الدولة في الإسلام مع بداية الدعوة وبعدها
حين نفى الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» وجودَ الخلافة في النص المقدس، ورفض الملكية وما يتصل بها من خلافة، شوروية لمرحلة، ووراثية في كل المراحل، أحدثت نظريته صدمة معرفية مازالت في صلب الهم السياسي الإسلامي، تحديداً عند أولئك الذين يعتبرون أن الإسلام دين ودولة.
في أطروحته «بحث في نشأة الدولة الإسلامية» (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010)، يحدد فالح حسين إشكالياته الأساسية: هل الدولة في الإسلام المبكر كانت حاضرة في موازاة نشر الدعوة؟ وهل جَمَعَ الرسول بين القيادة بمعناها السياسي والنبوّة بمعناها الديني؟ يستهلّ الكاتب عمله البحثي في تحديد أبرز المؤشرات التاريخية للظروف الدالّة على نشأة الدولة مع النبي وبعده، ويبدأ بـ «بيعة العقبة الثانية» التي عُرفت ببيعة الحرب، والتي أعقبت هجرة الجماعة الأولى الى يثرب، أي المدينة. المحطة المفصلية التي دشنها الكاتب لمقارعة الذين ينفون فكرة الدولة في الإسلام لا يمكن إهمالها، لجهة دلالتها التاريخية من جهة، والتطورات التي تلتها من جهة أخرى. ورغم أن بعض القائلين بعدم كونها أولوية في بداية ظهور الرسالة المحمدية، فإن علاقة النبي مع الجماعات القبلية والدينية قامت على ثنائية المزاوجة بين القيادة ونشر الإسلام، بدءاً من بيعة العقبة الثانية، مروراً بصلح الحديبية، وصولاً الى التأسيس لأهم مقومات الدولة الفتية، والتي اتخذت مساراً تراكمياً إثر خروج المسلمين من الجزيرة العربية، فأسسوا مدناً وأمصاراً جديدة في البلدان المفتوحة، ونظموا الضرائب، ووضعوا النقد، وأقاموا نظام الديوان.
في المدينة، بدأت تتبلور ملامح الدولة بشكل أوضح، وما إن حلّ الرسول في دار الهجرة، حتى بدأ يعد العدّة لتنظيم أمور جماعته، فوضع «الصحيفة»، وهي وثيقة تاريخية سياسية وقانونية اعتبرها كثيرون كما يؤكد الكاتب، «أقدم أنموذج موثوق للنثر العربي بعد القرآن الكريم».
ويشير حسين الى الظروف التي أوجبت وضعها، وبعد أن أورد أهم الروايات التي أوجبت ظهورها، معتمداً على مصدرين: «السيرة النبوية» لإبن هشام، و «كتاب الأموال» لأبي عبيد القاسم الهروي، يعمد الى تحليل مضمونها السياسي، ويرى أن موادها أقرت الدولة في الإسلام المبكر، مقسماً إياها الى أربعة دعائم: الأولى، الدستور الذي ينظم حياة أهل الصحيفة. الثانية، الشعب الذي كان قاعدتها على أساس تنظيم العلاقات بين أفرادها. الثالثة، الأرض التي يقوم عليها أصحابها. الرابعة، اعتبار الرسول قائداً لهذه الجماعة. وعلى رباعية «القانون-الأمة-الأرض-صاحب السلطة أو الأمر»، برزت الدلالات الأولى لنشأة الدولة في الإسلام. ومع صلح الحديبية، الذي وُقِّع بين الرسول وقريش أواخرَ السنة السادسة للهجرة، إثر غزوة الخندق أو الأحزاب، برزت مقومات السلطة بشكل أوضح، وفي هذا السياق يورد حسين نص الاتفاقية بين الطرفين، والتي تنص على بناء علاقة سلميّة لغاية عشر سنوات. ولم يكتف الكاتب بذلك، بل حلل مضمونها السياسي وأهم النتائج التي ترتبت عليها، ومن بينها «تمكُّن الرسول» من إيجاد قاعدة أو أحلاف جُدُد له في قلب مكة وبين أهلها، والذين سيكونون السبب غير المباشر لفتحها بعد أقل من عامين، ما أدى الى مضاعفة أعداد المسلمين، خصوصاً مع توافد القبائل إليه، إما عن طريق انتمائها للإسلام أو الاعتراف بسلطته. ولعل ما اصطلح على تسميته بـ «عام الوفود»، كان من أهم مقومات بروز الدولة، وهنا يقدم الكاتب قراءة لغوية لمفهوم الوفد، ويقول: «هو مصطلح ذو دلالة سياسية، إذ إن الوفادة لا تكون إلاّ للملوك والأمراء - وفد فلان يَفِدُ وفادةً إذا خرج الى ملك أو أمير -، وكان اللفظ لا يستعمل إلاّ لمن يفِد على الملوك، ومن هنا جاءت الأهمية الخاصة التي خصصنا بها عام الوفود».
لا ريب في أن المعطيات التاريخية التي انطلق منها حسين لدعم إشكالياته وفرضياته حول نشأة الدولة في الإسلام منذ بداية الدعوة، لها أهمية سياسية ومنهجية في آن، فهو من جهة اعتمد على النصوص والمصادر الإسلامية لتأكيد جدلية الدين والدولة مرتكزاً على أبرز المعاهدات والاتفاقات، قارئاً مضمونها، ومن جهة أخرى درس وقائعها بأسلوب منهجي، محاولاً الرد على من ينفون الصفة القيادية للرسول. ومنهجيته التاريخية والاستقرائية للنصوص، أسبغت على الكتاب بُعداً أكاديمياً، يهدف بالدرجة الأولى الى التحقق من صحة المساءلة التي صاغها، والقائلة ان ظهور الدولة بدأ مع هجرة النبي الى المدينة.
لم يكن صلح الحديبية المؤشرَ الوحيد الذي كرس سلطة الرسول السياسية، فقد وضع عدداً من الاتفاقات والمعاهدات مع أهل الجزيرة، مثل صلح أهل نجران، وصلح تبوك، وصلح الجرباء، وعليه يرى الكاتب أن محمداً مارس زعامته القيادية بعقد المعاهدات، وقيادة الجيوش، وإقرار الحقوق. والحال أن نشر الإسلام ترافق مع تدشين الدولة، ولولا العلاقة الوظيفية والتبادلية بين العاملين، لما استطاع المسلمون الاستفادة منها لبناء إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، وطبعاً مرحلة الإسلام المبكر تختلف عن الفترات اللاحقة، وبدءاً من اجتماع السقيفة وما نتج عنه من بذور انشقاق أفضى الى الفتنة الكبرى، والى نقل السلطة بالعنف الى معاوية، الداهية ورجل الدولة بامتياز، فتحولت الدولة الوليدة الى مُلك عضوض مع الأمويين والعباسيين، عمادها احتكار السلطة، والتوريث الملكي، وقمع المعارضة، وتوظيف الدين لمصلحة إضفاء القدسية على السلطة.
في الفصل الموسوم تحت عنوان «مؤشرات السلطة - الدولة بعد الرسول: الاستمرارية»، يتابع فالح حسين تثبيت نظريته حول وجود الدولة في الإسلام بعد وفاة النبي، مشيراً الى عوامل ستة لتبلورها: اختيار أبي بكر وقمع الردّة، بناء الأمصار الجديدة في البلاد المفتوحة، الديوان والعطاء، تنظيم التصرف في الأرض، تنظيم الضرائب، ضرب العرب للنقد.
يبقى ان العصور الكلاسيكية التي اعتمد عليها الكاتب في بحثه حول نشأة الدولة في الإسلام، تحتاج الى قراءات جديدة، بعيدة عن الأسلوب الإنشائي الذي تفادى حسين الدخول به، خصوصاً أنها أسست لحراك سياسي عميق الجذور، أدى الى انقسام الجماعة على أسس التنافس على السلطة وليس على أسس الدين، وهو انقسام مازالت تداعياته حاضرة حتى اليوم، وإلاَّ ما معنى أن يتحول المسلمون الى فِرَق ومذاهب متصارعة؟ من دون أن يعني ذلك نفي ما أحدثته الحقبات التي أعقبت وفاة الرسول من إرثٍ فقهي وجدلي قلّ نظيره مقارنة بالديانات الإبراهيمية الأخرى.
ريتا فرج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد