مقاربة في الأصولية واستقراء موقفها من التعددية
لعل من المناسب جيداً قبل الحديث عن أيّة ظاهرة فكرية أن يبدأ الباحث بوضعها أولاً ضمن سياقاتها التاريخيّة والمعرفيّة وصولاً إلى الوقوف على أسبابها ومسبباتها، فضلاً عن دراستها بصورة مقارنة مع الظواهر الموازية لها، والتمييز قدر الطاقة بين الأنماط والأشكال التي تكتسبُها، والتي تتفاوت من ناحية خطورتها وقابليتها للإدانة.
فهذا مطلب منهجي في الأساس يوفر علينا الدخول في زحمة التفاصيل الكثيرة الشائكة المرتبطة بظاهرة الأصوليّة من جهة، ويحولُ في الوقت نفسه دون الانطلاق من موقف أيديولوجيّ مُسبق يؤثر سلباً في الحكم عليها أو قراءتها خارج سياقاتها العامّة من جهة أخرى.
ومن ثم، فإنّ ما يُهمُنا في هذا المقال، وبالدرجة الأولى، هو التعرف على موقف الأصوليّة الإسلامويّة من التعدديّة بمعناها العام والذي ما زال يمثلُ بؤرة مُهمة مسكونة بالعديد من الالتباسات ومثقلة في الوقت ذاته بعبء الأحكام التاريخية.
صحيح أنّ الرفضّ الأصوليّ القاطع للتعددّية الدينيّة خاصة، والسياسيّة عامّة، يبدو للوهلة الأولى الموقف الأصوليّ الموحد، لكن هذا لا ينسينا أنه حتى في سياق هذا الرفض هنالك على الأقل تنويعات شتى تتأرجحُ عادة ما بين تغاير الأسباب تارة، وأسلوب المعالجة وطرح البدائل تارة أخرى.
ومن الثابت تاريخياً أنه لم يكن لدى الأصوليين وقت للديمقراطية أو التعددية الحزبية، ولا حتى للتسامح الديني أو الحفاظ على السلام. فالأصوليون المسيحيون، على سبيل المثال، قاوموا بشدة الاكتشافات العلمية الخاصة بعلوم الأحياء والفيزياء، وأصروا على أن كتاب «سفر التكوين» يبدو علميا في جميع تفاصيله ولا يحتاج إلى أية إضافات أخرى. وبالمثل أظهر الأصوليون اليهود أنّ قانونهم المقدس، والذي مارسوه بصرامة وتشدُّد، هو القانون الدولي الوحيد القابل للتطبيق (ولعل ذلك يفسر عدم اعتبارهم بما يسمى بالقانون الدولي الإنسانيّ).
نصلُ في مقاربتنا الأوليّة هنا إلى شرح ما يتعلقُ بتعريف التعدديّة Pluralism، والتي على رغم أنها تعني: التسليم بالاختلاف واقعاً لا يسع عاقلاً إنكاره، وحقاً للمختلفين لا يملك أحد - أو سلطة ما - حرمانهم منه، إلا أن وتيرة الخلاف حولها تشتد رفضاً وقبولاً، أخذاً وتعاطياً في آن.
لكن يبقى التساؤل في ما يتعلق بموضوعنا قائماً وهو: كيف، ولماذا تنبثق الأصوليات، أو لا تنبثق، لدى أمة من الأمم دون غيرها أو في منطقة ثقافية معينة أو تشكيلة اجتماعية ما؟! ولماذا تهتزُ وتنكمشُ قاعدة التجديد والاجتهاد في بقعة جغرافية ما فيما تتسعُ ضمن مناطق أخرى مرت تقريبا بنفس الظروف والملابسات التاريخية؟! وهل الأصوليّة ظاهرة عامّة في كل دين، أم أنها بحسب البعض سمة مميزة للفكر الإسلاميّ بصفة خاصة؟! وما موقف الأصولية الإسلاموية من قضايا العلمنة والديمقراطية والحداثة والتعددية...إلخ؟!
ثمة منظومة فكرية كاملة يُناصبها الأصوليون الإسلامويون العداء على رأسها: العلمانية، الديمقراطية، التعددية بحيث يصح القولُ إنّ هذا الثالوث، اللا مقدس بنظر الأصوليين، قد استحق صرف أغلب جهودهم في اتجاه محاولة دحضه وبُغية تحطيمه.
وبطبيعة الحال، فإنّ الهجوم على هذه المنظومة أمر مفهوم تماماً بالنظر إلى طبيعة الأصولية ذاتها كحركة تدعو إلى تفكيك البنية التأسيسية للتاريخ وبالتالي إنكارُ شرعية إلزامية النظريات، في موازاة الحث على استخلاص المعنى الحقيقي للإسلام من النصوص المفسرة مباشرة ومن منظور التجربة الحديثة لواقع الأمة ومعاناتها.
ويمكن تلخيص البنى التأسيسية التي ينبني عليها تصور الأصوليين للآخر ونفيهم التعددية الدينية والسياسية في أربعة عناصر رئيسية، حسب ما يؤكد أحمد الموصلي، وهي: عالمية الرسالة (الحقيقة المطلقة التي يجب إنشاؤها)، وجاهلية العالم (الحقيقة الجزئية الفعلية التي يجب التخلص منها)، والجهاد (السبيل الوحيد لإنهاء الحقيقة الجزئية الفعلية «جاهلية العالم»)، وأخيراً السلام (كسبيل إلى تحقيق الحقيقة النظرية المطلقة «عالمية الإسلام» ونتيجة لها في آن!).
والحال أنّ عالمية الإسلام وجاهلية العالم لا يمكنهما التعايش معاً بصورة شرعية، لأن كل واحدة منهما تسعى جاهدة إلى نفي الأخرى حيث تنطلق الأصولية الإسلاموية من الإيمان بأحقية قيادة الأمة الإسلامية للعالم على اعتبار أنها «خير أمة أخرجت للناس» متجاهلة أنها بذلك تسعى إلى تحقيق قطبية أحادية يخضع لها الجميع وينضوون تحت لوائها، حتى مع التذرع بأن مهمة الإسلام «انقاذية» والزعم بأن الأمة الإسلامية «أمينة على رسالة الله في العالم»!!
عالمية الإسلام، بهذا المعنى، مبنية إذاً على مبدأ «الحاكمية» القائل بمطلق سلطة الله في الكون بما أنه المشرع ابتداءً. ومن ثم، يجب أن يتمحور عمل البشر حول تطبيق التشريع الإلهيّ «وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون» أما سلطة التشريع فلا تجوز إلا لله. أي أنّ عالمية الإسلام تتضمن بداهة معارضة كل نظام إنسانيّ، فلسفيّ أو سياسيّ، لا يقفُ عند حكم الله!
لذلك يقسم الأصوليون كلاً من الفكر والممارسة إلى قسمين: الأول، ذلك الذي شرّعهُ الله. والثاني: ذلك الذي لم يشرعه. وتبعاً لذلك، ينقسم البشر إلى قسمين: المتبعون لمنهج الله الذين ينظمون حياتهم وشؤونهم طبقاً لشرائع الإسلام وهم «حزب الله». أما «الآخرون» الذين يستمدون منهجهم من دستور أو نظام سياسيّ أو قانونيّ فهم أتباعُ دين الملك، أو العشيرة، أو الشعب (باعتباره مصدراً للسلطات في النظم الديمقراطية)، أي يمثلون «حزب الشيطان»!!
ومُضياً في هذا الطريق إلى آخره، تجنحُ الأصولية الإسلاموية إلى القول بعدم جواز جمع الإسلام، أو حتى مقارنته، مع غيره من الأنظمة السياسيّة أو العقديّة ضمن نسق واحد بحجة أنّ عدم الخلط سيؤدي إلى سُهولة تحدي الشر في حال عدم اختلاطه مع الخير!! فيما يؤدي اجتماعهما معاً في «سلة» واحدة إلى عدم تجنب الأخطاء وصعوبة القضاء نهائيا على الشر!
وتبعاً لنفي التعددية أيضا يتأتى رفضُ الأصولية الإسلاموية مبدأ «الحق في تشكيل الأحزاب السياسية» بدعوى أنها تعملُ على تفريق «شمل الأمة». وأنه، استناداً إلى القاعدة الفقهية الأصولية «مالا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب»، ليس ثمة ضرورة في وجود الأحزاب السياسية على الرغم من أن «المذاهب أحزاب في الفقه، والأحزابُ مذاهب في السياسة»!
ونتيجة لذلك، ما احتاج العقلُ الأصوليّ إلى كثير من إعمال الفكر ليهتمّ بالآخر «المغاير» له دينيا وثقافيا، وإنّما بادر بإعلان «جاهلية العالم» منذ اللحظة الأولى لتشكله متذرعاً في ذلك بسيادة وهيمنة ما أسماه “عقلية الغاب” على مقدرات العالم. ومن المفارقات الغرائبيّة في هذا الإطار أنّ العقل الأصوليّ، وفيما يسوق براهينه لتبرير نظريته هذه، قد تذرّع بالقول: إنّ الجاهليّة الجهلاء التي باتت تسود عالم اليوم ستؤدي حتما إلى نشأة حروب وحشيّة وطاحنة، على النحو الذي عانت منه البشرية إبان الحربين العالميتين: الأولى والثانية!
في مقابل ذلك، زاوجت الأصوليّة في طرحها بين مصطلحين مهمين في إطار القول بجاهليّة العالم وهما: الجهاد والسلام، مؤكدة أنّ تعطيل دور الإسلام قد أدّى إلى تحريك النعرات القوميّة والمذهبيّة وصولا إلى الطائفية. ممّا يعني أنّه في حال «عدم تعطيل دور الإسلام» لن يكون لمثل هذه التنويعات والتعددّات السياسيّة والثقافيّة أيّ وجود يُذكر نظرا لسيادة المنظور الأحاديّ والمنطق الاقصائيّ الاختزاليّ الذي يُفهم الإسلام من خلاله لدى العقل الأصوليّ. وبحسب الأصوليّة الإسلامويّة أيضا، فإنّ الإسلام لا يجوز له أن يخضع بدوره إلى الواقع العالميّ «الجاهلي»، وإنّما يتوجبُ عليه أن يواجهه لا ليتحاور معه وإنما ليُخضعه لتصوراته ومفاهيمه ومنهجه فيُبقي منه ما هو فطري وضروريّ ويتركُ ما هو «طفيلي» ومؤد إلى فساد العالم.
وبهذا تتحدد ملامح النظرة إلى النظام العالميّ لدى الأصوليّة في إعمال مبدأ المواجهة لا الحوار، والإقصاء لا القبول بالتعددية، في احتواء الآخر لا تركه يختار طريقة حياته وإلا سيتابع خطى الجاهلية التي تهيمن على العالم! وتلك معركة مصيرية بحسب الأصولية التي تؤكد أنّه هكذا كان الإسلام يوم أن واجه جاهلية البشرية منذ قرون، وهكذا هو اليوم يواجه الجاهلية في كل زمان ومكان. فالمجتمع الجاهلي، سواء في القرن السابع الميلادي/ الأول الهجري أو في القرن العشرين/ الرابع عشر الهجري، يتمتع بنفس صفات الجاهلية، وعلى رأسها ظهور الخلل في العقيدة وتعدد صور الشرك العقدي.
في المحصلة، تعتبر الأصولية الإسلاموية (سواء في شكلها الحركي أو في شكلها المؤسساتي) عدم الخضوع للقوى الحاكمة واجباً مقدساً لا يمكن المساس به. ليس غريبا إذاً، والحالة هذه، أن يُصدر رموز هذه الحركات بيانات تكفيرية للغرب فيما هم يتمتعون بحق اللجوء السياسي فيه! وإلى جانب ذلك، تعاملت معظم الحركات الأصولية الإسلاموية مع الأنظمة السياسية القائمة، منذ أوائل العشرينات، على أنّها أنظمة جاهلية وإن ادعت عكس ذلك.
محمد حلمي عبد الوهاب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد