الـواسطـة والطـائفـة ورأس المـال الـريعـي
سيطرة المنظار المركزي ـ الأوروبي بشقيه الليبرالي والاشتراكي جعلت الباحث يرى «ما يريد» لا ما يشاهد على أرض الواقع. فكل ما لا يتناسب مع جهازه النظري اكتفى بشتمه ولعنه. فالطائفة والطائفية مثلا صارتا مرضا ولعنة وسرطانا، وبالإجمال آفة أخلاقية يستحسن تجنبها. منهم من رأى اليها كمقولة فلسفية فكرية تتعلق بالدين أو الدين نفسه، ومنهم من رأى إليها كطبقة ـ طائفة أو كطبقة ذات وجه طائفي وهناك من اعتبرها جماعة ثقافية ـ دينية أو حضارة خاصة، أما الرؤية الغالبة فكانت سياسوية، الاسلام السياسي، المارونية السياسية الخ..
بقيت الطائفية في وعينا، أو لاوعينا، نظاما عفنا يقتصر على لبنان الاستثناء، إلى أن انفجرت المجتمعات العربية مؤخرا. فبعد «أطياف» العراق اكتشفنا قبائل ليبيا وبربر الجزائر وأمازيغ المغرب وآل الأحمر في اليمن وجهات تونس وأقباط وسنة مصر وعلوية سوريا وسنتها، وهلمجرا. فاجأتنا الانتفاضات العربية بالكشف عن اجتماع لا نعرف عنه إلا القليل. الاستثناء صار القاعدة، وبأن عزوف المثقفين عن مقاربة ملموسة لمجتمعنا نحن، وعن تحديد تركيبه الاجتماعي، نأيا بنا عن فهم مجتمعاتنا وعن إنتاج معرفة حقيقية بها.
في هذا السياق وفي إطار الاسهام بسد هذا النقص قدمت فرضية في مقالة سابقة تعتبر الطائفة قرابة دينية تتميز عن القرابات الأخرى التي عرفها تاريخ مجتمعاتنا باستعارة الدين أو المذهب من الدين كذريعة قرابة بدلا من قرابة الدم المحدودة الحجم بالضرورة. الطائفة هي نوع من استمرار الاجتماع القرابي الرحمي وأرقاها يناسب ملكا أوسع من السابق، كما انه يناسب نمط الاقتصاد الرأسمالي الشكلي ـ الريع ـ الذي هيمن الغرب بواسطته على منطقتنا.
وبما اننا نعرف أن القرابة الرحمية متحد اجتماعي كلي، أي انه كيان يهيمن على مستويات الاجتماع كافة من سياسية واقتصادية وايديولوجية، فإن الطائفة، كقرابة، قد ورثت هذه الأدوار كلها ايضا. فهي تتعاطى السياسة وتدير الاقتصاد مباشرة وتقدم عقيدتها وتفسيرها الديني للدين. لكن طريقة اشتغال الطائفة أعقد من القرابة الرحمية، لذلك فهي تلجأ إلى أواليات وسيطة تبدو لمن يدرسها من خارج سياقها وكأنها عمليات فساد أو رشوة.
من أهم هذه الأواليات تقنية «الواسطة» التي نادرا ما توفر جانبا من جوانب حياتنا اليومية. وبالرغم من ذلك نادرا ما نراها تنعكس في دراساتنا الاجتماعية أو السياسية إلا تحت خانة الفساد والعفن السلطوي. ذلك ان فهمنا للواسطة غلب عليه فهم الغرب لها كجزء من تعطل النسق لا من صحته. فالواسطة، في الغرب استثناء يشير، بالاضافة لانتهاكه للقانون، إلى عطل في نمط اشتغال الاقتصاد والإدارة ينسب إلى الفساد لأنه يسد إمكان وصول الكفاءات الضرورية لإنجاز العمل المطلوب في المنشأة الاقتصادية.
ونظرا إلى شروط الانتاج المعقدة تقنيا والحاجة إلى ضغط الأكلاف وتنزيل الأسعار للحصول على رقع أكبر من السوق وعلى أعلى الهوامش الربحية الممكنة في مواجهة المنافسة المتزايدة باستمرار، فإن الواسطة قد تكون عقبة في توظيف الأعلى كفاءة، ومرضاً يضرب الإنتاجية والتنافسية الاقتصادية للمنشاة. العقلانية الاقتصادية حاجة موضوعية تفرض التنظيم والترشيد والبراعة والاكتشاف من هنا: السيرة الذاتية وامتحانات الدخول والمقابلات المتكررة وأقسام الموارد البشرية.
أما في بلادنا، بلاد القرابات الدينية والرحمية، من عشائر وقبائل وطوائف، حيث تتميز النشاطات الاقتصادية بقلة المكننة وببساطة العمليات والمهمات المطلوبة نسبيا، وبغياب المنافسة الفعلية وسيطرة الاحتكار القرابي، ونظراً لهيمنة الرأسمال الشكلي أو الريعي، تلعب الواسطة دوراً طاغياً ومميزاً، سواء في الميدان الاقتصادي أم في الميدان الاجتماعي.
ففي المجال الاقتصادي تمثل الواسطة قناة توزيع الريع الإجمالي الذي تحصل عليه القرابة ككل (الحجم) ثم توزيع هذه الحصة الإجمالية على «عظام رقبتها»، وفق توزيع بالطبع غير متكافئ. وفي المجال الاجتماعي تحتل الواسطة مكانة أساسية في تصليب القرابة وإعادة إنتاجها. فالظاهرة عندنا ليست عطلا استثنائيا ولا مسألة عرضية أو مؤقتة بل هي في صلب نسق قرابي، ديني أو رحمي، لا مكان فيه للصدفة أو الفساد أو الفوضى.
