الإمبريالية تغتال الحكايات (1)
الجمل- آندريه ڤلتشيك*- ترجمة: د. مالك سلمان:
لا شيء يخيف الفاشية وأخاها الأصغر الإمبريالية أكثر من الأشخاص الحقيقيين وقصصهم الصادقة.
هذا لأن القصص العادية للناس العاديين مغرقة في صدقها وتعكس بدقة المخاوفَ والرغبات والأحلامَ البشرية الحقيقية إلى درجة أن إيديولوجيي ودعائيي النظام الغربي, المدعوم بنوع من الواقع المفرط المزيف, يشعرون أن بقاءهم مرتبط بإبادة تلك القصص, وإزالتها عن وجه الأرض, وحتى مسحها من ذاكراتنا.
تقف المشاعر الإنسانية الصادقة في الطريق؛ فهي لا تزال تقاوم, وتسدُ الطريقَ أمام "تتجير" الحياة والتطبيق الكامل للمفاهيم الشاذة التي قدمتها "الإمبراطورية". ويتم توصيف مثل هذه المقاومة وتمجيدها في القصص الحقيقية, مما يجعلها "خطرة جداً" ومميتة بالنسبة إلى النظام.
الطبيعة الإنسانية متفائلة وطيبة في أساسها, حتى أنها تكاد تكون منصفة وتشاركية. فإذا لم يتم استغلالها بشكل كبير واستغباؤها والاحتيال عليها, فإنها تضع حياة الآخرين فوق الربح المادي الصرف. فهي مصممة لتكونَ رحيمة ومتسامحة ومتقبلة. وهي ليست كاملة أو مثالية, بل على العكس من ذلك, ولكن كما أعلنَ الفيلسوف والكاتب الأمريكي ألبير كامو في نهاية روايته الرائعة "الطاعون": "البشر يمتلكون ما يثير الإعجابَ أكثر مما يثير الاحتقار."
كل هذه أخبار سيئة بالنسبة إلى أصولية السوق وأسياد العالم. فهم بحاجة إلى ضمان أن أغلبية الجنس البشري الساحقة تتكون من أفراد جشعين, وأشخاص عدوانيين, أشخاص لا يشعرون بل يستهلكون, وإذا فكروا فإنهم يفكرون في امتلاك أشياءَ أكثر واستهلاك أشياءَ أكثر, ولكن بالتأكيد ليس في كيفية بناء مجتمع يسوده الاحترام والمساواة.
* * *
كل حياة بشرية مصنوعة من القصص, من القصص الحقيقية والصادقة. بعض هذه القصص "شائعة" ويمكن أن تحدث, بتنوعات معينة, في أي جزء من العالم.
شاب يلتقي بفتاة, ويكون حبُهما "مُحَرَماً", لأن كلاً منهما ينتمي إلى طبقة مختلفة, أو إثنية مختلفة, أو دين مختلف. يحاربان سوية من أجل مستقبلهما ضد كافة التقاليد القمعية والتابوهات, ويفوزان أو يسقطان. ولكن بعد صراعهما الملحمي من أجل السعادة, لن تبقى قريتهما, أو قبيلتهما, كما كانت من قبل.
يتمشى إبنُ رجل ثري في قرية بائسة, بالقرب من قصره الريفي. ويحدث أن ياتقي برجل عجوز أو امرأة عجوز. يجلسان قليلاً ويتحدثان.
الفلاح الفقير يوصل رسالة إلى سيد إقطاعي شاب. وبعد ذلك, تثير تلك الرسالة أسئلة وشكوكاً وأفكاراً؛ ثم يتابع دراسته. وبعد عقد من الزمن ينضم إلى الثورة, للإطاحة بالطبقة التي ينتمي إليها. كافة رجال ونساء الثورة عاشوا تلك اللحظة التي أدركوا فيها الحقيقة على يد شخص ما في طريق ريفية مغبرة: تشي, ولينين, وإنغلز, وماركس, وماو, وفيديل, وتشاڤيز.
بعض القصص فريد ومؤثر بشكل كبير:
كما هو موثق في كتاب قيم لرون ريدينور بعنوان "الارتداد", يحاول عملاء "سي آي إيه" تجنيدَ مجموعة من الكوبيين, رجالاً ونساءً, ويطلبون منهم تدمير بلدهم, وقتلَ أناس أبرياء, وتفجير الطائرات المدنية في الجو, واغتيال القادة الكوبيين, وتسميمَ البشر والمحاصيل بالمواد الكيماوية. يقبلون العرض, ويأخذون الأموال المقدمة. بعد ذلك مباشرة ينضمون إلى الاستخبارات الكوبية ويعملون طيلة سنوات "عملاءَ مزدوجين", لكي يحموا وينقذوا وطنهم الذي يحبونه. ليس هناك لحظة تردد واحدة. فالوطن الأم ليس سلعة, وهو ليس للبيع! يتم تدمير الحياة الشخصية لبعضهم في هذه العملية. لا يحتفظون بالأموال التي يتقاضونها. يقدمون رواتبهم المدفوعة من "سي آي إيه" إلى بلدهم, لشراء الأدوية وحاجيات أخرى. يقدمون المعلومات المزيفة للأمريكيين الشماليين. وفي نهاية المطاف تخرج قصتهم إلى العلن. وينقذون كوبا.
هذه هي القصص العظيمة عن النزاهة, والشجاعة, والتقدم.
"حياتي هي قصتي", هذا ما قاله مرة مخرج سينمائي ألماني مبدع اسمه ويم ويندرز. فهوية كل شخص, سواء كان ثرياً أو فقيراً, متعلماً أم بسيطاً, تتكون من الذكريات والأحلام, وشبكة من القصص المعقدة والساحرة.
لهذا السبب بالذات أصبحت القصص الحقيقية هدفاً للقتلة المأجورين من قبل "الإمبراطورية".
لكي تتمكن من النهب والهيمنة والاستغلال, افترضت "الإمبراطورية الغربية" أن عليها إسباغ الشرعية على أعمالها الإرهابية, من خلال الارتقاء بتلك الأفعال إلى أعلى مستوى أخلاقي.
للقيام بذلك, كان يجب تفكيك التفكير الفلسفي والمنطقي التقليدي, ومن ثم تقديم "التفكير الجديد". يجب توليد نوع جديد من القصص, كما يجب تغيير الطريقة التي يتم بها سرد القصص.
يمكن للبعض أن يسأل: "كيف يمكن تقديم وتعليب الجريمة بصفتها نوعاً من الغيرية"؟
يمكن ذلك, بالطبع, في تلك المجتمعات التي تفهم "الواقع" بعد تعرضها لجرعات يومية من الإعلانات والدعاية, وهما وجهان لعملة واحدة, مفردتان مترادفتان للكذب والخداع.
لكي تتمكن "الإمبراطورية" المتوحشة من تقديم نفسها بصفتها منقذاً للعالم ويتم اعتبارها على هذه الشاكلة, يجب أولاً تدمير وتخريب التفكير التحليلي للناس, كما يجب تقليص قدرتهم على التفكير. يجب أن تصبحَ القصص المقدمة لهم "خفيفة", و "مسلية", وأبعد ما تكون عن الواقع.
يجب تحطيم الروح الإنسانية, وإعادة تشكيل الطبيعة البشرية.
ومن ثم يجب جر كل ما هو حقيقي ونزيه ونقي في الناس في وحل العبثية الكتيم. يجب على الناس أن يبصقوا على كل ما كانوا يعتبرونه مقدساً, كما يجب تحقير وإذلال النزعة التفاؤلية وقتل الطيبة والدفء العاديين.
عوضاً عن ذلك كله, يجب حقن الناس بالبدائل الجديدة, ولو بالقوة إن اقتضت الضرورة ذلك.
هذا لأن أفعالَ الإمبريالية, مثل النهب وتشييء الحياة نفسها, هي أشياء غير طبيعية؛ فهي أشياء مروعة ومَرَضية. والطريقة الوحيدة لجعل هذه الأشياء مقبولة هي إلغاء الواقع ومن ثم استبداله بشبه واقع "جديد" وعنيف وغير منطقي.
* * *
إذا اختفى ملايين الناس بشكل مستمر, في الآلاف من الأفلام الهوليودية السخيفة, وإذا غزا ضحايا المتحولات والرجالُ الآليون والإرهابيون والحشرات العملاقة أو الأحياء الدقيقة الأرضَ, عندها يصبح الناسُ قساة و "مستعدين للأسوأ". وبالمقارنة مع الرعب الكامن في ذلك الواقع المزيف, تبدو المعاناة الحقيقية لملايين الرجال والنساء والأطفال في أماكنَ مثل العراق وليبيا أو أفغانستان تافهة.
"أطفالهم يصابون بالسرطان بسبب اليورانيوم المنضب الذي ينبعث من قنابلنا, أو أنهم يتحولون إلى أشلاء ... ولكن تذكر أن أطفالنا يؤكلون من قبل عناكبَ عملاقة أو يُقتلون على أيدي الإرهابيين العرب ..." لا أحد يتلفظ بهذه الكلمات, بالطبع. لكن هذا المونولوغ يحدث في منطقة اللاوعي.
إذا بدأ قرش ضخم مزيف بالتهام الممثلين الذين يلعبون دورَ مصطافين بريئين على شاطىء خلاب, فإن رعباً خيالياً كهذا يصدم المشاهدين إلى درجة أكبر بكثير مما يصدمهم عنف حقيقي يتعرض له السجناء في أحد مراكز الاعتقال والتعذيب الأمريكية, مثل أولئك السجناء في "أبو غريب" أو "غوانتانامو".
الواقع المزيف مصمَم لتقزيم الواقع.
باستخدام المفهوم نفسه, يميل المشاهدون إلى الشعور بصدمة أكبر عندما تستمر كاليفورنيا في الانزلاق في المحيط الهادىء, في أحد أفلام الكارثة, أكثر مما يشعرون عندما يقرؤون عن عشرات الحكومات حول العالم التي يتم إسقاطها من قبل "الإمبراطورية" لمجرد أنها "نزيهة زيادة عن اللزوم", حتى لو قضى الملايين من الناس في هذه العملية.
من الناحية النفسية لم يَعُد هناك, بالنسبة إلى الكثير من الناس, حدٌ فاصل بين الواقع والخيال. فقد أصبح مستهلكو أفلام العنف والإعلام الجماهيري منيعين على الرعب الحقيقي الذي تنشره "الإمبراطورية" في كافة أرجاء العالم, لأنهم سبق أن شاهدوا أشياءَ "أكثر إثارة للرعب" تنبثق من الشاشات.
وفي الوقت نفسه, يتم تشفير التلقين الفكري بشكل دائم في عقول الناس؛ إذ لا يعودون قادرين على التمييز بين دعاية مباشرة تطلقها محطة "بي بي سي" ضد الصين أو كوبا والواقع الذي يواجهونه عندما يزورون هذين البلدين.
يقوم البعض الآن بإطلاق الأحكام على العالم ويتخذون القرارات السياسية, من بين قرارات أخرى, استناداً إلى ذلك المزيج من الواقع والوهم: "قتل الصينيون بوحشية الآلاف من الناس عندما قصفوا إحدى السفن الخيالية, كما شاهدنا في فيلم ‘الآكشن’ الهوليودي الأخير, ولذلك علينا أن نمولَ ‘المعارضة, ونرسلَ سفنَنا الحربية إلى بحر الصين الشرقية, لردع التوسع الذي تخطط له بكين."
وإذا استمرت استوديوهات الأفلام, ومعها كتاب السيناريوهات الرخيصة, بشيطنة الشعب الصيني, والأمريكيين الجنوبيين, والروس, والعرب, والإيرانيين, والكوريين الشماليين, وآخرين كثيرين, فإن الخطر الوهمي سوف يبدأ – بطريقة ملتوية ومدروسة بعناية – بتبرير الاعتداءات الفعلية الكثيرة التي تقدم عليها قوات "الإمبراطورية" العسكرية.
* * *
قامت "الإمبراطورية", التي تتكون من الأنظمة الفاشية الغربية التي تسمي نفسَها "حرة" و "ديمقراطية", بقتل مئات الملايين من الناس في كافة القارات. فقد ألقت جبالاً من القنابل والأسلحة البيولوجية على العديد من البلدان؛ كما أجرت التجاربَ على البشر, وأسقطت معظم الحكومات التي كانت مصممة على خدمة شعوبها. اغتالت الرؤساء ودربت رجالَ العصابات الذين قامت بترقيتهم إلى أعلى المناصب العسكرية, كما حدث في إندونيسيا وتشيلي ومصر والسلفادور وأماكنَ كثيرة أخرى. حيث قدمت التدريب لهؤلاء القتلة – الجنود في القواعد العسكرية الغربية في "فن" الاستجواب والتعذيب والاغتصاب العقابي, بالإضافة إلى "اختفاء" المعارضة.
لم يسفك أي نظام آخر هذا القدر من الدماء؛ ولم ينهب أي نظام آخر هذا الكم من الموارد أو يستعبدَ هذا العدد من البشر, مثلما فعل هذا النظام الذي يُطلب منا أن نمجده, هذا النظام الذي يسمي نفسَه "الديمقراطية البرلمانية الغربية" أو "الملكية الدستورية الغربية".
لكن كتابَ "القصص الجديدة" ومُصَنعي الواقع المزيف يبذلون كل الجهد لإعاقة طريقة التفكير هذه. فليس هناك أي نقاش حول حقيقة أن العالم الآن مُستَعبَد بشكل كامل من قبل الكولونيالية الجديدة الغربية, وأنه خاضع ومقموع إلى أقصى درجة ممكنة.
لقد تم تغيير الماضي وأعيدت كتابته, بالتعاون مع الأكاديميين وما يدعون ﺑ "الليبراليين" و "النُخب الخلاقة". حيث يتم تكرار الأكاذيب الغريبة آلاف المرات التي تصبح حقائقَ, كما اقترحنا بلسان المنظر الإيديولوجي الأول لألمانيا النازية. فكما لاحظ جوزف غوبلز, بذكاء, منذ عدة عقود: "إذا كررت كذبة بشكل كافٍ, فإنها تصبح الحقيقة."
يتم تكرار الأكاذيب عن الصين, والاتحاد السوفييتي, وأمريكا اللاتينية, وحول الكولونيالية الغربية, والكولونيالية الجديدة, و "الحرب الباردة", وأفغانستان, والعديد من الأماكن والأحداث الأخرى. وقد تم اجتثاث كافة القصص الأخرى المتعلقة بهذه المواضيع وإسكاتها أو – على الأقل – تعريضها للسخرية, باستثناء تلك القصص التي تم اختيارها والموافقة عليها واستخدامها في الدعاية.
داخل "الإمبراطورية نفسها, لا أحد يحتج تقريباً, إلا عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بأجور أعلى وامتيازات أفضل. فقد أصبحت الجماهير الغربية المجموعة البشرية الأكثرَ تواطأ وسلبية في العالم. وهذا واضح من الفن الذي تنتجه وتستهلكه, ومن انتماءاتها السياسية, ومن طموحاتها.
ظهرت مفارقة مذهلة, لم يلحظها أو يعلق عليها أحد: إن النظام, الذي ينادي بالخيار الفردي والتمركز الشديد حول الذات, تمكنَ من تقليص جزء كبير من العرق البشري إلى كتلة مطيعة ومعتوهة وخنوعة وخائفة من الكائنات المتشابهة المقتنعة بتفوقها.
فقد تلاشت فردانية الناس بشكل كامل تقريباً. كما أصبحت هويتهم مرتبطة بشكل وثيق, ومعتمدة بشكل كلي, على الهوية المُصَنَعة عبر نجوم التلفزيون, ومغني "البوب", ولاعبي الفوتبول.
* * *
* آندريه ڤلتشيك روائي, وصانع أفلام, وصحفي تحقيقي. غطى الحروب والنزاعات في عشرات البلدان. لاقت روايته "نقطة اللاعودة" إقبالاً وشهرة كبيرين. يتناول كتابه "أوقيانوسيا" الإمبريالية الغربية في جنوب الباسيفيك. كما يتناول كتابه "إندونيسيا – أرخبيل الخوف" إندونيسيا بعد سوهارتو, ونموذج السوق الأصولي. انتهى من الفيلم الوثائقي "مناورة راوندة" حول التاريخ الراوندي ونهب جمهورية الكونغو الديمقراطية. بعد أن عاش عدة سنوات في أمريكا اللاتينية وأوقيانوسيا, يعيش ويعمل الآن في آسيا الشرقية وأفريقيا.. يتبع..
تُرجم عن: ("كاونتربنتش", 3 – 5 أيار/مايو 2013)
الجمل: قسم الترجمة
إضافة تعليق جديد