(كلام عبر الأيام): أسرار نزار وحزن أبو خليل وألم التراث المهمل
في كتابه الجديد (كلام عبر الأيام) الصادر حديثاً عن دار طلاس بدمشق، بدا الدكتور صباح قباني حريصاً على أن لا يكون كتابه الذي عرفه بعنوان فرعي: (كتابات في الفن والتراث والسياسة) مجرد تجميع لمقالات متنوعة على عادة كثير من الكتب، التي يجمع فيها أصحابها مقالاتهم المنشورة في الصحف، ويزجونها في وجه القارئ على غير هدى... فقد تراجعت قيمة المقال في تشكيل وصياغة الكتب بخلاف ما كان عليه الحال في عهود مضت ازدهر فيها فن المقال.. وصار قارئ الكتاب اليوم يبحث عن الثقافة المتخصصة، التي تحيط بالموضوع المطروح من كافة جوانبه وتشبعه بحثاً، فتقدم جهداً معرفياً يشكل مرجعاً للمهتم، وزاداً للمطلع... ويبدو أن هذه الهواجس لم تكن غائبة عن ذهن وتفكير الدكتور صباح قباني، حين راح ينتقي المقالات التي حررها (في سفرة العمر) على حد تعبيره، وتناولت مرة شؤون الفن والتراث ومرات شؤون الثقافة والسياسة... ولهذا كتب يقول في الإضاءة التي قدم بها للكتاب: (ولكن الأذن المرهفة لا بد أن تسمع في كل حرف منها نبض الأرض التي انطلقت منها الكلمات، وأن بوصلة واحدة وحيدة هي التي رسمت مسارها خلال ما يربو على الخمسين عاماً... إنها بوصلة شامية عربية أصيلة تختزن ثقافة ورؤية وانتماء ونهج تفكير كلها من صنع الوطن).
صرخات ألم!
لكن من يقرأ صفحات هذا الكتاب، سيكتشف أن كتاباته لا تختزن ثقافة ورؤية وانتماء وحسب، بل تختزن أيضاً وجعاً وألماً ولوعة... لا تخفيها حتى تلك الكلمات الاحتفالية التي خطها الدكتور صباح عن دمشق لمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية عام 2008، تحت عنوان: (إنها دمشق عنوان لثقافة باهرة) فكل هذا التغني بأريج الحضارات وقصص المجد والدأب الإنساني المبدع والتاريخ الذي تدرك حين تتجول في أسواق دمشق القديمة (أنه ليس فكرة مجردة بل هو شيء حي تراه وتلمسه وتكاد تسمع إيقاعه ونبض المتواصلين) كل هذا يستحيل ألماً حقيقياً في المقالة التالية (التراث بين الحفظ واللامبالاة) حيث يقول الدكتور صباح أنه كان يتساءل كلما دخل العاصمة الفرنسية: (كيف تزداد هذه الباريس الجميلة جمالا سنة بعد سنة؟ فها هي الأبنية العريقة ذات الزخارف تصبح أكثر تألقاً ونضارة، وها هي النوافير التي تتوسط الساحات وتغتسل بمائها تماثيل الحوريات الضاحكات قد ازدادت بهاء بتلك اللمسات الذهبية التي أضيفت مجدداً... وها هو برج إيفل - رمز باريس- الذي عهدته في السنين الخوالي كتلة حديدية صماء قبيحة، غدا يتلألأ كما العروس بآلاف المصابيح الكهربائية التي نثرت عليه) وقد اكتشف صباح قباني أن ما يحمي تراث باريس المعماري والفني ويزيد من بهائه وجماله عاماً بعد عام، عشرات المؤسسات العامة والخاصة التي تساندها قوانين صارمة تمنع العبث بكل ما هو تراثي... حتى أن أحد القوانين ينص على أن أي بناء سيشيد على بعد 500 متر من احد الأبنية المسجلة، يجب أن توافق عليه، وعلى نمط واجهته وزارة الثقافة التي من مهامها أيضاً الحفاظ على الأحجار المنتزعة من الأبنية القديمة التي سمح بهدمها.
