تفسير النص المقدس كمعادل للإيديولوجيا
مع التفسير الذي هو عملية استنطاق بشري للنص الالهي، يُستهل السفر الايديولوجي. وعند هذا المنعطف يروح المفسِّر يلقي أظلّته القدسية على كلامه الخاص. انه يواصل مهمته من دون رقيب. بل هو في الغالب من يتولى مراقبة نفسه. ولأنه يتعامل مع مقدس بقصد إنتاج معارف تسدد أفهام الناس، فهو على يقين من ان ما ينتجه، هو سليل المقدس إياه. بهذا يغدو التفسير مولوداً شرعياً للمقدس. فهو إذاً، كوالده يحمل سمته، وصِفَتَه، وسلطته المعنوية. ها هنا ينتقل الدين من طور كونه نصاً ساكناً، صامتاً، ليتحول الى ظهور متحرك وحاك، وسيّال في الزمن البشري. اي انه اصبح بالتفسير وطرائق الفهم المتعدد، معرفة دينية. وهذه المعرفة هي حصيلة تفاعل بين المتكلم الديني، والنصوص الدينية. ولما كانت الشريعة صامتة، ولا تتكلم الا اذا كلّمها الناس منتظرين اجوبتها – كما يبين بعض العلماء – فإنها لا تُفهم الا اذا ادخلوها في حنايا عقولهم، وأسكنوها مطارح تفكيرهم. لكن الاسئلة التي تطرح على الشريعة ليست واحدة. فهي متعددة بتعدد مستويات السائلين، المعرفية والعلمية والاجتماعية، ولذلك فانهم يفهمون اجابات الشريعة تبعاً لتلك المستويات. فالشريعة، كما اشرنا، لا تخاطب الجميع بالطريقة نفسها، ولا تجيب عن اسئلتهم الا بقدر ما تتسع أفهامهم لأجوبتها.
وخلافاً للدين، بما هو وحي الهي، فان المعرفة الدينية مستنتج بشري. لديها جميع العلاقات والصفات البشرية. اي ان منشأ وحراك تلك المعرفة، بشري وليس وحياً. وان تطورها تدريجي، وهي تثير الخصومات، وتحتمل الظن واليقين، كما تحتاج باستمرار الى التنسيق والتنظيم والنقد. وهي ايضاً في وئام وخصام مع فنون المعرفة الأخرى. وهي كذلك على تقدم وتراجع مستمرين تاريخياً، كما تتضمن القوة والضعف، والاضطراب والصفاء، والصواب والخطأ.
جراء هذه السيرية، يبرز في ساحة المعرفة الدينية كثير من المفكرين والمجددين والاحيائيين والمصلحين، وكل منهم ينشىء معرفته بحسب نصيبه من علوم العصر ومعارفه، وايضاً من مدى اهتمامه بالمشكلات الخارجية، والقيمة التي يوليها لأركان الشريعة وأصولها المتنوعة، ثم يمضي ليقرأها على نحوه الخاص، ثم ليكسو جسدها بثوب آخر، ومادتها بصورة جديدة.
ربما لهذا ميّز العلماء بين الدين والمعرفة الدينية. وقد جرى ذلك في الغالب، على قاعدة علمية معاصرة قوامها: "ان كل نظرية ابستمولوجية واقعية تقرر التمييز بين الشيء وبين العلم بالشيء".
اما عن حدود هذا التمييز، وكيف عرَّف هؤاء نقاط الاتصال والانفصال بين الدين والمعرفة الدينية فثمة قول اضافي:
بحسب طائفة من التحديدات الابستمولوجية، يصبح الدين عبارة عن مجموعة من الاركان والأصول والفروع المنزّلة على النبي، اضافة الى سير الأولياء وسننهم. اما المعرفة الدينية، فهي فهم الناس المنهجي والمحدود للشريعة. ولهذه المعرفة كما لغيرها من المعارف في مقام التحقق، هوية اجتماعية جارية في التاريخ. ذلك انها داخلة في الزمان والمكان من خلال نشاط الأتباع والأنصار الذين اتخذوها كطريقة لفهم الشريعة، حيث يدافعون بقوة عن حياض هذا الفهم، كما لو كانوا يدافعون عن الشريعة نفسها.
وعلى النحو إياه فان المعرفة الدينية – بحسب عدد من المفكرين المسلمين المعاصرين – هي جهد انساني لفهم الشريعة، واما الشريعة الخالصة – بالنسبة الى اصحاب هذه الرؤية – فلا وجود لها إلا لدى المشرِّع الواحد الأحد.
ان هذا التمييز بين الدين وفهم الدين، سوف يفضي الى إقامة المعرفة الدينية التي ينتجها الفقهاء والدعاة، في الغالب، على صفة كونها المعادل المنطقي للايديولوجي. فإنها تستوي الى جانب الايديولوجيا على المدّعى نفسه، اي على آليات الاشتغال نفسها. وبهذا تكون الايديولوجيا بالنسبة الى النص الديني التأسيسي معرفة دينية من الدرجة الاولى. ذلك لكون مهمتها تفسير، وتأويل، وإعادة إنتاج الافهام المطلوبة للنص المؤسس. ولأنها بهذه الصفة، فقد تصل في بعض الاحيان الى اعتبار نفسها حارسة القول الالهي. انه القول المقدس والمتعالي نفسه الذي سيصبح مع الزمن قولها هي بالذات، بعدما ادّعت الاحاطة به عبر تفسيرها له تفسيراً قطعياً لا شائبة فيه.
في النتيجة، تصبح الايديولوجيا الدينية اقرب الى اعتبارها "ديناً" من الدرجة الثانية؛ بل أحياناً يجري التعامل معها كشريعة كاملة، وإن لم تظهر الى العلن بخطاب صريح. ذلك ما أسس له مفكرون، وفقهاء، ومتكلمون معاصرون وغير معاصرين، عندما حجبوا العلامات الفارقة بين الدين والفكر الديني. ولقد افلحوا في هذا بقطع النظر عن حسن النية او سوئها. اذ مثلما للدين رؤية كونية، كذلك تنطوي الايديولوجيا الدينية على الرؤية نفسها. وهو ما لاحظه عالم الانثربولوجيا المعروف "كلايفور جيرتس" عندما وصف الايديولوجيا بأنها "الخارطة الفكرية للكون"...
هكذا تكتسب الايديولوجيا الدينية، او التدين الايديولوجي، الصفات اياها. لاسيما منها ما يظهر كصفات مشتركة تتفاعل بقوة على أرض التجربة التاريخية تسري هذه الصفات على ايديولوجيات الاديان الوحيانية وغير الوحيانية على السواء. مثلما تسري على منظومات فكرية وفلسفية وجدت سبيلها الى التحقق السياسي التاريخي كالماركسية، والليبرالية والقومية وسواها. لذلك سنرى ان الايديولوجيا تقابل جملة مفاتيح معرفية يتداولها الفكر الاسلامي كمفهوم الدعوة، وعلم الكلام، وفي الفكر الديني المسيحي، كالتبشير وعلم اللاهوت، وفي الحقل الابستمولوجي كالمعرفة الدينية والفلسفة والدين.
لقد ادى غياب الحدود الفاصلة بين الدين والفكر الديني، وبالتالي بين المقدس وايديولوجية المقدس، الى جعل الثانية، اي ايديولوجية المقدس، الوعاء الذي يحتوي الاول ويؤوله وفقاً لشروطه المعرفية، وكذلك بحسب درجة فهم منتجيه وظروف حياتهم. ان هذين الاحتواء والتأويل، اديا ضمن سيرية التوظيف الى جعل الدين في مساره التاريخي، او الدين في ظهوراته الدنيوية واقعة ايديولوجية بامتياز. حتى لقد ذهب مفكرون مسلمون معاصرون الى "ان افضل تعريف للدين هو انه ايديولوجيا، وان افضل تعريف للايديولوجيا هي انها استمرار للغريزة. ونضيف: ان الايديولوجيا بهذا التعريف هي استمرار حي للأهواء والمصالح والهويات... الازمنة السياسية الحضارية هي التي ستحدو بهؤلاء الى اجراء هذه المطابقة بين الدين والايديولوجيا. وهم كانوا في ذلك كمن يؤدون مهمة كلامية ايديولوجية بلغت اقصاها من اجل ان ينتقل الدين الى فاعل في التحولات التاريخية. كانت الايديولوجيا بالنسبة الى كثرة لا حصر لها في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، بمثابة مسعى لتغيير العالم، لا لتفسيره فحسب. والقاسم المشترك بين كل انصار "ادلجة الدين"، هو اعتقادهم ان الايديولوجيا تعزز المبادىء، وتسدد الايمان، وتمنح المنتمي الى حياضها الجغرافي الارادة والاقتدار والتضحية.
لنا هنا على الاشكال، مثل بيّن في ملحمة الحداثة:
لقد كان في مسيرة ايديولوجيي القرن التاسع عشر في اوروبا ما يرفع هذا الرهان على الكاريزما الايديولوجية (حزبا كانت ام زعيما) الى مصاف الالوهة. وسنرى حينئذ كما لو ان ايديولوجيا الحراك العام قد حلت محل الدين. وبدت الصورة في احد وجوهها على النحو التالي: الفيلسوف والناس، وحتى الربانيون المتفردون متفرجون، ولكن الايديولوجي هو وحده اللاعب الذي يتولى امر الله، بل ويقف مكانه، يأمر وينهي، ويهدم ما يعتبره فساداً، ويبتني ما يظنه مدينة فاضلة. انه – على ما جاءت به الحداثة – ينتقد ويصحح، ويرسم الخطوط والمسارات ويحدد التوجهات والشعارات.
يظهر الخطاب الديني في مساره التوظيفي في اكثر المناطق المعرفية عرضة للاشتباه. فحين يتقدم هذا الخطاب ليتولى شأن الناس، يتحول الى ما يشبه المرآة. حيث يرى الناس الى صفحتها الملساء، المصقولة بعناية، ليكونوا على يقين من انهم يرون الى ذاتهم وهويتهم. بها تطمئن نفوسهم فتنبؤهم بأنهم لا ينفكون يسمعون ويرون، وبأنهم قادرون على مواجهة الاعداء المنظورين وغير المنظورين. اما الفاعل الايديولوجي، فانه لا يخطب النص الديني الا لإمداد سيادته الارضية في السياسة، والاجتماع، بعوامل القوة والتفعيل والتسديد. ليس بالضرورة أن يكون هذا الفاعل متدينا في قرارة نفسه. المهم ان يبلّغ المرسل اليه ما ينبغي فعله. لقد تأسس الفكر الفلسفي الغربي على هذا النحو من النظر الى الدين في حراكه الاجمالي واجتماعه التاريخي. وسنجد الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر في كتابه "الكينونة والزمن" يقرر بأن "فهمنا للأشياء والأشخاص ولأنفسنا، هو فهم هرمنيوطيقي (تأويلي) دائما. وانه ذاك الفهم المسبوق برؤية خاصة وبـ"بنية مسبقة".
ان تحويل الدين الى ايديولوجيا هو اليوم حقيقة راهنة، مثلما كان حقيقة تاريخية بينة في الثقافة العربية الاسلامية. لم يعد التحويل مجرد قابلية فحسب، لقد اصبح مجالا خصيبا للتوظيف في حروب المذاهب والطوائف والحضارات. كأنما يجري هذا في زمن تكثفت فيه حضورات المعنى والهوية. وفي لحظة بدا وكأنه لا مناص للعالم فيها من ايديولوجية تحمي اهله، أكانت هذه الايديولوجية محمودة او مذمومة.
محمود حيدر (*)
المصدر: النهار
(*) باحث في الفكر الفلسفي ورئيس تحرير مجلة "مدارات غربية".
إضافة تعليق جديد