الواسطة هي واسطة إعادة إنتاج اللحمة القرابية بواسطة الغلة، وهي تقنية عالية المهارة والإتقان. فالناس لا يمكنها الاحتفاظ طويلا بقرابتها وانتمائها وهويتها فقط على قاعدة صلة الدم أو الرحم أو المذهب والدين ـ قرابة روحية ـ وبدون نسق يؤمن شروط العيش المادي والاقتصادي لأفرادها. كما انه لا حياة مادية ممكنة للفرد إذا شذ أو خرج على طاعة النسق هذا. الانتماء المحدد إذاً ليس ثقافيا ولا دينيا ولا «وعيا ناقصا» كما يظن الكثير من البحاثة. الانتماء مسألة حياة أو موت بالنسبة للفرد القرابي، ولذا تتفانى الناس بالدفاع عنه.
الحصول على عمل أو خدمة أو إجراء معاملة إدارية أو قانونية ليسا مسألة خضوع أخلاقي للفوضى أو للفساد بل النسق المنظم الذي يمر حكما بقناة «خارجية» تجيز وتحلل، أو لا، مشروعية الطلب، بناء على معايير قرابية صرفة. هذه القناة هي الواسطة وهي على أي حال لا حاجة لها من الناحية الاقتصادية والعقلانية الرأسمالية ـ كلفة إضافية غير مبررة. أما مبررها الوحيد فموجود خارج عقلانية الاقتصاد التنافسي وقانونية الإدارة والدولة. فالواسطة حاجة الاجتماع القرابي لإعادة إنتاج لحمته وري شرايينه عبر إعادة توزيع الغلة الريعية. الريع وحده يمكنه ان يتحمل هذه الكلفة الاضافية أما الربح فلا.
الواسطة عندنا إذاً علاقة توزيع ريعي بين «قريب وقريب»، بين قريب محتاج وقريب نافذ يحصل بموجبها طالب العمل أو الخدمة على دعم من خارج علاقات العمل والاقتصاد للمنشأة الاقتصادية. الداعم لا يمثل المنشأة الاقتصادية بل مظلتها القانونية والاقتصادية، غطاؤها السياسي والقانوني من ضمن علاقة معقدة ومركبة خلافا لما يظهر للوهلة الأولى. أي ان طالب العمل أو الخدمة لا يستطيع أن يدخل في علاقة مباشرة مع «النافذ» الأخير بل يمر عبر قنوات قرابية هرمية متعددة قبل الوصول إلى النافذ الأخير.
الواسطة إذاً ممر إجباري اجتماعي مادي ينظم و«يدوزن» الحياة الاقتصادية والاجتماعية وليست مسألة أخلاقية أو فردية، لأنها قناة يتم عبرها تنظيم التوازن في سوق العمل، أي عرض العمل والطلب عليه.
في الغرب، الرأسمالي الفعلي، حيث السعي إلى الربح يدفع إلى شحذ كل الوسائل التقنية والبشرية وتنظيمها وفق أعلى الأشكال العقلانية لكي تصبح تنافسية، تسعى المنشأة الاقتصادية بداهة إلى الحصول على اليد العاملة الموصوفة. أما عندنا في الشرق، حيث لا هيمنة بعد للرأسمال الفعلي، كما أدعي، فـ«المنشأة الاقتصادية» لا تزال جزءا من نشاط القرابة الاقتصادي وحقلا من حقولها. وآية ذلك ان المنشأة هذه لم تولد في المخاطرة الفردية، استثمار رساميل فردية، التي تحتاج إلى صراع اقتصادي لإثبات نفسها وسلعتها أو خدمتها في السوق بل هي تولد من رحم القرابة وبالزواج معها منذ اللحظة الأولى، ابتداء من تركيب الأنصبة الرأسمالية مرورا بـ«الرخصة» والموقع الجغرافي وصولا إلى السوق والزبائن...
الكل مضبوط في منظومة محكمة لا مجال ماديا للخروج منها. فإذا كانت المنشأة الاقتصادية تتمتع والحال هذه بحماية قرابية، بمظلة الاحتكار الإداري، الوكالة الحصرية مثلا، أو بالتحكم بمفاصل سوق التوزيع، فإنها لا تعود بحاجة ماسة إلى الكفاءة العلمية والمهنية بل إلى كثير من الولاء والطاعة وقليل من الدربة، إلى كثير من «الشطارة». الربح الاقتصادي ليس إذاً ما يحرك المنشأة الاقتصادية في الشرق لأنه «متوافر» مع «خلقتها» في أحضان القرابات. أي انه ريع لا ربح، امتياز لا مخاطرة. الأجر عندنا هو العلاقة بين «وزن» الأجير في القرابة والمنشأة، لا بين وزن كفاءته والحاجة العلمية والاستثمارية لها.
الريع نمط. عيشنا والقرابة والواسطة قنواته. بالتالي فهما ليسا عنصرا «طارئا» على النسق بل النسق نفسه، وهما ليسا بقايا نمط سابق بل صلب النمط الحالي، وهما ليسا فسادا للقانون أو للأخلاق بل السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة وكسب وسائل العيش. القرابة لا تزال شكل وجودنا الاجتماعي الرئيس وعليه فهي بناء مادي لا صلة له بالمقاييس الأخلاقية أو التربوية أو بالوعي أو بإصلاح النفوس أو النصوص.
فهم الواقع الملموس شرط التغيير الاول، أما عدم فهمه، فلا يتيح للمثقف إلا اللعن والشتيمة أو الدعوة والتبشير.
روبير البشعلاني ـ السفير
إضافة تعليق جديد