ماذا عن رواية خلق الكون ونظرية تكوّن الكون في الدين والعلم؟
خلال تطوّره من قرد الى إنسان - أو بما هو أدقّ من دماغ قرد إلى دماغ إنسان - إذ أنّ رهان التطوّر هو أساسا تطوّر الدماغ . كان دماغ الإنسان منذ نصف مليون عام يزن أقلّ من 400 غرام وهو اليوم يزن 1350 غراما، - فهو إذن أكبر دماغ حيوانيّ، فهو أكبر حتّى من دماغ الفيل قياسا إلى وزنه – اخترع الإنسان جنبا لجنب مع العمل في الحجارة، ثلاثة أوهام نرجسيّة: وهم مركزية الإنسان، وهم تشبيه الآلهة ثم الله بالإنسان في مزاجه وذاته وصفاته. وأخيرا وهم الاثنية المركزية: الأمّ الشرعية للعنصرية والنرجسية الدينية، أي التعصّب الدينيّ (أنظر الفرق بين إله الأديان وإله الفلاسفة والعلماء).
مدخل ثان لفهم الفرق بين إله الأديان الذي خلقته رغبتان متأصّلتان في أعماق النفسية البشرية- هما الرغبة في الحماية الأبوية في الحياة والرغبة في الخلود بعد الموت- وبين إله الفلاسفة والعلماء الموضوعي أي قوانين الطبيعة، اتضح أنّه من الضروري أيضاً توضيح الفرق النوعي بين رواية خلق الكون في الأديان الوثنية، التي ورثتها منها الأديان التوحيدية، ونظرية تكوّن الكون في علم الفلك الفزيائي.
أوّل نصّ مكتوب عن رواية الخلق الاسطورية الوثنية يعود إلى النصف الأوّل من الالفية الثالثة ق.م. ترجمها "سفر التكوين" التوراتي في القرن 6 ق.م. ثمّ انتقلت إلى القرآن في القرن 7 م.
الأساسي في رواية الخلق الوثنية البابلية، التي اقتبستها الأديان التوحيدية الثلاثة، هو التشبيه: تشبيه الآلهة الوثنية الـ7، التي تداولت على خلق الكون في 7 أيام، بالإنسان. الآلهة الذكور الـ 6 اشتغلوا في الأيام الستة الاولى. وفي اليوم السابع جاء دور إلهة أنثى لتعطي الكون لمسات جمالية مثل تزيينه بالنجوم…
استعاد سفر التكوين التوراتي الأسطورة الوثنية بعد حذف الآلهة الـ7 لكنه أبقى على رموزها، الأيام الـ 7 وعلى أولوهيم(جمع إله)، كما أبقى على تشبيه الله بالإنسان مراراً وتكراراً في الكتاب المقدس. يقول سفر التكوين: " وهكذا أُكملت السموات والأرض وجميع قوّاتها [= الكائنات الأرضية والكواكب]. انتهى الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله. واستراح في اليوم السابع من عمله الذي عمله. وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه، لأنه فيه استراح من كل عمله الذي عمله خالقاً. تلك هي نشأة السماوات والأرض حين خُلقت" (سفر التكوين، الإصحاح2، الآيات من 1 الى 4 )
لا شك أنّ القارئ لاحظ التكرار في الآيات الـ 4. والتكرار تمتلئ به أسفار العهد القديم. وهو عرض من أعراض الفُصام. والقرآن أيضاً ثلثه مكرّر.
يستعيد القرآن الرواية البابلية – التوراتية في 7 أيام مع اختلاف طفيف كالاكتفاء بـ 6 أيام بدل 7 ((الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) (59 الفرقان). "وما بينهما" هي ترجمة أكثر وضوحا لـ"جميع قواتها" التوراتية. "ثم استوى [جالساً]على العرش" هي استعادة لـ"واستراح في اليوم السابع من عمله الذي عمله" التوراتية.
رأى بعض المفسّرين أنّ 6 أيام قليلة، حتى على الله، لخلق الكون فيها، فقالوا، نقلاً عن آية أخرى إنّ يوم الخلق مقداره 50 ألف سنة من سنواتنا المعروفة. وهكذا يكون الله قد خلق الكون في 30 ألف سنة!
فما هي النظرية الفلكية الفزيائية لتكوّن الكون وليس لـ "خلق" الكون؟
سألخصها في الإجابة على 9 أسئلة: ممّا تكوّن الكون؟ وما المادة؟ وما الذرّة؟ ومما تتكوّن الذرّة؟ وهل اكتشف العلم في الكون عنصراً آخر غير المادة؟ وكيف تكوّن الكون؟ وما الكون؟ وما هو عمر الكون ؟ وهل سيفنى الكون؟
ممّا تكوّن الكون؟ من المادة؛ وما المادة؟ هي الذرة؟ وما الذرة؟ هي الوحدة البسيطة للمادة؛ ومما تتكون الذرة؟ باختصار من نواة في قلبها، تدور حولها الكترونات. والنواة أصغر من الذرة 100 ألف مرة؛ لكنها تحتوي على كتلة الذرة؛ وهل اكتشف العلم في الكون – أو في الدماغ البشري – عنصراً آخر غير المادة؟ كلا، لم يكتشف إلا المادة ولا شيء غير المادة. ما سمّته الأديان الوثنية ثم التوحيدية بالروح هو، في علم الكيمياء، مادة، أي الهواء الذي يستنشقه الكائن الحيّ (= الأكسجين) والتنفس [نفْث ثاني أوكسيد الكربون]. لكن الإنسان – القرد توهّم منذ العصر الحجري أنّ نفَسه "جسم" لطيف منفصل عن الجسد ولا يموت بموته بل يفارقه بعد الموت إلى عالم آخر هو العالم الذي يزوره منه في أحلامه.
وأوّل ديانة وثنية تبنّت الروح هي الديانة المصرية منذ الألف الثالثة ق.م. ودخلت الروح لأول مرة في الديانات التوحيدية في سفر التكوين :"سوّى الله الإنسان [آدم] من تراب الأرض ونفخ في مِنْخريه نَفَس [روح] الحياة" (التكوين، الإصحاح 4، الآية 7 ).
أخذها القرآن عن سفر التكوين: " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ [آدم] وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [نَفَسي] فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"(الحجر 29).
كيف تكوّن الكون؟
لحظة الصفر، كما يسميها الفلكيون الفزيائيون، في تكّون الكون هي "بيغ بانغ"، اسم صوت لـ"الانفجار الكبير". فقد تجمّعت المادة كلها في حجم صغير جداً: أصغر عديد المرات وبمليارات المليارات من رأس الدّبوس. تمدّدت المادة - ولم تنفجر- . حدث كل ذلك في لحظة زمنية خاطفة متناهية في القصر: "كَسْر من المليار من الثانية". خلال هذه اللحظة تكوّنت وتجمّعت جميع الجزيئات التي تكوّن منها الكون.
وما الكون؟
هو ذرات تتجمّع بمليارات المليارات، فتصير جُسيْمات. وهذه الجسيمات تتجّمع بدورها في مليارات المليارات، التي لا تُحصى ولا تُعدّ، فيتكوّن منها الكون والكائنات: من اللامتناهي في الصغر الى اللامتناهي في الكبر: من الباكتيريا التي لا تُرى بالعين المجرّدة الى المجرّات ومجموعات المجرّات. وهكذا تكوَّن الكون من عديد المليارات من مجموعات المجرات، وكل مجموعة من المجرّات تتكوّن، بدورها، من مليارات المليارات من المجرّات… وهَلُمَّ جرّا.
الكون في رواية الخلق الدينية، الوثنية والتوحيدية، هو ثالوث الأرض والقمر والشمس. والحال أنّ هذه الكواكب + (زائد) جميع كواكب مجرتنا: مجرّة التّبانة. لا تساوي، قياساً الى الجزء المعروف من الكون، إلا أقلّ من كسر مليارات المليارات من رأس دبوس!
ما عمر الكون في الدين؟ وما عمره في العلم؟
عمر الكون، في الدين، كما سجله سفر التكوين، بَدْءاَ من خلق آدم ونسله هو أقلّ من 6 آلاف عام (لا تظنوا أنّكم ضحيّة خطأ مطبعي). نعم، أقلّ من ستة آلاف عام، أي إن الله خلق العالم بالتّزامن مع بناء جدار الصين العظيم (الألف الرابعة ق.م)! التقويم الرسمي للدولة الاسرائيلية تبنّى تقويم سفر التكوين لخلق العالم: 5 آلاف عام و…
بدوره تبنى الإسلام شجرة نسب آدم، الذي عاش حسب سفر التكوين 930 عاماً، الى نوح : "فكانت أيام نوح 950. ومات"(التكوين، الإصحاح 9 الآية29). نقل القرآن عن سفر التكوين هذه الآية قائلاً: "لقد أرسلنا نوحاً الى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً"،أي سدس عمر الكون! علماً بأنّ عمر الإنسان منذ 6 آلاف عام كان قلّما يتجاوز 30 عاماً. وأكبر انسان أحفوري معمِّر كان عمره 45 عاماً!
نوح سفر التكوين هو شخصية أسطورية ترجمها سفر التكوين عن ملحمة [قصيدة] جلغامش، حيث امر أحد الآلهة السبعة "أُوتُو باشتيم" [نوح] بأن: "يبني سفينة ويحمل اثنين من كل ذي حياة"… لإنقاذهم من الطوفان الذي سيأتي على كل شيء لأنّ البشر أزعجوا بضوضائهم راحة نوم الآلهة فقرّرت الانتقام منهم بإبادتهم بالطوفان. يترجمها النبي حزيقال في سفر التكوين: " ورأى الربّ أن شرّ الإنسان قد انتشر في الأرض(…) فندم الربّ على صنع الإنسان على الأرض وأسف على ذلك في قلبه" (التكوين الإصحاح 6 الآيتان 5 و6 ). عندئذ قرر الانتقام من مخلوقاته فأمر نوحا ببناء سفينة والدخول فيها هو وأولاده ونساؤه وأمرهُ بأن يدخل معه الى السفينة: " من كل حيّ (…) اثنين (…) لتحتفظ بها حية معك" (سفر التكوين 6 الآية 8). يستعيد القرآن حرفياً تقريباً ترجمة سفر التكوين لقصيدة جلغامش "قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ… فأوحينا اليه أن اصنع الفُلك بأعيننا ووحينا؛ فإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهلك (عائلتك)… وَمِن كلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَينِ اثْنَينِ" (هود 40، المؤمنون 27 الرعد 3).
فما هو عمر الكون كما توصل اليه الفلك الفزيائي ؟ بين 10 و12 مليار سنة. وهل سيفنى الكون ومتى؟
إذا صدقنا اليهودية والمسيحية والإسلام، فالكون يكُون قد فَني منذ قرون! أنبياء اسرائيل ظلوا جميعاً ينذرون اليهود بأنّ ساعة فناء الكون قد دقت. رسالة القديس بطرس الأولى تنذر اليهود بأنّ "نهاية كل شي اقتربت" (الإصحاح 4 الآية 7). استلهم القرآن هذه الآية: "اقتربت الساعة…" (القمر 1). يفسرها الطبري: " دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة (…) وهذا إنذار من الله (…) إنذار لعباده بدنوّ القيامة وقرب فناء الدنيا"! حديث "قطعيّ الثبوت "، أي رواه البخاري ومسلم، يقول "لن تبقى نفس منفوسة بعد 100 عام"!
يعلّق عليه الأزهري أحمد أمين في "ظهر الإسلام"، على ما أذكر : ها نحن في القرن 14 ولا زلنا أحياء نرزق!
بالمناسبة يشخّص الطب النفسي "هذيان نهاية العالم" Le délire de la fin du monde بما هو أحد اعراض الفُصام.
فما هي فرضيات الفلك الفزيائي عن نهاية الكون؟
فرضيتان: الأولى تتوقّع أنّ الكون سيواصل مسار تمدّده الذي دشّنه بـ"انفجاره" منذ 10 أو 12 مليار سنة، وكلما تمدّد تناقصت حرارته إلى أن يتجمّد بعد حوالي 14 او 15 مليار سنة. أما الفرضية الثانية، الأحدث، فتتوقّع أنّ الكون موعود بالخلود: "وهو يتطور بتناوب فترات تجمّع وتمدّد المادة على نحو دوري الى ما لا نهاية" (الفلكي الفزيائي الفرنسي : كلود أليغر).
كيف استقبلت الأديان التوحيدية الثلاثة، المحاربة للعلم منذ زمان طويل، لحظة تكوّن الكون؟ لا أعلم شيئاً عن شيوخ الاسلام وآياته، لعلهم لم يسمعوا بها! أمّا اليهود الليبراليون فلم يعترضوا عليها، لأنهم اعترفوا منذ أكثر من نصف قرن من اكتشاف نظرية البيغ بانغ، بأن العهد القديم استلهم أساطير البلاد التي عاش فيها يهود الشتات. بينما اعتبرها اليهود الارثوذكس مجرّد لغو! لماذا؟ "لأن سفر التكوين كلام الله والله معصوم من الخطأ"!