هذا الحرص الفرنسي على التراث المعماري والفني لباريس، يستحيل إلى لامبالاة إزاء مدينة أقدم منها بآلاف السنين كمدينة دمشق، ويغدو الألم هو عنوان الحديث عن تراثها، حين يتحدث الدكتور صباح قباني عما فعلته وزارة السياحة ببيت جده الرائد المسرحي أبو خليل القباني في منطقة مزة كيوان، يقول:
(فقد استملكته وزارة السياحة قبل عدة سنوات بدعوى أنها ستوظفه في مشروع سياحي مهم، لكن الذي حدث هو أن الوزارة بعد أن طردت حفيدتي القباني العجوزين البائستين من البيت ختمت بابه بالشمع الأحمر حتى لا تعودا إليه، ولكن الموظف الذي كلف بهذه المهمة ترك مثل جحا- باب البيت الخلفي مفتوحاً مشرّعاً أمام الرياح واللصوص. فبعد أن وجد هؤلاء أن الوزارة المذكورة أهملت البيت، ونسيت مشاريعها، راحوا ينهبون كل ما تطوله أيديهم: النوافذ، الأبواب، خشب السقوف والحيطان، وبلاط أرضيته، ومن يذهب اليوم ويفتش عن بيت رائد المسرح الغنائي العربي، فلن يجد مكانه إلا كومة من تراب تذروها الرياح).
إهمال حكومي واحتفاء شعبي!
ومقابل هذا الإهمال الحكومي المشين، يتحدث د. صباح عما فعله المالك الذي اشترى بيت القباني القديم في مئذنة الشحم السيد عباس نظام... فقد فتح البيت (وهو ملكية خاصة) أمام الصحافيين والمصورين وأمام كل زائر يبحث عن البيت الذي ولد فيه الشاعر نزار قباني وعاش وطفولته، وأكثر من ذلك: عندما توفي نزار وكان قد مضى على شراء البيت أكثر من خمسين عاماً، أصر صاحبه أن يفتحه ويقيم فيه العزاء باسم الشاعر لمدة ثلاثة ايام متكلفاً نفقات العزاء من جيبه الخاص!
ويستمر الوجع ومشاعر الألم على تراث المدينة ورموزها خيطاً خفياً وظاهراً يربط بين مقالات الكتاب حين يتحدث د. صباح في مقاله التالي عن تمثال البطل يوسف العظمة تحت عنوان: (إنقاذاً ليوسف العظمة) مشيراً إلى المسابقة التي أجريت لاختيار أفضل تصميم لتمثال العظمة كي يوضع في الساحة التي تحمل اسمه في قلب دمشق... لكن نتيجة المسابقة كانت هزيلة... وكانت خير تجسيد لهزالها صورة التمثال الذي ينتصب بضآلة في الساحة الآن... وهاهنا يوضح الدكتور صباح نقطة جوهرية في سياق مناقشة هذه المسألة، تكشف تخلف التفكير لدى الجهات المعنية... فيقول:
(إن إقامة تماثيل عظماء الناس في كل بلاد العالم، لا تتم بالمسابقات بل بتكليف أحد النحاتين المرموقين، المشهود لهم بالموهبة المتميزة والتجربة الغنية، فمثل هؤلاء النحاتين لا يشتركون في مسابقات... إنما يتركونها لغير المتمرسين أو الهواة)
نزار والشعر والكارثة!
وبخلاف كتب تجميع المقالات التي تتنقل بسرعة بين الموضوعات، فإن الدكتور صباح قباني، يبوب كتاباته هنا في محاور، يكاد يشكل كل محور منها إطلالة مشبعة على موضوع عالجه الكاتب أكثر من مرة ومن زوايا ومناسبات مختلفة... وهكذا يخصص الكاتب محوراً يضم مجموعة كتابات عن شقيقه نزار قباني... بدءاً من الكلمة التي ألقاها في حفل تأبينه عام 1998 مروراً بكتابات أخرى... لعل أهمها المحاضرة التي ألقاها المؤلف في الذكرى الثالثة لرحيل نزار، والتي يورد فيها تفاصيل طريفة وحكايا جديدة من قبيل:
(في عام 1936 ونزار في الثالثة عشرة من عمره، كان ضيوفنا وجيراننا في الحي الدمشقي القديم، كانوا على عادة أهل الشام، يسألون أبي حين يدخل عليهم نزار: ماذا ينوي المحروس أن يكون عندما يكبر؟ فيجيبهم أبي ببساطة: ابني يريد أن يكون شاعراً. فيتغير لون سائليه، ويتصبب العرق من جباههم، ويتلفتون بعضهم إلى بعض ويتمتمون:
- لا حول ولا قوة إلا بالله... قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!
وحين كان نزار يرى الوجوه المكفهرة، ويسمع تلك التعليقات الملأى بالأسى والأسف يجزع، ويتخيل أن الشعر والكارثة شيء واحد... ولنا أن نتخيل الآن وبعد خمسة وستين عاماً لو أن 'نزار' لم يكتب شعراً...)
ومن الحوادث التي يرويها د. صباح قباني عن نزار في هذا الكتاب أيضاً، قصة أول قصيدة كتبها عن دمشق، حين تقطعت به السبل أثناء رحلة مدرسية إلى إيطاليا... يقول:
(في أواخر آب/اغسطس 1939 سافر نزار في رحلة مدرسية إلى إيطاليا، ولكن لم يكد يمضي أسبوع واحد على وصوله مع أقرانه إلى هناك حتى نشبت الحرب العالمية الثانية، فجزعنا عليهم وخفنا أن تتقطع بهم السبل بعد أن توقفت المواصلات البحرية مع أوروبا. ولكن منظمي الرحلة استطاعوا تأمين سفينة صغيرة لتعود بأولئك الطلاب إلى وطنهم سالمين... وخلال تلك الرحلة، نظم نزار أول قصيدة له وكانت قصيدة حنين إلى دمشق... وهكذا شهدنا كيف ذهب نزار إلى إيطاليا سائحاً فنياً، وعاد إلينا في أيلول عام 1939 شاعراً واعداً، وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً).
ومن نزار ودمشق وتراثهما الموجوع بالحنين تارة، وبألم الفقدان والإهمال تارة أخرى، يمضى بنا الكاتب، في محور خاص عن (الإذاعة والتلفزيون) الإذاعة التي عاصرها وكان من أعلامها في الخمسينيات... والتلفزيون السوري الذي كان أول مدير له، وخير مؤسس لانطلاقته من فراغ البحث عن الأبجديات الأولى، وطموح التحليق في الأثير عام 1960. وكتابات د. صباح في هذا السياق لها دور توثيقي مهم، لأن التلفزيون السوري اعتاد أن يهمل تاريخه وأن يكون بلا ذاكرة... بدليل أنه لم يصدر حتى اليوم كتاباً توثيقياً شاملاً، عن مسيرته وهو الذي بلغ الخمسين من العمر...
وعلى شاشة التلفزيون السوري نفسه، حظي الدكتور صباح بسبق إجراء حوار تلفزيوني مع الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1972، ينشره في محور (فن وفنانون) الذي نقرأ فيه أيضاً كتابات عن فيروز وعن الشام والفن الرحباني وعن فنانين تشكيليين سوريين كعبد القادر أرناؤوط ولؤي كيالي وعلي فرزات... حيث يقدم رؤى نقدية لماحة، ممزوجة برسم صور شخصية لهؤلاء... وهو الأمر الذي يتابعه بحميمية أكثر في محور (صور شخصية) حيث يكتب عن عاصي الرحباني وعن عبد الكريم العائدي، وعن أحمد عسة الصحافي السوري اللامع، ومؤسس أمجاد إذاعة دمشق في الخمسينيات... وهاهنا يطل الألم برأسه الواخز في القلب من بين سطور الكلمات والمناخات التي يرسمها صباح قباني بأمانة... فأين تلك الأجواء النهضوية المبهرة، وذلك الإخلاص المثالي في العمل المؤسس على التقاليد... مما شهدته إذاعة دمشق من انهيارات محزنة في عهود لاحقة!!
سطوة دمشق!
إن كتاب (كلام عبر الأيام) الذي يطوف بنا عبر محاور أخرى في السياسة والدبلوماسية اللذين عمل فيهما المؤلف في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، يقدم لقارئه رحلة مع الأيام والهواجس والموضوعات التي عاصرها الكاتب وأخلص لها، ووقع تحت تأثيرها، فتابعها بدأب، وكتب عنها بحب، ونسج كلماته من وحيها وعلى تخومها بعيداً عن زخرف الإنشاء، وثرثرة الإطالة، وملل الاستفاضة في القول... فصباح قباني المأخوذ بسطوة دمشق وهو يكتب عن تراثها، ثم وهو يستحضر طيف شاعرها نزار، أو يتحدث عن حالة النهوض في إذاعتها ثم تأسيس التلفزيون على قمة جبلها، صباح قباني يكتب لقارئ يظنه جالساً أمامه، ولهذا يخشى أن يتململ أو يتثاءب قبل أن يقول كل ما لديه، فيقرر أن يقول كلماته باختزال وتركيز، وبدماثة دمشقية تجعل من أسلوبه، جزءاً من هوية هذا الكتاب ومن نمط تفكيره ككاتب... إنه أسلوب يفيض لطفاً وعذوبة وتأنقاً، بقدر ما يستبطن المغزى العميق... والألم العميق... وبعض الفرح العميق لأجل ما كان!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد