فيلم رعب طويل
سعاد جروس : ليست «الغولة» أو «حمدة» وحدهما, كانتا من أبطال حكايات الرعب والفزع في طفولتنا, هناك أيضاً «أبو إيد مقطوشة» و«حمال طيزه على الطبق» وغيرهم من شخصيات الترهيب الذين عجز خيالنا الطفولي عن تصور بشاعتهم وفظاظتهم, كلما هددت الأمهات والجدات بقدوم أحدهم لاختطاف طفل عنيد وشقي يعذب أمه. تلك الأشباح الأسطورية هائلة القسوة في الخيال, تمثلت خلال الأيام القليلة الماضية في عيون الأطفال تسعى على الأرض وفي الفضاء؛ رأوهم في قانا وبنت جبيل وصريفا وصور وبعلبك والهرمل... في أرجاء لبنان, يعيثون فيها خراباً ودماراً, يمارسون بث الذعر في النفوس الصغيرة, ويختطفون أرواح الأطفال الأبرياء المحتمين بأحضان أمهاتهم.
رموز الإرهاب والرعب, خرجت من تحت سماء ليل عربي بهيم, وأغارت بهمجية على الملاجئ العارية حتى من الأمان, بعثرت الأجساد الصغيرة أشلاء ونثرتها على الشاشات, لتظهر الإنسانية الكاذبة على حقيقتها, غارقة في العار ووالغة في الدم, بعدما تركت الأشباح تمضي تحت أعينها وهي تتلمظ بطعم ضحاياها والدماء تقطر من أنيابها السامة. فبوركت الإنسانية, الطفولة قد سحقت على أقذر وجه.
بعد حفلة الرقص الماجن فوق الخراب, أوت الأشباح إلى نوم سرقته من عيون أطفال لبنان وفلسطين, لتظهر في اليوم التالي بأبهى حللها في المحافل الإسرائيلية والأميركية والدولية, فجاء «حمال طيزه على الطبق» متلبساً جسد كوندي ساحرة الدبلوماسية السوداء, ملبياً نداء «ابو إيد مقطوشة» المنتعل الاسرائيلي أولمرت, بأمر من الغولة المتقمصة الأميركي بوش, ليتم الاتفاق على خطف المزيد من أرواح الأطفال, لن يكونوا يوماً سوى الخزان الخصب لمقاومة لا تنضب, وتقرر دفنهم مع أمهاتهم وأجدادهم العجائز في خربة الشر الأكبر المتجدد. أما «حمدة» الأكثر وداعة, فظهرت بهيئة كوفي انان, دون أن يمنح لها دور مهم في هذا الجزء من فيلم الرعب الأميركي, سوى دور ممسحة تلميع البشاعة وتسويغ الجريمة. وكالمعتاد دخل ملف المجزرة إلى مكاتب «حمدة», فجرى تخريجه نظيفاً, مجرد ملفات لأخطاء غير متعمدة واردة الحدوث, مع عبارة موجهة لإسرائيل «النغة»: لا تكرري هذه الأفعال مرة ثانية, وإلا دهنت أذنيك بالزيت وأودعتك غرفة الفئران إلى جانب العرب العاربة والمعربة المحبوسين في هذه الغرفة من خمسين عاماً.
العربان الذين أكلت الفئران آذانهم وألسنتهم وعيونهم حتى أصابهم الصمم والعمى والبكم, وغدوا أجساداً نهمة تأكل مع الفئران في طبق واحد, ومن فرط طول العشرة والخبز والملح تفأرنوا, فباتوا يستميتون للدفاع عن حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. وعندما تطلب الأمر أن تسحق وحوش الإرهاب أطفال فلسطين ولبنان والعراق. لم يسمعوا أنين الصغيرة زينب المتسلل من تحت أنقاض قانا, وهي تلفظ أنفاسها مثل شعاع أخير من حياة تأفل على وقع سقوط قنابل بالأطنان.
فشلت الأم بإنقاذ زينب, لكن حدسها الأمومي قادها إلى يد صغيرة قالت: «خمنت إنها لابنتي». أمسكتها بيديها, وكان الوداع الأخير, مسدتها برفق معتذرة منها, وغصة مريرة لا تبلع, ملفوفة بأشواك الموت الصعب, غالبت دموعها قائلة: «أسلمتك للسيدة زينب لتتولاك بعنايتها, يا أمي لم استطع إنقاذك». تغيب الأم في الظلام, تنهب الأرض بساقيها المصابتين, حاملة صغيرها تحت وابل القصف الهمجي بحثاً عن جزء من جدار أو بقايا بيت مهدم, عبثاً عبثاً كان صراخها في ليل قانا الأحمر, وعبثاً كان صراخ الطفولة والأمومة في وجه السياسات القذرة؛ زينب بقيت تحت الأنقاض تنادي المسعفين: «رويدكم وانتم تسيرون فوق هذا الدمار, انتبهوا تلك الخرسانات معجونة بأجسادنا, أطفال الحي يرقدون هنا, هذه اليد يدي, وتلك ساق حسين, وهذا شعر فاطمة. رويدكم... وانتم تسحبون جثثنا وأشلاءنا, فنحن نائمون على ذعرنا... لا تنسوا وأنتم تحملوننا على سواعدكم الحانية أننا أطفالكم, لا تنسوا لعبنا تحت الأنقاض, فهي مثلنا كانت تحلم وتغني, وهي مثلنا صمتت مرعوبة من أصوات الغارات, فلا تتركوها وحيدة كما تُرك لبنان... لا تأخذوها الى الملجأ فالغول يختبئ هناك».
صوت زينب تسمعه أمها الثكلى: «أمي, قلبك لم يخطئ حين دلك على يدي, ربض فوق صدري شيء أثقل من الخوف والرعب, حجر أكبر من الصخرة التي كنا نلعب حولها في الحاكورة, وقعت عليًّ وهصرتني هصراً كما يفعل الحجر ببرعم التين. أمي, لا تحزني لأنك لم تنقذيني, إذ لم يبق مني ما يمكن إنقاذه».
صور الدماء والدمار هي صور العار العربي يمشي مختالاً بين الأنقاض, يجرجر أذيال الاستسلام مزهواً بالذل, مجللاً بالفضائح, لم يعد هناك أي حرج في إشهارها, لا بل والتفاخر بها, مما دفع سياسي عربي إلى القول: إن التخاذل العربي أمر مش غريب, لكن الغريب والخطير أن يوافق بعض العرب على العدوان الإسرائيلي, ويمنحوه تغطية شرعية أدهشت حتى أولمرت.
مضى أولمرت «أبو إيد مقطوشة» على هدي ضوء أخضر مزدوج, أميركي وعربي, وحصد بآلته العسكرية ما طاب له من بلدات لبنان وبناه التحتية والفوقية, وتوج عربدته الهمجية ببضع مجازر واحدة هنا وأخرى هناك, شكل منها باقات الجثث والدماء, زين بها جبين ديمقراطية «الغولة» الحمقاء, والداعية كوندي «حمال طيزه على الطبق», ليحملها كلاهما أوسمة من خزي وادعاء توضع على صدورهما, ومعهم هؤلاء الذين يتساءلون بخبث: لمن ستهدي المقاومة انتصارها؟!
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد