دير مار موسى الحبشي: رسالة للتعايش
في مكان، خارج حدود الزمن وبعيدا عن عقارب الساعة، حيث يصبح الوقت هو آخر ما تفكر به ،وتصبح التفاصيل أكثر شيء تشعر به، هناك في دير مار موسى الحبشي الموغل في قدمه والمحاط بتاريخه من كل الجهات. والمغمور بالقدم حتى التراب ستصفعك الحكايا.
بدأنا الرحلة مسيرا "مجموعة من الصحافيين ومحبي الاستكشاف" انطلقنا من مدينة النبك السورية باتجاه الشمال في بيئة شبه صحراوية مليئة بالهضاب والأودية، وعلى بعد 18 كيلو مترا من المدينة يقبع الدير وحيدا كناسك يتعبد ربه في مشهد أسطوري فريد .
بدأ المشهد من الأسفل إلى الأعلى انطلاقا من درج طويل متعرج يصل بين سفح الجبل وقمته حيث الدير ،ثلاثمائة وثمانون درجة هي ما يفصلك عن المدخل، المشهد من الأعلى كان مختلفا بما فيه الكفاية ليجعلك تشعر بمئات السنوات تمضي من حولك، والمكان أيضا بدا مختلفا، بدت البساطة هي أكثر العناصر توافرا وروح المحبة أيضا.. ولدى الدخول من بوابة الدير التي لا يتجاوز ارتفاعها المئة سنتيمتر تنحني لتصل إلى عمق المكان، فيستقبلك أحدهم بالماء البارد بعد مشقة الصعود ثم يأتي قدح من الشاي الساخن .. كل شيء بدائي وممتع، حتى الوجوه بدت مألوفة رغم اختلاف الجنسيات .
- حسب الرواية التقليدية فإنه من المعروف أن القديس موسى هو ابن ملك الحبشة الذي ترك الحبشة وذهب إلى مصر حيث عاش هناك فترة من الزمن، بعدها انتقل إلى فلسطين لزيارة قبر السيد المسيح ومن فلسطين قدم إلى دير قارة في سورية ومنه جاء إلى هذا المكان، الدير كان معبدا لإله الشمس ثم تحول في القرن الثالث الميلادي إلى حصن روماني، وليس معروفا بالضبط متى جاء القديس موسى إلى الدير لكنه بقي فيه مع مجموعة من تلامذته حتى قتل في القرن السابع الميلادي على يد جنود الإمبراطور هرقل.
بعد وفاة القديس موسى استمر تلاميذه في حياة التأمل والتفكر في الدير حتى العام 1831 لينتقل بعدها الدير من طائفة السريان الارثوزوكس إلى طائفة السريان الكاثوليك، وهجر الدير بعد ذلك وبقي مهجورا حتى العام 1982 تعرض خلالها إلى السرقة والتخريب بفعل رعاة الغنم والماعز كما تعرض إلى حريق ضخم أتى على بعض معالمه، وفي العام 1982 أتى الأب (بولوص) وهو راهب ايطالي يسوعي من روما حيث طلب الإقامة في الدير لمدة عشرة أيام من أجل خلوة روحية، لكن باولو المستشرق الشاب لم يكتفي بأيامه العشرة في الدير فقام بتنظيم عملية لترميم الدير في صيف العام 1984، كثر هم الذين تطوعوا مع باولو لإنجاز عملية الترميم التي انتهت في صيف العام 1991 حيث أعاد الأب باولو(بولوص) الحياة الرهبانية إلى هذا القفر بالتعاون مع الشماس الحلبي يعقوب مراد.
- أثناء تجوالنا في كنيسة الدير التي تعج برسومات جداريه مرت عليها مئات السنين التقينا الراهب بطرس عبّو وهو الراهب القائم على الدير، الراهب عبّو حدثنا عن الكنيسة قائلا: هذه الكنيسة تمتلك أهمية خاصة وهذه الأهمية نابعة من كونها تعتبر من أقدم الكنائس في المنطقة، بالإضافة إلى احتوائها على ثلاث طبقات من الرسوم الجدارية تعود إلى ثلاث حقبات مختلفة، الكنيسة عمرها ألف عام وفوق المحراب مكتوب تاريخ بناء الكنيسة والنص هو : (بسم الله الرحمن الرحيم تم بناء الكنيسة على عهد توما النبكي ابن الأسد وحارة الأسد ) وهنا كان لا بد من مقاطعة الراهب بطرس لسؤاله عن دلالة هذه العبارة فأجاب: إن عبارة بسم الله الرحمن الرحيم بحسب الدراسات هي مستخدمة قبل الإسلام وثمة هنالك مخطوطات عمرها أقدم من عمر الكنيسة مذكور فيها عبارة بسم الله الرحمن الرحيم وهي الترجمة الحرفية من السريانية إلى العربية وهذه العبارة تعتبر افتتاحية دينية لجميع الأديان والطوائف .
يكمل الراهب حديثه عن اللوحات الجدارية فيقول : أقدم طبقة من اللوحات الجدارية تعود إلى العام 1058 وهي تجسد مار إلياس الحي، وهنالك طبقات أخرى تعود إلى العام 1088 وإلى العام 1200 ميلادي ومنها لوحة الدينونة (يوم القيامة) التي تحتل جدارا كاملا في صدر الكنيسة وهي الأكثر وضوحا وسلامة، بالإضافة إلى الرواق الجنوبي وهي لوحة تمثل تقدمة المسيح إلى الهيكل.
اللوحات جميعها فن بيزنطي وسرياني ولكن كان لافتا في إحدى اللوحات كتابة عربية بحروف سريانية في أسفلها وحين طلبنا من الراهب بطرس قراءة ما كتب كان الآتي: خلص المصور يوم الأحد من رأس تموز سنة خير ثمانون وأربعمائة هجري.
في زاوية أخرى من الكنيسة كانت الآلات الموسيقية من الأمور التي تستدعي التساؤل فقد ركنت على الجدران أعواد وكمنجات وغيتارات وكانت الإجابة على هذا التساؤل بأن لكل شخص الحرية الكاملة بالتعبير عن صلاته من خلال الفن الذي يجيده.
الراهب بطرس أخبرنا أنه بإمكان أي شخص أن يقضي الفترة التي يرغبها في الدير فالدير يقدم مكانا لإقامة الزوار حيث يلتزمون بقوانين الدير وتقاليده، فهنالك أوقات للنوم والاستيقاظ وأوقات للصلاة والأعمال اليدوية التي تهدف إلى نشر روح التعاون والمشاركة.
- دعوات الدير هي دعوات إلى الصلاة والتأمل والرياضة الروحية بالإضافة إلى الضيافة الإبراهيمية وهي احدى أهم رسائل الدير. "فجميع الناس هم أولاد ابراهيم عليه السلام ولذلك فإن أبواب الدير مفتوحة للجميع دون استثناء أو اعتبار لطائفة أودين"، والدير يؤمن للزائر الإطعام المجاني طوال فترة إقامته، يعتمد الدير في ذلك على التبرعات التي يقدمها الزوار المقتدرون، أما الزوار الذين لا يستطيعون تقدمة الأموال فهم يساهمون في الأعمال والنشاطات التي يقوم بها الرهبان والمقيمون الدائمون.
وهنالك مصدر مادي آخر للدير بحسب ما أخبرنا الراهب (عبو) وهو المبالغ التي تقدم من الهيئات الدولية والبعثات الإيطالية والفاتيكان.
الدير يتسع ل 200 شخص مقيم، ويؤمه أعداد متفاوتة من الزوار وفي فترة الاعتدال المناخي يصل عدد الزوار في يوم الجمعة إلى 1000 شخص بين زائر ومصلي وسائح، واللافت أن معظمهم من الأوروبيين، ويأتي الزوار السوريون في المرتبة الثانية أما العرب من غير السوريين فمن النادر أن تلتقي بأحدهم هناك، إحدى الإحصائيات التي أجراها الدير في عام سابق كشفت عن استهلاك عشرين ألف كأس بلاستيك وهي كؤوس الماء التي تقدم للزوار لدى دخولهم من بوابة الدير ، والعدد يزداد عاما بعد عام.
/ زراعة ومعمل للأجبان والألبان في الدير/
الأب ميشيل طعمة الذي الذي التقيناه أثناء تجوالنا حدثنا عن اعتماد الدير على ما هو موجود فيه من موارد حيث أخبرنا عن وجود معمل للأجبان والألبان تأتي مواده من الحيوانات التي يربيها القائمون على الدير في جبل قريب، قمنا بزيارة إلى معمل الجبن الذي يقع بجانب أماكن سكن الرهبان والزوار المقيمين وكانت هنالك منتجات حيوانية متعددة كالجبن واللبن الرائب وبعض المنتجات الأخرى الرائجة في سورية كالقريشة " وهي تصنع من اللبن بطريقة التعفن" .
والمواد تأتي من مكان تربية الحيوانات عن طريق (تلفريك) يدوي قديم يستخدم لنقل الأغراض فقط، كما يوجد (تلفريك) آخر يصل بين الدير وسفح الجبل حيث الطريق الذي يصله بالمدينة القريبة تنقل بواستطته الأشياء الثقيلة إلى الدير، وهنالك أيضا مزرعة قريبة من الدير تزرع فيها الأشجار المثمرة والمواد الزراعية التي يحتاجها .
الأب ميشيل أخبرنا أن ثقافة الدير هي ثقافة العمل اليدوي والتعاون ، فنحن نستقبل ضيوفنا ونطعمهم لكننا لسنا فندقا، فالضيف يجب أن يعمل حتى يشعر بقيمة هذا العمل.
من الأمور اللافتة أيضا وجود عدد من الرهبان من جنسيات أوروبية يقيمون في الدير، حيث التقينا منهم الراهبة ديانا وهي فرنسية، ديانا أخبرتنا أنها تنوي البقاء في الدير بشكل دائم وهي قد سمعت عنه من كتب سياحية وتاريخية ثم تعرفت على الأب باولو(بولص) في فرنسا، ديانا اعتبرت أن الحياة في الدير لها نكهة خاصة والتعايش الحاصل بين المسلمين والمسيحيين هو أمر جيد وتجربة يجب العمل على تعميمها.
- كانت مفاجأة من العيار الثقيل أن ندخل إلى مكتبة الدير التي تضم آلاف الكتب من مختلف الاتجاهات الفكرية ، وهي مقسمة ومفهرسة بشكل يجعلك تختار العنوان ولا تلاقي أية صعوبة في إيجاده، المفاجأة ليست هنا إنما كانت في وجود أجهزة كمبيوتر متصلة بالانترنت وهي الأجهزة التي يستخدمها الرهبان للتواصل مع العالم ونشر رسالتهم الحضارية.
- الأب ميشيل أخبرنا أن الدير ينظم ندوات حوارية بين رجال دين مسلمين ومسيحيين وبين أشخاص علمانيين. وهدف هذه الندوات هو التواصل الدائم بين الأديان والثقافات، ثم تطورت الفكرة لإنشاء قسم خاص من دير الراهبات يحوي على قاعات واسعة لكي تضم هذه الندوات الثقافية والدينية والأمسيات الموسيقية التي تقام بشكل دائم. ودير الراهبات هو دير يقع على مقربة من دير مار موسى في جبل مقابل له ويصل بينهما جسر يطل على جرف صخري عميق.
كانت هنالك فكرة لإنشاء جامع لصلاة المسلمين على مقربة من الدير لكن الفكرة توقفت بشكل مؤقت بسبب معارضة بعض من سكان مدينة النبك للمشروع .
- رسالة دير مار موسى هي رسالة تعايشية ودعوة إلى تعميق الحوار الديني والاجتماعي بين جميع الناس من مختلف الأديا والطوائف، وإن كانت هذه الرسالة لا تخلو"بحسب ما صرح به الأب ميشيل" من دعوة تبشيرية للدين المسيحي وحيث أن الدير يحترم بشكل كبير خصوصية الدين الإسلامي فهو لا يعتبر أن الرسالة التبشيرية هي الرسالة الأساسية له ولم تكن هذه الرسالة يوما موجهة لاستقطاب المسلمين، ولكن هنالك الكثير من الأشخاص "وخاصة الأوروبيين" الذين لا دين لهم وهم قد يصلون في الدير إلى المعمودية، وهذا لا يتم بشكل اعتباطي بحسب ما قاله الأب ميشيل إنما بطريقة مدروسة وتحت إشراف مباشر من الكهنة والآباء.
وهنالك حكاية عن شاب مسلم من الجزائر قدم إلى الدير بقصد الانخراط في الدين المسيحي، فما كان من الأب باولو إلا أن عمل إلى إعادته إلى دينه الإسلامي شارحا له روح الإسلام وحقيقته، فعاد الشاب إلى بلده مقتنعا ومبشرا بدينه.
حكاية مثيرة لكم لا ينتهي من التساؤلات والتأملات هي حكاية دير مار موسى البعيد عن المعمورة والغارق بتاريخه حتى أصغر حبة تراب فيه، لدى مغادرته تتملكك رغبة بالعودة إليه وقضاء بضعة أيام حيث السكينة والهدوء هي كا ما يطرق بابك في إحدى الغرف المخصصة للزوار.
مكان تستطيع فيه أن تعود إلى ذاتك بعيدا عن صخب الحياة ومشكلات المدينة، وضغوط الحياة.
عاصم جمول
المصدر: سيريا بريس
إضافة تعليق جديد