إدارة بوش والخيارات العراقية
قبل حوالى سنة كان يمكن جورج بوش أن يواجه العالم بتفاؤل لا يدانيه الشك. وقف يعلن عن «استراتيجية النصر في العراق»، متورطاً، لمرّة، وبوضوح، في تحديد معايير يمكن القياس عليها لمعرفة إذا ما كان الاحتلال يتقدّم أو يتعثّر.
تتضمن الدراسة المشار إليها والصادرة عن البيت الأبيض ثمانية أهداف، قيل وقتها إنها «متداخلة»، وإن إنجازها دليل سير نحو الانتصار:
1 ــ إلحاق الهزيمة بالإرهابيين وإخماد التمرّد.
2 ــ انتقال العراق تدريجاً إلى الأمن الذاتي.
3 ــ تأليف حكومة ديموقراطية.
4 ــ بناء سلطات فعالة قادرة على تأمين الخدمات الأساسية.
5 ــ دعم الاقتصاد.
6 ــ إقامة حكم القانون وإحقاق الحقوق المدنية.
7 ــ زيادة الدعم الدولي.
8 ــ تعزيز التفهّم العام للتحالف وعزل المتمردين.
إنها استراتيجية من ثلاثة محاور: سياسي واقتصادي وأمني.
مرّت الأيام، وكان كل يوم منها يحمل تأكيداً جديداً للفشل. صحيح أنه يمكن الحديث عن نجاح هنا أو هناك، إلا أن الصورة الإجمالية، والحصيلة النهائية، تشيران إلى أن هذه «الأهداف» كانت تزداد ابتعاداً.
ولقد بات مسلّماً به، اليوم، أن الوقائع أطاحت هذه الاستراتيجية، وأن النقاش استدار ليصبح متعلقاً بكيفية تحديد الخسائر. ومع أن بوش يطلق التصريحات المتتالية عن أن النصر هو الغاية، فهو يبدو، أكثر فأكثر، غير مصدّق نفسه، وعاجزاً عن الإقناع، وميّالاً إلى إعادة تعريف معنى النصر، دافعاً به نحو التواضع. ولقد سبق الانتخابات النصفية وتلاها نوع من التوافق الأميركي الداخلي على أن شيئاً ما يجب أن يتغيّر وأن التشديد على «المثابرة» و«الاستمرار على الخط نفسه» لم يعد كافياً.
ما يمكن تأكيده، اليوم، هو أن الاستراتيجية الأميركية في العراق خاضعة لمراجعة نقدية، وأن الإدارة سترسو على توجّه جديد وسترسو عليه، وتتخذ قرارات في شأنه، وهي معرّضة لضغوط كثيرة.
أبرز هذه الضغوط هي، قطعاً، التطورات الميدانية. فالمقاومة إلى ازدياد ومعها العنف العبثي. ولم تعد المفاهيم الأميركية الرسمية السابقة قادرة على الإحاطة بما هو جارٍ من توتر. ولقد اضطرت الإدارة، في وثائق رسمية جديدة، إلى الاعتراف بأن «الإرهاب» قد لا يكون المشكلة الأولى.
المصدر الثاني للضغط هو الانقلاب السياسي الذي حصل في الولايات المتحدة نفسها. فمنذ إعلان «استراتيجية النصر»، الطيّبة الذكر، وشعبية الرئيس بوش وحزبه في تراجع. وقد حسم الأمر قبل أيام بإنزال الناخبين هزيمة مدوّية بالإدارة في ما اعتبر استفتاءً على سياستها في العراق. لا يملك الحزب الديموقراطي الفائز خطة بديلة متجانسة وموحّدة. لكنّ الديموقراطيين يعرفون لماذا ربحوا، ويعرف الجمهوريون أيضاً لماذا خسروا، وليس مستبعداً أن ينشأ «تحالف» يسعى إلى تغيير الوجهة، وخاصة أن المعركة الرئاسية في 2008 تكاد تكون بدأت. إذا جاز لأحد، حالياً، تقدير منحى الضغط الداخلي، فالأرجح أنه سيتّجه نحو إيجاد صيغة للانفكاك وإنهاء المغامرة.
المصدر الثالث للضغط هو المبادرات المتكاثرة تحت عنوان اقتراح مقاربة جديدة للأزمة في العراق. التقرير المتوقع صدوره بعد أسابيع عن لجنة بيكر ــ هاملتون هو على رأس هذه المبادرات. ولقد سبق للتقرير أن اكتسب وزناً معنوياً عشيّة الانتخابات، ازداد بعدها بما يحوّل صدوره إلى حدث شديد الأهمية. والمعطيات المتسرّبة عنه توحي أنه سيضع الإدارة أمام خيارات عديدة تلتقي كلها عند ضرورة مغادرة السياسة المتّبعة حتى الآن. ولن يستبعد التقرير الدعوة إلى إشراك قوى إقليمية في البحث عن حل أو الانكفاء العسكري وإدارة المواجهة الميدانية من البعيد ــ القريب.
إلى ذلك عُلم أن هيئة الأركان المشتركة تعكف منذ حوالى شهرين على دراسة الوضع الميداني في العراق بأفق استراتيجي، وأنها ستتقدم باقتراحات إلى المستوى السياسي. ليس معروفاً إذا كان الجيش سيطالب بقوات أكثر أو بقوات أقل في العراق، فهذان الرأيان موجودان عند كبار الضباط، كما عند سياسيين من الحزبين، إلا أن المرجّح أن يصدر الطلب في سياق خطة انكفاء.
ومن مصادر الضغط أيضاً ما يدعو إليه حلفاء من نوع طوني بلير. فالرجل، في خطابه الأخير كما في شهادته أمام لجنة بيكر ــ هاملتون، دعا إلى تغيير المقاربة. والفلسفة التي يتبنّاها هي ضرورة النظر إلى العراق من زاوية الوضع الإقليمي لا العكس واستكشاف إذا كان الإقليم هو جزءاً من المشكلة (كما كان الرأي سائداً) أو من الحل. وفحوى «رؤية» بلير هي الدعوة إلى التقدم على المسار الإسرائيلي ــ الفلسطيني، وتطوير العمل في العراق (دعم الجيش، إلغاء طائفية الأجهزة الأمنية، توزيع الثروة، إلخ...) والتوجّه، تأسيساً على ذلك، إلى إيران (وسوريا) من أجل المطالبة بالانضمام إلى المسيرة أو مواجهة خطر العزلة.
إن بوش المواجَه بهذه الضغوط كلها اختار الإعلان عن أنه أقدم، هو الآخر، على تأليف لجنة تقويم تقدّم خلاصة عملها في خلال شهر. ويفترض باللجنة (تضم ممثلين عن وزارتي الدفاع والخارجية وعن مجلس الأمن القومي والأجهزة الأمنية) أن تجيب عن أسئلة تتعلق بالسياسات ومدى صوابها، وطبيعة الأهداف، والوسائل المستخدمة، وصحّة الاستراتيجيات والتكتيكات...
الغاية من اللجنة العاملة حالياً بإشراف كوندوليزا رايس تمكين بوش من مواجهة الآخرين جميعاً بتصوّر خاص توصّلت إليه الإدارة. وهو شرع يوضح ملامح ما هو مستعد لقبوله وما هو جاهز لرفضه لجهة الانسحاب وتوقيته كما لجهة التعاطي مع القضايا الإقليمية المؤثرة. المواقف الأولى لبوش لا تبشّر بخير كثير وتُظهر أنه قد يستمر في عناده. إلا أن الوقائع التي أوصلت الكثيرين إلى استنتاجات معاكسة لاستنتاجاته مستمرة في فعل فعلها وسترغمه على التأقلم.
جوزف سماحة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد