فلسطين-لبنان: خطر المواجهات الأهلية
ما جرى في بعض شوارع بيروت فجر أمس «جرس إنذار». شهدنا في شوارع فلسطين المحتلة أمس «نموذجاً متقدماً» عنه. ونشهد في شوارع العراق، كل يوم، المآل الذي يراد لهذه المنطقة الاندفاع نحوه: تعريب الصراعات، استثارة الخلافات المذهبية، تعميق النزاعات السياسية من أجل إلهاء اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين عن وقائع الاحتلال والعدوان.
تضع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس جولتها في المنطقة تحت عنوان عريض: استكشاف إمكان قيام «حلف المعتدلين». تسمّي الإدارة الجهات العربية المعنية بهذا التحالف وتشير، بوضوح، إلى أن إسرائيل هي الشريك غير المعلن فيه، وأن قوات الاحتلال في فلسطين والعراق، كما قوات العدوان على لبنان، موضوعة في خدمة هذا الحلف.
للجبهة المنوي إنشاؤها خصم. اسمه الرمزي «المتطرفون». وهو يتكوّن من «حزب الله» في لبنان، ومن «حماس» في فلسطين، ومن الميليشيات و«الإرهابيين» في العراق. وفي رأي الإدارة الأميركية أن «حرب الصيف» على لبنان أدّت إلى استنهاض همم «المعتدلين العرب»، ليس لأن عدواناً وقع، بل لأنهم فوجئوا بحجم الصمود ونوعيته وباتوا يستشعرون خطراً يوجب عليهم التحرك بما يوفر أساساً لمبادرة سياسية أميركية جديدة.
تؤكد تقارير رسمية أميركية، في ما يخص العراق، على أمرين. الأول هو أن «خطر الإرهاب» ازداد، دولياً وإقليمياً، بعد الاحتلال. والثاني هو أن المشكلة هي المواجهات الأهلية. ويعني ذلك أن الحرب التي بدأت هناك «تحريراً» للبلد وتحريراً للعالم من خطر افتراضي وصلت الآن إلى اكتشاف فشلها: ازداد الخطر وبات البلد مهدداً.
ومع أن هذه النتيجة العراقية كانت ماثلة للعيان فلقد دفعت الولايات المتحدة وإسرائيل، في فلسطين، نحو مصير مماثل. لقد حوصر الشعب باسم محاصرة الحكومة، وجرى تشجيع قوى على الاحتجاجا على آثار هذا الحصار، وطولبت حركات سياسية ــ عسكرية بأن تتحول إلى حركة نقابية، وعُطل التوافق على حكومة وحدة وطنية... لقد وقف الفلسطينيون، غير مرة، على شفير المواجهة الأهلية ولكنهم أحسنوا تجنّبها.
يبدو، الآن، أن الضغط عليهم سيرتفع من أجل إسقاطهم في الهاوية. و«حلف المعتدلين» الذي تنوي رايس العمل لإنشائه يشترط القيام بتحرك شكلي للإيحاء بأن القضية الفلسطينية باتت على جدول الأعمال. والإعلانات تتوالى عن ضرورة دعم جزء من السلطة الوطنية (الرئاسة) أمنياً وسياسياً واقتصادياً. ويجري التركيز على أن إنهاك «حماس»، حكومة وحركة، هو شرط لإحداث تقدم. ولذلك يصعب عزل المواجهات الأخيرة عن هذا التوجّه. إنها جزء من محاولات بعض «المعتدلين» اتهام من يعنيهم الأمر بأنهم سيتحملون مسؤولياتهم التي تتيح لهم المشاركة في التحالف الجديد في طوره العملاني.
لا شك في أن الإدارة الأميركية كانت تتمنى أن يثمر العدوان والحصار على لبنان بعض ما أثمره العدوان على غزة والحصار على الفلسطينيين. ولقد صرّح كل من الرئيس جورج بوش ووزيرة خارجيته رايس بأنهما يتوقعان هبّة شعبية تلي اكتشاف اللبنانيين ما سبّبه «حزب الله» لهم. لكن النتيجة كانت مخالفة. وحسم مهرجان الانتصار في 22 أيلول هذا الأمر. غير أن ذلك لا يمنع استمرار محاولات التطويق السياسي، واستمرار تجويف النصر من مضمونه، وتشجيع رفض المعالجات الوطنية الشاملة.
لقد كانت رايس واضحة جداً، وكذلك فعل غير مسؤول أميركي وإسرائيلي، في تقديم كل دعم لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة بصفته دعماً لها ضد «حزب الله». ولوحظ أن المملكة العربية السعودية لم تنف تصريحات الوزيرة الأميركية القائلة إن المساعدات المقدمة إلى «لبنان» هي للتصدي لـ«حزب الله». وكذلك عاد رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى التأكيد (جيروزاليم بوست، أمس) أن العدوان على لبنان كان هدفه «تغيير الوضع السياسي كله فيه» وأن النتيجة «ناجحة في تنفيذ الأهداف السياسية التي وُضعت مسبقاً».
إلا أن أهم ما في كلام أولمرت هو ما قاله رداً على سؤال عما إن كانت «الحرب الأهلية في لبنان مصلحة إسرائيلية». أجاب ما حرفيته «أميل إلى الاعتقاد بأن نصر الله سيحاول تجنّب المواجهة الأهلية. ولكن السؤال هو عن مدى حزم حكومة السنيورة وجديتها وتماسكها، وتقليص نفوذ حزب الله. لن يكون ذلك ضد مصلحة إسرائيل. ولكن هل يتحقق ذلك عبر مواجهة أهلية أم لا؟ لستُ شغوفاً بالمواجهات العنيفة. ولكن إذا حصلت مواجهة عنيفة ــ في لبنان ــ فإني أتمنى أن يتمكّن الجانب المعتدل من تغيير الوضع بدل أن يستسلم له».
ما معنى هذه العبارات إن لم يكن تشجيعاً على الفتنة في لبنان، تماماً كما الحال في فلسطين والعراق؟
لا يمكن النظر إلى ما شهدته أحياء بيروتية بمعزل عن أجواء التوتر العام في لبنان، وبمعزل عن هذه الخطة الأميركية ــ الإسرائيلية، باسم «حلف المعتدلين»، لتعريب الصراعات وجعل هذا التعريب وسيلة لاستكمال تحقيق أهداف الاحتلال والعدوان.
تدافع واشنطن عن حكومة «وحدة وطنية» في العراق علماً بأنها ليست كذلك. لكن واشنطن ترفض حكومة «وحدة وطنية» في فلسطين ولبنان. إن هذه الحكومة التي كانت شعاراً باتت واجباً. إنها خشبة الخلاص. إن الموافقة عليها هي الدليل الوحيد على أن هناك من يرفض، فعلاً وجدياً، العبث بمصير الوطن.
جوزف سماحة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد