التدخل الأجنبي في سوريا: نحو "حرب أهلية إسبانية" جديدة؟
الجمل - د. مالك سلمان:
من حق الولايات المتحدة الأمريكية تصنيع وتسليح ودعم جيش من "المجاهدين" (هكذا كان صناع القرار الأمريكي يسمون ما عُرف لاحقاً بمقاتلي "طالبان", على الرغم من الجهد الكبير الذي كانوا يبذلونه للفظ الكلمة) في أفغانستان لمقاتلة الجيش السوفييتي المحتل.
ثم من حق الولايات المتحدة الأمريكية أن تستخدمَ هذا الوحش الذي خلقته, بعد انسحاب السوفييت, لتنفيذ عمليات إرهابية في كافة أنحاء العالم تحت مسمى جديد هو "القاعدة" (الذي كان المسؤولون الأمريكيون يبذلون جهداً مضاعفاً في لفظه هذه المرة, "الكاييدا") لزعزعة الاستقرار في بعض المناطق التي يقررون استهدافها إلى درجة دفعت ببعض المحللين السياسيين الغربيين للتساؤل: لماذا يتواجد مقاتلو "القاعدة" في الأماكن التي يتواجد فيها عملاء الاستخبارات الأمريكية فقط؟!
ومن حق الولايات المتحدة, بعد ذلك, أن تستخدم "الكاييدا" واسمَي الوحشين اللذين خلقتهما, أسامة بن لادن وأسامة الظواهري, لمهاجمة شعبها في قلب مدينة نيويورك فيما عرف لاحقاً ﺑ "9/11" (وتصوير الهجوم المشهدي بكاميرات تم إعدادها ونصبُها حتى قبل أن تضرب الطائرة الأولى أحد برجي التجارة العالمية) لفبركة ذريعة فرَخت سياسة "الحرب على الإرهاب" الشهيرة التي أنتجها بعض من أخطر مجرمي الحرب في التاريخ المعاصر, ديك تشيني ودونالد رمسفيلد, لكي تنقضَ بعدها على أفغانستان بحجة محاربة "القاعدة" وحماية الأمن القومي الأمريكي.
وبعد ذلك, من حق الولايات المتحدة أن تبرز دلائلَ قامت بفبركتها "وكالة الاستخبارات المركزية" في "مجلس الأمن" (المتخصص بتفويض الولايات المتحدة بشن الحروب على الأمم والشعوب الأخرى) كذريعة أخرى لضرب العراق ومن ثم احتلاله وتدميره وتقسيمه بحجة امتلاكه "أسلحة دمار شامل" (وهم يحاولون إعادة إخراج نفس المسرحية الهزلية في سوريا اليوم وكأن يداً خفية مسحت التاريخ القريب من ذاكرة البشر), وبحجة حماية الأمن القومي الأمريكي.
ومن حق فرنسا – وكأنها لم تتعب من ماضيها الاستعماري المجيد – إرسال جيوشها إلى مالي لأن لها مصالحَ حيوية هناك, لمقاتلة متطرفين إسلامويين تقوم بدعمهم في سوريا منذ أكثرَ من سنتين.
من حق الجارة والصديقة الحميمة تركيا – التي غزت منتجاتها أسواقَنا, ولا تزال, من االبسكويت والألبسة حتى المفروشات إلى درجة خلنا معها أن استعمارَ آل عثمان قد عاد حنيناً بلا طربوش هذه المرة – أن تهددَ القيادة السورية وتملي عليها ما يمكنها أن تفعله وما لا تستطيع فعله لمقاومة مخطط يهدف إلى زعزعة استقرار البلد وتدميره تم الاتفاق عليه والتحضير له منذ أكثر من ثماني سنوات (وبمقدور المشككين مراجعة مقالة سيمور هيرش "إعادة التوجيه" المنشورة في "نيويوركر" في سنة 2007, والاطلاع على المقابلة الأخيرة التي أعطاها وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما لمحطة "إل سي بي" التلفزيونية الفرنسية منذ أيام قليلة فقط). ثم من حق إيردوغان, الذي صَفَرَ مشاكله مع جيرانه, أن ينطلق بأقصى سرعته ليحتضنَ – باسم "الديمقراطية" التي اضطر لاحقاً لقمع المحتجين الأتراك باسمها أيضاً – الإخوانَ المسلمين المتطرفين تحت مسمى "المجلس الوطني السوري" لكي تتحول الحدود التركية مع سوريا, بعد ذلك, إلى معسكرات لعملاء "سي آي إيه" (التي تم توثيق أنشطتها على الحدود التركية من قبل الصحفيين الغربيين أنفسهم) ومجرمي ميليشيات ما يسمى "الجيش السوري الحر", ومعبراً للأسلحة والمسلحين القتلة المرتزقة الذين قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الشرق الأوسط, لاسيما السعودية وقطر, بتجميعهم لخوض "الجهاد" الإسلاموي المقدس على الأرض السورية.
من حق دويلة شبيهة مثل قطر, التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج أراضي الولايات المتحدة, أن تجيشَ العالمَ الإسلاموي والغربي – عبر محطتها "الجزيرة" التي أخذت بألباب الجماهير العربية ردحاً طويلاً من الزمن, حتى رَيَلت وسالَ لعابُها المسموم على أعتاب سوريا – وتدفع الأموال الطائلة لتجميع كافة قتلة العالم ومرتزقته من العالمين الأول والثالث وما بينهما لقتل الشعب السوري واستباحة المؤسسات والثروات وصولاً إلى الأسواق القديمة والآثار. كل ذلك تحت غطاء "الديمقراطية" و "الحرية" التي لم يعرف بدو الصحراء, ولن يعرفوا مهما استطال التاريخ, معنييهما, ثم بعد ذلك بذريعة "حماية" الشعب السوري من حكومته التي تقوم بقتله.
ومن حق واحدة من أخطر البلدان في العالم الحديث ومصدرة الإرهاب الديني العالمي, حامية مخزون النفط الغربي, أن تقترَ على الآلاف من أمرائها وتشتري كميات ضخمة من الأسلحة "الفتاكة" (صفقة الأسلحة الكرواتية) لتدمير سوريا وقتل شعبها تحت ذريعة إضعاف إيران, أو ربما تلبية لصرخة الاستغاثة الإسلاموية: "واسعوداه"!
حتى أنه من حق بقعة جغرافية لم يمن عليها المستعمر باسم دولة حتى فسماها "شرق الأردن" أن تحشد على حدودها مع سوريا ثلة من المجرمين المتطرفين والفارين, مدعومين من مجموعة من قتلة "سي آي إيه" و "الوحدات الخاصة" الأمريكية والبريطانية, ومن ثم إجراء مناورات عسكرية متعددة الجنسيات تستدعي نصب صواريخ "باتريوت" الأمريكية في تمثيلية بهلوانية أطلق عليها اسم "الأسد المتأهب", مما جعلَ الملك عبد الله يفوز بجدارة باللقب الذي تطلقه عليه الصحافة الغربية البديلة, "كينغ بليستيشن".
ولا تضجروا, من حق بعض السياسيين والمتطرفين اللبنانيين النشطين على الحدود اللبنانية- السورية, الذين أعلنت حكومتهم سياستها "الأوريجينال" المسماة "سياسة النأي بالنفس", احتضان المسلحين الفارين من سوريا وتقديم كافة أنواع الدعم لهم, ومن ثم تمرير الأسلحة والمسلحين إلى الأراضي السورية تنفيذاً لأوامر أسيادهم وأسياد أسيادهم.
وبالطبع, من حق الكيان المقدس, إسرائيل, أن يزود المقاتلين بالأسلحة ويقصف أي هدف عسكري أو بحثي يعتقد أنه يشكل خطراً مستقبلياً عليه, بحجة أن هذه الأهداف تحتوي على أسلحة سيتم إرسالها إلى حزب الله.
ولكي لا نهضمَ "فقهاءَ الظلام" حقهم في هذه المعمعة "الجهادية", نقول أخيراً إن من حق كل لحية إسلاموية في المنطقة وخارجها إرسال اللحى الصغيرة إلى سوريا ليعيثوا فيها قتلاً وتخريباً وإفساداً في الأرض بكفالات فتاوى "جهادية" طائفية يندى لها الجبين.
يحق لكل هؤلاء وغيرهم التدخل في سوريا, من أفغانستان وحتى بلجيكا وصولاً إلى الأراضي "الزاحطة" في أستراليا, إما بالتجييش الإعلامي, أو بالفتاوى القاتلة, أو بالدعم المالي, أو بالتسليح, أو إرسال المقاتلين, وحتى النساء المسلمات "الحرائر" لينكحهنَ المجاهدون الإسلامويون أثناء فواصلَ ترفيهية بين فترات القتال أو القتل أو التخريب والاعتداء على أبناء الشعب السوري, أو ربما كجوائز ترضية في حال لم تتوفر "الحوريات" لاحقاً لكثرة المجاهدين المقبلين عليهنَ.
ولكن ... ليس من حق حزب الله أن يتدخل في سوريا. ليس من حق حزب الله حماية القرى الشيعية المتناثرة في الشمال اللبناني التي تتعرض لهجمات طائفية؛ وليس من حق حزب الله حماية ظهره من مجموعات ضخمة من القتلة المتطرفين المشبوهين الذين تم التخطيط لهم لسد منافذ الدعم من سوريا ومحاصرتهم من الشمال كي تنطبق عليهم مقولة القائد الإسلامي البربري طارق بن زياد؛ وليس من حق حزب الله أن يدافع عن حليفه الوحيد في المنطقة بأسرها؛ كما ليس من حقه حماية مصالحه وأمنه الوجودي. لن أستفيض هنا بمبررات التدخل العسكري لحزب الله لأن سيدَ الكلام والمقاومة قال فيها ما قلَ ودَل.
هذا اسمه تحريض على النزاع الطائفي, ثم غزو لسوريا, ثم قتل للشعب السوري, والتوصيفات القادمة ستكون أكثر تأثيراً وبلاغة. آمين.
لن أقف موقفَ المدافع عن حزب الله وقراراته العسكرية المصيرية هنا, بل سأمضي إلى أبعدَ من ذلك.
بعد عدة نقلات على رقعة ما أطلق عليه العم سام اسمَ "الربيع العربي", اتضحَ لكل صاحب لب أن هناك استقطاباً حاداً يتشكل على طول وعرض المنطقة العربية طرفه الأول معسكر "المحافظين الإسلامويين" (إخوان, سلفيون, وهابيون, ...) بقيادة السعودية وعضوية الممالك والإمارات الديمقراطية المقدسة, وقطبه الثاني معسكر القوميين والعلمانيين والمقاومين للمشاريع المشبوهة الإقليمية والدولية. كل هذا على الرغم من الترويج المضلل الذي لبسَ مفردتين اثنتين ("الهلال الشيعي", إشارة إلى الخط الواصل بين حزب الله في الجنوب اللبناني و إيران, مروراً بسوريا والعراق) والذي كان "كينغ بليستيشن" أولَ من تلفظ به في المنطقة والعالم, ثم تطورَ تدريجياً إلى النزاع "السني- الشيعي" في المنطقة. فالصراع الشرس الدائر في مصر وليبيا وتونس الآن ليس صراعاً بين سنة وشيعة, كما أن الصراعَ القادمَ في تركيا وبلدان عربية أخرى مثل السودان والجزائر لن يكونَ بين سنة وشيعة.
أقول: إذا تمكنَ محور آل سعود وآل عثمان من تحطيم الدولة العلمانية القومية المقاومة الوحيدة على امتداد الساحة العربية وتسليمها للقتلة الوهابيين, فسوف يفوز هذا المحور ليس في سوريا وحدها فحسب, بل في مصر وتونس وليبيا والجزائر والسودان وليبيا, ويعود الجميع إلى عهود الظلام التي يرسمها لنا الغرب الاستعماري ويهودُ العالم.
لذلك: من واجب جميع القوميين, واليساريين, والعلمانيين في كافة بلدان الوطن العربي التفكير في خوض معركتهم الكبرى والمصيرية على أرض سوريا, جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري (بشيعته وسنته ومسيحييه, ...) ومع مقاتلي حزب الله, ضد المد الوهابي الأسود الذي يهدد بحرق كل بذرة من بذور الحياة, والتقدم, والتسامح, والتعدد الديني والإثني في المنطقة.
فهل ستتحول أرض الشام المباركة إلى ساحة لحرب أهلية إسبانية أخرى يرسم من خلالها, هذه المرة, القوميون والعلمانيون واليساريون خطوطهم الحمراء الخاصة بهم, ويعلنون, هذه المرة, انتصارَهم التاريخي على الفاشية الدينية الوهابية التي بدأت ترسم, في الرمال, أحلامَ الزنجي الإسلاموي أوباما الذي لم يفلح إبراهام لنكولن أو مارتن لوثر كينغ من تحريره من العبودية ؟
الجمل
التعليقات
تنويه :
إضافة تعليق جديد