باريس. لكن كأنمــا بيــروت الصورة المستــفزة للمستقبل.
إنها صورة المستقبل العربي الذي أريده. صورة تستفز الحاضر. بدور النشر، بالصحف، بالتعددية، بالهامش الديموقراطي الرحب. بعنفوان هذا الشعب الصغير والمدهش. بتعدديته الساحرة. والتعددية نعمة نحن من نحولها إلى نقمة. هي هبة الله للبنان، ليس الأرز أولاً، بل التعددية أولاً. بيروت مدينة أعتقد إني أحبها كما لم يحبها أحد. ويزيد من حزني، ومن حبي أيضا، أن جنرالاً إسرائيلياً قرر منعي من دخول بيروت. يخيرني إما أن أذهب إلى بيروت من دون عودة أو أن أبقى في الرامة. ومع حبي الكبير لبيروت ولغيرها من المدن، وغير القابل للمساءلة والمجادلة، القرار الأخير أن أبقى في الرامة.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد