الثقافة وأخلاقية الثورة السورية
الجمل- د. مالك سلمان: "سوف أجازف بتعريض نفسي للسخرية بالقول إن الثوري مدفوع دائماً بالحب". هذا ما قاله أيقونة الثوار في العصر الحديث, إرنستو "تشي" غيفارا. ومما له دلالة هامة, في هذا السياق, أن لقبَ غيفارا ("تشي") يعني "الصديق" أو "الصاحب".
تصلح مقولة غيفارا هذه أساساً تنبني عليه جماليات الثورة. فمهما تعددت تعريفات الثورة أو تنوعت تبقى متمحورة, في جوهرها, حول تحرير الإنسان والارتقاء به من حالة إلى آخرى أفضلَ – سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية. لهذا السبب ننظر إلى الإسلام في العصر الجاهلي بصفته ثورة, وإلى النبي محمد (ص) بصفته ثورياً: بمعنى أنه انتقلَ بالإنسان من الجهل إلى المعرفة, ومن الفوضى إلى النظام, ومن العبثية إلى السمو الأخلاقي, ومن التشرذم والضعف والاقتتال إلى التوحد والقوة (وهذا ما دفع مفكراً ماركسياً, فرنسياً, يهودياً مثل مكسيم رودنسون للاحتفاء بثورة نبي الإسلام في كتابه المعروف "محمد"). إن الدينَ, في معناه العميق – كالشعر – تطهير لروح الإنسان؛ وشعور بغموض الكون وجماله؛ وإحساس بالرحمة والتعاطف مع مخلوقات الله كافة, قويها وضعيفها. ومن منطلق مشابه أيضاً نتكلم على الثورة الفرنسية, والثورة الصناعية, والثورة التكنولوجية, وثورات الاستقلال من المستعمر. كما نتناول الثورات الثقافية التي تؤسس للغة جديدة ووعي جديد وعلاقات إنسانية جديدة قائمة على بنية جمالية متقدمة تؤطر علاقتنا بالعالم والأشياء.
لكن ليس كل انقلاب جذري على الواقع القائم يرتقي إلى مفهوم "الثورة", بهذا المعنى المجرد, لأن الانتقالَ الثوري محكوم بمنظومات أخلاقية ("جئتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق," قال نبي الإسلام) وقوانينَ تاريخية متبدلة ودينامية. ماهي, على سبيل المثال, القيمة الأخلاقية – الإنسانية؟ - التي يحملها مشروع الرأسمالية الحديثة للمجتمعات الغربية والعالم؟ مزيد من مراكمة الثروات في أيدي أفراد وشركات نخبوية, أم مزيد من نهب الشعوب الأخرى وإفقارها! بل ماهو المشروع الحضاري والأخلاقي الذي يحمله الإسلام المعاصر للمسلمين والعالم؟ الوهابية, والتطرف, والإرهاب, والطائفية, والتخلف, وقمع النساء والحريات الاجتماعية!
نتحدث عن الحب و مكارم الأخلاق.
* * *
مشهد:
عملت أجهزة النظام السوري, على مدى عقود, على إفساد الدولة والمجتمع. ونجحت – بشكل باهر يبعث على الاشمئزاز – في استدراج المؤسسات والأفراد إلى داخل دوائر الفساد التي خلقتها وربطتها ببعضها البعض مثل شبكة عنكبوتية قاتلة, دون أية مقاومة أخلاقية تذكر. ونتيجة لهذه الحملة البربرية, سقط الشعب السوري بمجمله في الفخ, كما تأصلت بُنىً وعلاقات ومفاهيم وأخلاقيات جديدة عملت على تعميق الواقع الجديد ومحاصرة وتسفيه وقمع كل من تسول له نفسه التعبير عن أي نوع من المقاومة السلبية والبقاء خارج هذه الشبكة العنكبوتية. وتدريجياً, حلَ "الولاء" للأجهزة والأفراد المتحكمين بمفاصل القرار في المؤسسات السورية محلَ "الوطنية". رافق ذلك كله تفجيرٌ للغة اليومية يختلف كثيراً عن المفهوم الذي طرحه أدونيس في "تفجير" اللغة العربية كشرط لتأسيس الحداثة العربية. إذ أصبح اللصُ "ذكياً", "يعرف من أين تؤكل الكتف" و يقف له جميع القوم احتراماً وتبجيلاً؛ وأصبح النزيه "غبياً" و عاجزاً عن "التكيف" مع الواقع, ينهره الجميع وينظرون إليه بازدراء وشفقة؛ وسادت مصطلحات ومفاهيم جديدة شكلت نبراساً لكل طموح يريد "الوصول": "مدعوم", "مسنود", "وراء ضهر", "بيضاتو كبار", حتى صرنا ننظر إلى الخلف ... والأسفل! وفوق كل شيء, صارت الأمهات – اللواتي تحت أقدامهنَ الجنة الموعودة – يتباهينَ في العلن بإنجازات أبنائهن اللصوص وأموالهم المسروقة من المواطنين ومؤسسات الدولة: وعندما تفسد الأمهات, يفسد الوطن كله. وهكذا, يا سادتي, انهارَ المجتمع السوري أخلاقياً, ومن ثم تبعته الانهيارات الأخرى. وأنتم على دراية كبيرة بالتفاصيل, حتى الوَله.
* * *
نتحدث على أخلاقية الثورة:
- ليس من حق أي شخص فاسد – ممن ينتمون إلى دائرة الفساد, أو ممن يقتاتون على فتاتها – أن يدعي الثورية. إذ لا يمكن لأية ثورة أن تنجح بكادر فاسد, وخاصة إذا كان معظم قادتها ورموزهامعمَدين بماء الفساد. كيف يمكن لعاقل أن يفهمَ أو يتقبلَ شخصيات مثل رفعت الأسد أو عبد الحليم خدام أو آل طلاس أو رياض حجاب أو علي فرزات أو جمال سليمان (والقائمة طويلة رغبت في ذكر بعض رموزها رغبة بالفسفسة فقط) كجزء من معارضة لنظام فاسد أو ثورة على نظام مستبد؟! (لاحظوا أن أمثال هؤلاء كانوا أولَ من سارعَ إلى "الانشقاق" عن النظام بعد حسابات رياضية سريعة – وخاطئة – ربما يفكر بعضهم في التراجع عنها الآن؛ وهم دائماً يملكون مهارات الرجوع). ومن جهة أخرى, هناك الكثير من الأفراد والمؤسسات والأحزاب الفاسدة التي تحضر نفسَها للانقضاض على الإصلاح الحتمي القادم لإفساد الدولة والمجتمع ... مرة أخرى.
- الثورة لحظة شعرية؛ لحظة صدق مع الذات والعاطفة والعقل (نتحدث عن الحب و الأخلاق). بكلمات أخرى, هي لحظة انسجام كلي مع الذات والعالم تكاد تتعاشق مع حالة صوفية فريدة.
في رصيد اليسار السوري المثقف, والشيوعي منه خاصة, لحظات تاريخية يندى لها الجبين. ففي النصف الأول من القرن الماضي, وافق الشيوعيون السوريون على تقسيم فلسطين تيمناً بموافقة أسيادهم في "الكريملين" السوفييتي آنذاك. وفي نهاية السبعينيات من القرن نفسه, تحالفت بعض فصائل المثقفين الشيوعيين مع "الإخوان الإسلامويين" في سورية في تمرد مسلح فاشل كان يهدف إلى إسقاط النظام السوري القائم آنذاك. واليوم, تتحالف ثلة من المثقفين ‘العلمانيين’ و ‘اليساريين’ و ‘الشيوعيين’ مع قوى إخوانية – للمرة الثانية – وجهادية/وهابية/سلفية يرعاها ويمولها ويدربها ويسلحها طيف واسع من القوى والتيارات والبلدان يمتد – بشكل يبعث على الدهشة – من رأس الإمبريالية العالمية الرأسمالية (ممثلاً بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في نادي الناتو) إلى ذيل التطرف الإسلاموي والوهابية في قطر والسعودية. هذه بذاءة مزدوجة: حفلة عهر جماعي يتعرض فيها اليسار السوري للنكاح مرتين من قبل زبونين متناقضين ومتحالفين: الرأسمالية والإسلاموية.
عدو عدوي ليس صديقي بالضرورة. وفي حقيقة الأمر, يمكن لعدو عدوي أن يكون ألدَ أعدائي.
لكننا نتكلم على الحب.
كيف يمكن لمثقف يساري علماني ‘متأورِب’ من أمثال الدكتور برهان غليون أن يؤمنَ واجهة مزيفة لمجلس إخواني إسلاموي بامتياز؟ وما هي طبيعة النشوة التي يستمدها مثقف شيوعي مثل ميشيل كيلو من خلال الملاقحة الفكرية والسياسية مع مقاتلي "جبهة النصرة" التكفيريين المرتزقة في شمال سوريا؟ ثم كيف يرتدُ مثقف علماني متفلسف مثل البروفسور صادق جلال العظم إلى مجارير الفكر الطائفي, ثم لا ينفك يلفق – في مناسبة وغير مناسبة – حول طائفية أدونيس المتخيَلة (وكأنه لم يقرأ كلمة كتبها أدونيس في حياته كلها, بما في ذلك ما كتبه في السنوات الثلاث الأخيرة حول ‘الربيع العربي’ البائس) بعد أن تقلصَ عالمُه الفكري إلى مفردات المجارير الطائفية التي باتت تشكل "أكثريته" هو.
نحن نتحدث عن الأخلاق. والبنية الفكرية المتماسكة, والمنسجمة, والصادقة مع ذاتها والآخرين تتويج للأخلاق.
ومن باب المفارقة, لا يختلف اليسار الغربي كثيراً عن رفاقه في المشرق العربي. فقد تمكنت ماكينة الدعاية الغربية الرسمية, والمدرعات البحثية المتصهينة, من إقناع معظم شرائح هذا اليسار الهائم على وجهه (من أمثال "الحرية الآن" و "المنظمة الاشتراكية العالمية"؛ باختصار, ما يسميه إدوارد هيرمان "يسار صواريخ الكروز") بأساطيرَ خرافية مثل "مسؤولية الحماية" و "التدخل الإنساني", مرفقة ببالونات "الحرية" و "الديمقراطية" الملونة, وكأنهم أطفالٌ سُذَج, أميون, لا يقرؤون التاريخ الذي نصحهم بقراءته جدُهم ماركس وتابعه إنجلز. لإلقاء مزيد من الضوء على هذه الانتكاسة, اسمحوا لي أن أقتبسَ هذه الأسطر من مقالة لديفيد نورث وآليكس لانتيير بعنوان "المنظمة الاشتراكية العالمية والهجمة الإمبريالية على سوريا" ("وورلد سوشليست ويب", 11 أيار/مايو 2013), تعليقاً على بيان هذه المنظمة "التضامن مع الثورة السورية" (1 أيار/مايو 2013): "إن السمة الرجعية والخبيثة سياسياً لهذه الوثيقة واضحة للعيان. إذ يهدف بيان المنظمة إلى تأمين غطاء يساري مزيف يتلطى وراء لغة ‘حقوق الإنسان’ لحرب بالوكالة تشنها قوات مرتزقة رجعية ممولة ومسلحة من قبل الولايات المتحدة والإمبريالية الأوروبية. إن بيان المنظمة يزيف بشكل فاضح طبيعة المعارضة الإسلاموية السورية وأهدافَ الحرب الأمريكية في الشرق الأوسط, حيث يلعب دورَ الأداة الدعائية لسياسات القوة." وإضافة إلى ذلك, في الوقت الذي يسيلُ لعابُ الكولونيالية الفرنسية على الأرض المالية ومشارف سوريا ولبنان, يجاهد ‘رجال’ اليسار الفرنسي, مثلاً, لكي يتمكنوا – بشكل قانوني – من التلاوط فيما بينهم. هذا زمان المَحل؛ زمان يحلُ فيه قوادٌ صهيوني مثقف من الدرجة الثالثة – وهو زميل لصادق جلال العظم .. في الفلسفة – محلَ مثقف مثل جان جنيه, أو لوي- فردنان سيلين.
سوف أجازف بتعريض نفسي للسخرية بالقول: أنا أحترم الشيخ العرعور وأفهمه. فهو شخص طائفي صادق مع نفسه وفكره ويعلن ذلك على الملأ ("الدم السني واحد"). والصدق مع الذات والآخرين ضرب من الأخلاق. ميشيل كيلو يربكني. الغليون يعمي بصيرتي من ... الدخان الإيديولوجي "الهايبريد". وصادق لا يُصدقني القول. هذا زمان الالتباس.
- إن لم يملك شعب ما, في أي بلد, الحافزَ الكافي والقدرة اللازمة لإنجاز ثورته بنفسه – دون أي تدخل خارجي – فلن يتمكن هذا الشعب من حكم نفسه بعد انتهاء ‘ثورته’, إضافة إلى أن الوضعَ سيكون أسوأ بكثير من ذي قبل. يكفي أن ننظرَ إلى تجارب حديثة مثل العراق, وتونس, وليبيا, ومصر (25 يناير). وفي الوقت نفسه, انظروا إلى الثورة الفرنسية, والثورة الأمريكية, والثورة التشيلية ضد أوغسطو بينوشيه, والثورة الإيرانية ضد الشاه, وكذلك إلى الثورة المصرية الأخيرة (30 يونيو) ضد حكم الإخوان الإسلامويين (مرسي لم يكن يحكم مصر).
مشكلة ‘الثورة’ السورية الحديثة مزمنة ومتعددة الأوجه: فأجندتها غير وطنية (فقد قدم الإعلام الغربي البديل وثائقَ كثيرة خلال السنتين الأخيرتين حول الخطط المرسومة من قوى غربية وإقليمية منذ سنوات لإسقاط الحكومة السورية, أو ما يعرف باللغة السياسية الأمريكية ﺑ "تغيير النظام", لأسباب صارت معروفة لكل قارىء مطلع)؛ كما أن عدد البلدان التي تدخلت في ‘الثورة’ السورية أصبحَ أكبر من أن أعيدَ إدراجه هنا (مع الأخذ بعين الاعتبار تضارب أجندات هذه القوى الخارجية), وقد تنوعت درجات هذا التدخل من التزييف الإعلامي وصولاً إلى التمويل والتدريب والتسليح؛ وأخيراً – وليس آخراً – تم تجميع مجموعات كبيرة من المقاتلين الإسلامويين المتطرفين/الجهاديين والمرتزقة من عشرات الجنسيات وإدخالهم إلى سورية للمساهمة في إنجاز ‘الثورة’ ‘السورية’ ‘الوطنية’ المظفرة, بتمويل من بعض "بلاد العرب أوطاني" مثل السعودية وقطر وتدريب بعض أجهزة الاستخبارات والقوات الخاصة الغربية.
- في مجتمع متعدد الأديان والطوائف والإثنيات, لا يمكن لثورة أن تنجحَ إذا حملت صبغة طائفية, أو تبنت خطاباً طائفياً. و ‘الثورة’ السورية طائفية بامتياز, وقد اختارت هي أن تكونَ كذلك لأن محركها ومكونَها وممولها طائفي. إذ تتشكل المجموعات المسلحة التي تقاتل على الأرض السورية, برمتها تقريباً, من أفراد – سوريين وأجانب – ينتمون إلى الطائفة السنية حصراً. وما بعض الأسماء التي تم إبرازها في الإعلام التي تنتمي إلى أديان أو طوائف أخرى سوى غطاء سياسي مزيف أشبه بطبقة الكريما الرقيقة على قالب الكاتو.
أخاطر مرة أخرى: أثبت النظام السوري, في أسوأ أزماته, أنه أقلُ طائفية من المعارضة السورية؛ فهو حتى الآن يواجه الهجمة الطائفية البغيضة بجيش وطني متعدد الطوائف, وأجهزة أمنية متعددة الطوائف, وحكومة متعددة الطوائف, وشعب وطني أسقط ‘الثورة’ لأنه – في غالبيته – ليس طائفياً.
من الأهمية بمكان أن نتذكرَ أن هذه ‘الثورة’ جاءت على خلفية الصراع السني – الشيعي المزعوم الذي خططت وروجت له آلة دعائية جبارة انطلقت تهدر من كتاب صموئيل هنتنغتون "صراع الحضارات" (1996) وأخذت ترغي وتزبد على شفتي "ملك البليستيشن" القابع في "شرق الأردن", لتنفردَ درراً وجواهرَ مؤخراً على لحى "مفستوفيليسات" هذه الأمة, التي هي خير أمة أخرجت للناس) وكرافيتات بعض مثقفيها الذين صرنا نبحث عن شواربهم الحليقة ولحاهم الأورانج عندما يتحدثون.
قلت لبعض الأصدقاء, في بدايات ‘الثورة’ المجيدة, إن ثورة تفشل في مخاطبة شخص مثلي – والكثيرين من أمثالي من كافة الأديان والطوائف والإثنيات والميول السياسية – مفترق عن النظام الفاسد الذي كان قائماً من قبل لن يُكتبَ لها النجاح. أليس من المستغرب, حقاً, أن تفشل ‘ثورة’ تضم في صفوفها مثقفين يساريين وعلمانيين في إنتاج خطاب سياسي وطني يستطيع معارضو النظام القائم, على الأقل, التماهي معه؟ إن الأب الروحي لهذه ‘الثورة’ هو الشيخ العرعور بلا أي منازع.
- لا يمكن لثورة أن تنجحَ إذا كانت أكثر قمعاً ودكتاتورية ودموية من النظام القمعي الدكتاتوري الذي تدعي الثورة عليه. لا يمكن لعاقل أو نزيه أن يدعي أن النظام البائد (بحكم الدستور الجديد الذي أطاح بالمادة 8) كان ديمقراطياً – ومن أين له أن يكون بعد أن أعاد إنتاج آليات قمعه وفساده في كافة مفاصل الدولة والمجتمع؟ لكن إيديولوجيا ‘الثورة’ الإسلاموية الصفراء هددت المواطن السوري ليس بمصادرة حريته السياسية فقط, بل الدينية والاجتماعية والثقافية, وحملت بذلك بذورَ اندحارها. إن الأعمال الإجرامية التي يقوم بها مجرمو ‘الثورة’ السورية (من القتل – على هوية الطائفة أو الدين أو الموالاة - وسرقة مقدرات الوطن وبيعها للأجنبي, إلى تدمير مؤسسات الدولة, وصولاً إلى أكل الأكباد أما الكاميرات)يحلم بها أي نظام مستبد لن يكلف نفسه عناءَ شيطنتها.
نتكلم على الثورة؛ نتحدث عن الحب و الأخلاق.
* * *
من يقرأ أدونيس, من "الثابت والمتحول", مروراً ﺑ "أغاني مهيار الدمشقي" و "الكتاب", وصولاً إلى آخر ما يكتبه اليوم يدرك الموقع الفكري والأخلاقي والحداثي والثوري المتماسك والمنسجم (الشعري؟) الذي ينطلق منه. سوف أسوق هنا ثلاثة اقتباسات نموذجية مما قاله أو كتبه أدونيس في السنتين الأخيرتين حول ‘الربيع العربي’ و ‘الثورة’ السورية, وفي ثلاث مناسبات مختلفة:
* "لا يبنى المستقبل بالماضي, مهما كان هذا الماضي حاضراً وفعالاً. الشعوب الحية تبني مستقبَلها بتجاربها الواقعية وإبداعاتها, وليس بذكرياتها وأحوالها الماضية." ("أدونيس: قراءة متأنية في الربيع العربي")
* "كيف يمكن أن تنشأ الديمقراطية في مناخ لا يقيم وزناً لحرية الفرد وللتجربة الإنسانية, ويرفض الآخر المختلف – نبذاً, أو تكفيراً, أو قتلاً, ولا يرى الحياة والثقافة والأزمنة والمكنة والحضارات البشرية, إلا في مرآة قراءته للنص ...؟" ("أدونيس: رسالة مفتوحة إلى الرئيس بشار الأسد: الإنسان, حقوقه وحرياته, أو الهاوية")
* "أكدت على رؤيتي الخاصة فيما يتعلق باستخدام الدين سياسياً. فهذا الاستخدام إنما هو نوع آخر من العنف ضد الإنسان, على جميع المستويات, الاجتماعية والسياسية والثقافية. فالفاشية الدينية لا تقلُ هولاً عن الفاشية العسكرية, لأنها استبداد أكثر شمولاً وتقضي على الحميم, الكياني المتفتح والمستقبلي في الإنسان. ...
- العلمانية الكاملة (لا المدنية التي تستخدم اليوم, تحايلاً وتمويهاً) حيث يبطل أبناء المجتمع الواحد أن يكونوا أبناءَ مذاهب وطوائف وإثنيات, ويصبحون أبناءَ مجتمع واحد يتساوى فيه الجميع حقوقاً وواجبات ...
ما بال هؤلاء ‘الثوار’ العرب, ‘ثوار’ القرن الحادي والعشرين ... إنهم ... يبتذلون الثورة, ويشوهونها, ويحولونها إلى مجموعة من العصبيات والثارات والكراهيات والانحرافات, حتى أنهم يرون التعاملَ مع الأجنبي وطنية, والعنفَ المسلحَ ضد مواطنيهم واجباً وطنياً. هكذا وبدلاً من أن يكونوا مثقفين ثواراً, يصبحون ‘متدينين’ ثواراً." ("أدونيس يكتب: الربيع العربي بين مستويين, الشباب والتيارات الدينية")
إن أي شخص ملمٍ بسيرة أدونيس الشعرية والفكرية – الممتدة على عقود من الزمن – سرعان ما يدرك المفردة المعتادة, والنغمة المألوفة, والموقف الفكري الذي يميز تنظيرَ أدونيس الحداثي الذي ينادي بتفجير اللغة المحنطة والماضي المتكلس وتثوير الواقع الراهن المعيش, بمعطياته كلها, لتحقيق قفزة "إبستيمولوجية" تكون منصة للانطلاق نحو الحداثة. هذه هي شعرية الثورة عند أدونيس.
ومع ذلك كله - وبالطريقة نفسها التي يقتل فيها ‘الثوار’ الإسلامويون/المتطرفون/الجهاديون, الطالعون من رحم الظلام, كلَ من يخالفهم أو يختلف معهم أو عنهم بالنار أو بالساطور – يوجه بعض مثقفي النُصرة نيرانهم وسواطيرهم التكفيرية ضد أدونيس. لأن أدونيس ليس من ‘أكثرية’ صادق جلال العظم؛ ولأن أدونيس لا يرمي بإرثه الثقافي والشعري والفكري الذي نزفه طيلة عقود طويلة – كما ترمي الأفاعي جلدَها – لينافق باسم ‘الثورجية’ الثقافية؛ ولأن أدونيس يفكر بوطن وأمة وثقافة ومستقبل, وليس بنظام بائد لم يشاركه الفراش مرة واحدة في حياته, كما فعل الكثير من مرتزقة الثقافة ‘الثوار’؛ ولأن أدونيس يفيض بالحب و الأخلاق.
لكن المجاريرَ الطائفية لا يمكن أن تنزَ إلا لغة طائفية. ولكن, يا صديقي البروفسور العظم:
لا تلمهُ. إذا كانَ جدَفَ. –
صَلى لأهوائه.
حاضناً في تجاديفهِ
حلماً أو رجاء.
لا يجدف إلا
من يحبُ السماء.
الجمل
إضافة تعليق جديد