الناطق باسم المسيحية الكاثوليكية، البابا ييوس(بي) 12 (1876 -1958) استقبلها بما استقبل به أسلافه الاكتشافات العلمية منذ 5 قرون: شرّ استقبال، معتبراً نظرية تكوّن الكون الفلكية الفزيائية "مؤامرة" أخرى من سلسلة تآمر العلم على الدين للقضاء عليه لحساب الإلحاد. ييوس 12 رأى في فلسفة الأنوار المادية والفلسفات والعلوم التي استلهمتها قصداً شريراً لتقويض الدين من أساسه وفتح الباب على مصراعيه لانتشار الإلحاد. منذ كان سكرتير دولة الفاتيكان الى أن اصبح رئيسها، كان وسواسه الدائم هو محاربة العلم والفلسفة المادية إلى درجة أنه، كما قيل، طلب من علماء النفس الكاثوليك عدم دعوة ابنة فرويد، آنّا، إلى أيّ مؤتمر. وأصدر فتاوى بتكفير التحليل النفسي الفرويدي الملحد وبتكفير فلسفة هايدجر وسارتر الملحدَيْن… لقد كان مصابا بالخوف الهستيري من الإلحاد، كغالبية أسلافه في قرون محاكم التفتيش، وكجلّ شيوخ الاسلام اليوم.
إعلان نظرية تكوّن الكون أعاد الى ذاكرته التكفيرية فيلم مؤامرة "تكذيب العلم للدين" وخاصة لأساطير سفر التكوين. فسارع إلى رفضها وتكفيرها لتصادمها مع "نص قطعي الدلالة" : سفر التكوين القائل بأن الله خلق العالم في 7 أيام ثم استراح من عناء الخلق في اليوم السابع ! فكيف تزعم الاستروفيزيك أنّ الكون تكوّن في "كسر من المليار من الثانية"؟ إنّها المؤامرة الدائمة على الدين إذن!
نزل خبر تكفير البابا لنظرية تكوّن الكون كصاعقة على رؤوس العلماء الكاثوليك في العالم كله قائلين : إنّه صدام جديد مروّع بين المسيحية والعلم لن تخرج منه سالمة هذه المرة! فراسلوا البابا يناشدونه التراجع فوراً عن رفضه للنظرية. وتدخلت الشخصيات الكاثوليكية الإيطالية، من رئيس الجمهورية والحكومة إلى رؤساء البلديات، بل يقال إنّ الجنرال ديجول بما هو كاثوليكيّ تدخل أيضاً، مطالبين البابا بالتراجع. لكن يبدو أن التدخل الحاسم، الذي أرغم هذا البابا الهستيري على التراجع، كان تدخل الفلكي الفزيائي البلجيكي، جورج لوميتر Le Maître ، فقد كان أحد العلماء الذين اكتشفوا النظرية. ولم يكن كاثوليكيا فحسب، بل كان ايضاً رئيس دير كاثوليكي. وقد يكون أعاد تجربة الـ"بيغ بانغ" المخبرية أمام البابا بحضور أصدقائه من الفلكيين الفزيائيين الكاثوليك..
قال لومتير للبابا: هذه النظرية سيدرسها طلبة العالم، وسيعلمون أنّك رفضتها. وعندئذ سيختارونها ويتركون المسيحية.
ربما جبراً لخاطر البابا، قبل جورج لومتير ترؤس "أكاديمية الفاتيكان" التي أنشأها بيوس 12 قبل شهرين لمحاربة العلم والعقل. لكنّ الفلكي الفزيائي والراهب الرائع صالحها، ربما إلى الأبد، مع العقل والعلم. فهذه الاكاديمية هي التي اقترحت على البابا يوحنا الثاني في 1999 الاعتذار عن اضطهاد الفاتيكان للكاثوليكي، جاليليو، وللملحد، داروين، ففعل معترفاً في خطابه أمام الاكاديمية لتبريره قراره بأن "نظرية التطور لم تعد مجرد فرضية بل هي منذ الآن نظرية علمية ".
تُرى هل سيوجد في يوم قريب في "الأزهر" أو في "قمّ" أكاديمية علوم حديثة، يديرها علماء العلم وليس "علماء" الدين، لردع الشيوخ الهاذين السنّة وإخوانهم آيات الله الشيعة، عن إصدار الفتاوى الغبيّة والإجرامية بتكفير العلم والعلماء، كفتوى رئيس علماء السعودية في التسعينات، العثيمين، بـ"قطع ايدي وأرجل العلماء، الذين استنسخوا النعجة (دولي)، من خلاف "مضيفاً في نوبة هذيان إجرامي: وقيل يُقتلون"؟ على الأرجح لا! فشيوخ الله وآياته شبّوا وشابوا على التكفير وليس على التفكير!
العفيف الأخضر
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد