خذوا الدين بمناهج العقل والعلم
منذ ستينات القرن الماضي، افتتح محمد اركون مشروعه الفكري – الثقافي - السياسي انطلاقا من حلقة مركزية عنوانها نقد العقل الاسلامي، واصدر إنتاجا غزيرا في هذا المجال، لم تر اللغة العربية منه سوى الجزء اليسير. في كتاب حديث صدر له بعنوان "نحو نقد العقل الاسلامي"، ترجمه وقدّم له هاشم صالح، واصدرته "دار الطليعة للنشر" في بيروت، يسعى اركون الى اعادة بلورة المنطلقات الفكرية والمنهجية التي اعتمدها في ابحاثه، في ضوء التجربة العميقة وردود الفعل على ما سبق نشره، محاولا تقديم طريق مرشدة لقراءة الاسلام وكيفية النظر الى نصوصه، مستخدما بذلك ما راكمه من معارف المناهج العلمية الحديثة في الغرب.
يشدد اركون في دعوته الى قراءة كلمة "اسلام"، نصوصا وطقوسا وتشريعات، على وجوب الانطلاق من المنظور التاريخي واللغوي والاجتماعي المحض، وعلى حدود هذه الكلمة ومضامينها كما تجلت في الخطاب القرآني، مما يعني ضرورة العودة الى البيئة الجغرافية لنشأة الاسلام في الجزيرة العربية، والى الزمن الذي ظهرت فيه، في القرن السابع الميلادي، للتوصل الى فهم صحيح لكلمة "اسلام". يدفعه الى تعيين هذا المنطلق، تراكم التشوهات في قراءة الدين الاسلامي من مصادره الاسلامية عبر التاريخ الممتد منذ الدعوة حتى اليوم، وكذلك على أيدي المستشرقين الذين انتجوا تراثا ضخما حول الاسلام يحوي، في ما يحويه، الكثير من سوء الفهم والتضليل، كما يحوي بعضه قراءة موضوعية لهذا الدين.
يرى اركون "ان دراسة الظاهرة الدينية كانت قد عانت منذ القرن التاسع عشر تضاداً حاداً جداً وقاطعاً بين النظرة الوضعية الاختزالية المهملة لكل ما هو روحاني او خيالي وغير مادي، وبين النظرة الايمانية التقليدية المثالية التي لا تعترف بالابعاد التاريخية للدين ولا بالمشروطية الاجتماعية له، وانما تنظر اليه وكأنه فوق التاريخ وفوق الواقع وفوق الوجود". وهي معضلات تفرض على الباحث في الاسلام تجاوز كل من هاتين النظرتين، الاختزالية الوضعية للاستشراق التي تغيّب العوامل الروحانية والخيالية، وفي الوقت نفسه تجاوز النظرة المغرقة في المثالية واللاتاريخية للمسلمين. وهذا شأن يدفع الى البحث في كيفية تحرير مفهوم الاسلام من "جميع اشكال الانغلاقات والسياجات الدوغمائية التي تحيط به وتخنقه او تسجنه داخل جدرانها". هذه البلورة المتجددة لمصطلح "اسلام"، انما تهدف الى تجاوز الالتباسات وسوء التفاهم الذي يتسبب في تمييز صريح بين الباحثين العلميين في النص الديني، بحقيقته وجوهره من جهة، وبين الموظفين المشرفين على "تسيير شؤون الدين الرسمي الارثوذكسي الدوغمائي" من جهة اخرى، اي وبكلمة اخرى: طبقة رجال الدين التي وظفتها المؤسسة الرسمية للدولة بمراتبها المختلفة.
يدفع الى ايلاء تحرير مفهوم الاسلام هذه الجدية، ما نراه من جهل كامل بمناهج البحث العلمي حول الدين، وما يتسبب به من نتائج سلبية تتجلى في الخطاب الاسلامي الملقى يوميا في خطب نهار الجمعة في المساجد، وفي المواعظ التي يطلقها رجال الدين في الفضائيات العالمية، اضافة الى ما يجري تعميمه في المدارس والجامعات في كل انحاء العالمين العربي والاسلامي. وهو جهل في فلسفة الدين وجوهره، يرى الكاتب انه مسؤول الى حد بعيد عن ارتكاب اعمال العنف السياسي التي يبررها اصحابها بإعادتها الى النص الديني الذي يضفي على هذه الاعمال مشروعية كاملة.
يهدف اركون الى دراسة مفهوم الاسلام من "منظور الاستكشاف التحليلي التعددي والعابر لمختلف الاختصاصات العلمية"، مما يعني انه يجهد في استخدام جميع المناهج والمصطلحات والعلوم الحديثة لدراسة الاسلام او التراث العربي الاسلامي، وهو الهدف من مشروع نقد العقل الاسلامي، وهذا ما يساعد في فهم مضامين ما يدعى "الظاهرة القرآنية او الظاهرة الاسلامية" ووظائفها وخصائصها.
تنبع الاهمية الاستثنائية في قراءة "الظاهرة القرآنية" وبحثها، من واقع التخريب الهمجي، الحاصل على يد المؤسسات الدينية ورجالاتها، للمكانة اللاهوتية والروحية للنص القرآني. فقد جرى الحط من قيمة القرآن، بعدما جرى اختزاله الى مجرد تعويذات ترمي القدسية عبرها على كل شيء. نراهم في مجالسهم وندواتهم ومساجدهم يبتهلون الى هذا القرآن ويطلقون عليه انواع التبجيل والتكريم، من دون ان تتم قراءته بشكل حقيقي، او في اعتباره "نصا خاصا بذاته ومستقلا عن الاسقاطات والتلاعبات التي تقوم بها الطوائف الاسلامية المفسرة له وبخاصة منذ ان حصل الانتقال من مرحلة الخطاب النبوي الى مرحلة المدونة الرسمية المغلقة: اي المصحف الذي نعرفه اليوم ونمسكه بأيدينا".
يعود الاختزال القرآني وتحوّله مجرد شعائر وطقوس، الى مرحلة قديمة في التاريخ الاسلامي لدى نشوء "اصول الدين واصول الفقه"، حيث بات مؤسسو المذاهب اللاهوتية والفقهية من امثال مالك بن انس وابي حنيفة والشافعي وجعفر الصادق وغيرهم، يقدمون انفسهم باعتبارهم "قمة الذرى الممثلة للهيبة التفسيرية والمعيارية في ما يخص بلورة مضامين الايمان الارثوذكسي والقانون المدعو بالالهي"، ويجري التعاطي مع فتاويهم على هذا الأساس. بذلك تحوّل هؤلاء الفقهاء مرجعيات عليا في كل ما يخص شؤون المسلمين. لكن الاخطر كان اضفاء القداسة على الاشخاص انفسهم وعلى كل ما ينطقون به. نجم عن هذه الوضعية دخول المسلمين في عهود من التفسير والشروح والتعليقات اعفت هؤلاء المسلمين من اعادة قراءة ما يشكل الاساس في الاسلام، اي القرآن. فكل ما ينطق به ائمة المذاهب، السنية منها او الشيعية، هو القانون الاسلامي الموازي للقرآن وتشريعاته. ادى هذا الواقع الى احلال "اسلام المؤسسة المذهبي" المتبلور والجاري تطبيقه على أيدي المفسرين القدامى، محل التفسير التاريخي والنقدي للنص القرآني نفسه، وهو امر مسؤول اليوم عن الكثير من الاضرار وسوء الفهم للاسلام في الغرب وفي المجتمعات الاسلامية والعربية نفسها.
على ضوء هذه المعطيات، فإن التطورات السياسية الجارية وخصوصا منها انبعاث الاسلام السياسي والحركات الاصولية المتطرفة و"استيلاءها" على الاسلام عبر توظيفه في اعمال الارهاب والعنف، تفرض بإلحاح اعادة قراءة النص القرآني وفق احترام التسلسل الزمني للآيات ضمن سياقها "الاجتماعي التاريخي الاولي الخاص بالدائرة اللغوية والثقافية العربية". وحدها هذه القراءة تميز بين الجوهري في الدين المتصل بالعقيدة والجوهر الروحي والاخلاقي والانساني للنص القرآني، وبين احكام فرضها السياق الاجتماعي في زمن الدعوة بحيث لم يعد معظمها صالحا لإسقاطه على الزمن الراهن. من هنا اهمية كتاب اركون في وصفه يقدم المنهج العلمي والصحيح لقراءة الاسلام والمضمون الانساني الحقيقي لنصوص القرآن.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد