سوريا وزيف "التدخل الإنساني"
الجمل - أجامو بَركة *- ترجمة: د. مالك سلمان:
تزداد دهشتي كل يوم للسهولة التي يقوم فيها الإعلام الغربي بطمس الخط الفاصل بين ما هو حقيقي وما هو خيالي في تصويره للأزمة السورية. حيث تستمر الصحافة في الولايات المتحدة بالحديث عن "الدبلوماسية الموضوعية" التي تنتهجها إدارة أوباما للوصول إلى حل "سلمي" للنزاع في سوريا. إلا أن تلك القصص التي تدور حول الجهود النبيلة والبريئة لتجنب المعاناة الإنسانية الكارثية التي ألمت بسوريا قد عقمت التواطؤ الدامي لسياسة الولايات المتحدة. فقد كانت الدبلوماسية, بالنسبة إلى الولايات المتحدة, تعني تغييرَ النظام منذ البداية ومن ثم تشجيع قطر والسعودية وإسرائيل, زبانيتها في المنطقة, على التسليح والتدريب والدعم السياسي لحملة عسكرية تهدف إلى تفتيت الدولة السورية.
بعد سنتين, وبعد مقتل عشرات الآلاف وتشريد الملايين وتمزيق النسيج الاجتماعي الحساس للبلد من خلال الأعمال الوحشية الطائفية, فإن المرحلة القادمة في الحرب الدعائية التي تقود إلى تدخل مباشر أكبر من قبل الغرب لإنهاء النظام يتم تنظيمها الآن على شكل "مؤتمر سلام" من المقرر أن يعقد في شهر حزيران/يونيو.
لكن المقاربة الأمريكية للمؤتمر – الذي اتفقت على عقده مع روسيا, التي تحاول المحافظة على وحدة الدولة السورية – تعطي الانطباع أن اللقاء مجرد تمثيلية تهدف إلى تهدئة بعض الأطراف في الكونغرس الأمريكي والمجتمع الأمريكي التي لا تزال مترددة في تأييد مغامرة عسكرية مكلفة أخرى. فمطالبة الولايات المتحدة باشتراط عقد المؤتمر بتشكيل "حكومة انتقالية" لا يكون للأسد فيها أي دور تعني, في الحقيقة, أنه لن تكون هناك أية محاولة جدية لحل النزاع إلا بتغيير النظام واستسلام السيادة السورية. كما يؤكد موقف الولايات المتحدة الهدفَ الحقيقي للمؤتمر والمتمثل في تبرير تدخل عسكري أكثر مباشرة من قبل الولايات المتحدة حالما "يفشل" المؤتمر في تحقيق السلام.
بينما يرى العديد من الناس في كافة أنحاء العالم هذه الألاعيب بوضوح شديد, يبقى الشعبُ الأمريكي – بالإضافة إلى ما كان يُسَمى القطاعات التقدمية و/أو الراديكالية – عرضة لأبشع أنواع الاستغلال والتضليل التي رأيتها في حياتي. إن الفعالية السلسة التي يتم استغلال الشعب بها هي التي دفعتني لأكتبَ مقالة سابقة عن سوريا حاولت فيها تقديم تفسير للأسباب التي مكنت دعائيي الدولة الأمريكية, بما في ذلك الإعلام الرسمي, من إرباك الرأي العام وتقسيم الحركة المناهضة للحرب والإمبريالية.
أعتقد أن أحد أسباب نجاحهم هذا يعود إلى استخدامهم لمفهوم التدخل الإنساني كواحدة من أدواتهم الرئيسة. ففي مقالتي, قلت إن التدخلَ الإنساني, بالإضافة إلى مفهوم "مسؤولية الحماية", قد تطور ليصبحَ السلاحَ الإيديولوجي الأكثر فتكاً التي قدمته منظمات حقوق الإنسان للإمبريالية الغربية منذ سقوط الدولة السوفييتية. حيث أثبت التدخل الإنساني أنه أداة دعائية أكثر فائدة من "الحرب على الإرهاب", لأنه كما أظهرَ الوضع في ليبيا والآن في سوريا, فقد قدمَ تبريراً أخلاقياً للتدخل الإمبريالي الذي يستطيع أيضاً احتواءَ نفس القوات "الإرهابية" التي تتظاهر الولايات المتحدة بمعاداتها. وبالطبع, في نظر الحكومة الأمريكية, فإن الحكومات الاستبدادية الدكتاتورية التي يجب إسقاطها هي فقط تلك الحكومات التي تشكل عائقاً أمام تحقيق مصالح الولايات المتحدة الجيو- سياسية, وليس ملوك الحرية والأخلاق القابعين في السعودية وإسرائيل.
وكما قلت في مقالتي السابقة:
" قدم التدخل الإنساني للدولة الأمريكية الغطاءَ الإيديولوجي المثالي والعقلنَة الداخلية للاستمرار بصفتها ‘الجندرمة’ الكونية للنظام الرأسمالي. فمن خلال تقديم منطق حقوق الإنسان للتأكيد على أن ‘المجتمع الدولي’ يحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية لحماية شعب مهدَد, عمل نشطاء حقوق الإنسان الرسميين على تحقيق نقلة في الخطاب حول حقوق الإنسان العالمية حولت تأكيد ‘مسؤولية الحماية’ من مقولة إشكالية من الناحيتين الأخلاقية والقانونية إلى نوع من الحس السليم. وبسبب رؤيتهم المحدود, لم يخطر لأي من هؤلاء المنظرين أن ما روجوا له كان مجرد نسخة محدثة قليلاً عن ‘عبء الإنسان الأبيض’. إذ إن تدخل الناتو في البوسنة وكوسوفو, والحرب على العراق بهدف ‘إنقاذ’ الشعب العراقي من صدام حسين, والهجوم الأخير على ليبيا الذي أوصل إلى السلطة خليطاً من العرقيين المعادين للأفارقة, قد عزز بين الكثير من الأمريكيين أن فكرة التدخل الإنساني لحماية حقوق الإنسان عبر الحرب العدوانية هي فكرة مبرَرة. والنتيجة بالنسبة إلى صناع السياسة الأمريكية والأهداف المحتملة للعدوان الأمريكي في الجنوب هي أنه في حالة تأطير الحرب بشكل ملائم, يمكن إعادتها إلى مركز الخيارات الإستراتيجية دون أي خوف من ردة فعل الشعب الأمريكي – وهو تطور هام بشكل خاص بالنسبة إلى قوة متراجعة يبدو أنها استنتجت أن عليها استخدام الوسائل العسكرية في محاولة منها للحفاظ على إمبراطوريتها الكونية."
نجح دعائيو إستراتيجية الحرب الأمريكيون بشكل كبير في تأصيل هذه النقلة في الوعي في الجماهير و الحركات المناهضة للحرب والإمبريالية في الغرب التي انكفأت من تلقاء نفسها, باستثناء عدد من المنظمات. إن التأكيد على الحق في مهاجمة أي دولة – بشكل أحادي – لا تراها جديرة بالسيادة ليس تعبيراً جديداً عن إيديولوجيا تفوق العرق الأبيض الإمبريالية ولكن في هذه الفترة الحالية حيث هناك عوائق قليلة أمام الممارسة الكونية ﻠ ‘القوة البيضاء’, فإن تمثل هذا الموقف من قبل الشعوب الأوروبية والأمريكية, بغض النظر عن الإثنية والعرق, قد حولَ العالم إلى مكان أكثر خطورة بالنسبة إلى الشعوب السوداء والسمراء: حيث قتلَ 50,000 في ليبيا, و 80,000 في سوريا, ومليون في العراق, و 30,000 في أفغانستان.
إن تطبيعَ الحرب كتعبير عصري عن مسؤولية الغرب في جلب الديمقراطية الليبرالية والحرية الرأسمالية إلى القطعان غير البيضاء, وحقيقة أن معظم الناس الذين يُقتلون أثناء عملية ‘الإنقاذ’ من قبل الغرب هم من غير الأوروبيين, هما تأكيد مشهدي لمقولات التفوق الأبيض التي يقوم عليها التدخل الإنساني. حيث يتم تصوير الناس الذين يقوم الغرب ﺑ ‘إنقاذهم’ كأشخاص تواقينَ إلى اعتناق أسلوب الحياة الغربية لو كان الخيار راجعاً لهم. ولهذا كان بمقدور مادلين أولبرايت القول بكل صفاقة إن ‘الإنجاز كان يستحق هذا الثمن’, في إشارة إلى اﻠ 500,000 طفلاً الذين ماتوا في العراق نتيجة العقوبات الأمريكية.
ولذلك, بما أن الولايات المتحدة تحضر لشن الحرب في سوريا, على كل من يؤمن بالسلام وحقوق الإنسان الأساسية أن نقنعَ أكبر عدد ممكن من الناس لاختيار السلام بدلَ اﻠ 1% الذين يسعونَ إلى الحرب. إن الحكومة السورية تتمتع بقاعدة اجتماعية كبيرة مكونة من العلويين والدروز والمسيحيين وأعداد كبيرة من السنة الذين يخشون وقوعَ البلاد في قبضة الأصولين الإسلامويين. وهذه حقيقة يتم إخفاؤها عن الشعب الأمريكي. وعلى كل الأمريكيين الراغبين في إنهاء سفك الدماء في سوريا, وأعتقد أنهم يشكلون غالبية الناس, أن يطالبوا ممثليهم بدعم مبادرات السلام الحقيقية التي تحترم السيادة السورية ورغبة جميع الناس في ذلك البلد.
لكن ما يريده شعب سوريا والعالم, والذي طالبَ به الكثيرون, هو أن تقومَ الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون – الأقلية التي تشكل 10% من العالم, والتي تدعي أنها العالم – بالتدخل في مجتمعاتهم التي تعاني من أزماتها الإنسانية الخاصة بها والناتجة عن الرأسمالية المحتضرة وترك بقية العالم وشأنه.
* أجامو بركة: المدير المؤسس السابق ﻠ "شبكة حقوق الإنسان الأمريكية". وهو يعمل حالياً بصفة زميل مشارك في "معهد دراسات السياسة", ويقوم بإعداد كتاب جديد عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة بعنوان "النضال من أجل حقوق إنسان متمحورة حول الناس: أصوات من الميدان".
تُرجم عن ("غلوبل ريسيرتش", 4 حزيران/يونيو 2013)
الجمل: قسم الترجمة
التعليقات
طلب ادخال وصلة
إضافة تعليق جديد