الانهيار القريب للإسلامويّة
كان العلاّمة ابن خلدون قد شبّه في كتابه «المقدّمة» الدولة التي تريد أن تنبعث بعد أن فقدت أسباب قوتها بـ «الذبال المشتعل فإنّه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنّها اشتعال وهي انطفاء». وكذلك الإسلامويّة اليوم، إنّها تحدث ضجيجاً هائلاً لأنّها تتجه نحو الاندحار النهائي وقد تغيّرت حولها العوامل التي ساهمت في نشأتها وتقويتها. ولن تكون قادرة على مواجهة الاتجاهين الجديدين للتوظيف السياسي للدين وهما الطائفيّة من جهة، والجهاديّة من جهة أخرى وهي التي يعتبرها العالم إرهاباً. والإسلامويّة لئن تضمّنت منذ نشأتها الجذور الفكريّة للطائفيّة والإرهاب فإنّها لم تكن هذا ولا ذاك لكنّها ستتحوّل بضغط الأحداث إلى هذا أو ذاك.
وقد قامت الإسلامويّة وقويت بسبب عاملين أساسيين أوّلهما محلّي والثاني عالمي. فالعامل الأوّل يتمثّل في واقع المجتمعات المتخبّطة أمام مهمات التحديث والتي تشعر بالحاجة القويّة إلى الايديولوجيات بسبب التغيرات العنيفة التي تعصف بها والبون الشاسع الذي يفصل بين حقيقة وضعها وما تريد أن تكون عليه. والإسلامويّة هي إحدى الايديولوجيات التي نشأت لتلبي هذه الرغبة الاجتماعيّة الجارفة، وقد انتهت بالتغلّب على بقيّة الايديولوجيات المنافسة لأنها وظّفت الرمزيّة الدينيّة واستطاعت بذلك أن تخترق كلّ القطاعات الاجتماعيّة. والإسلامويّة هي أيديولوجيا سياسيّة توظّف الدين وليست فكرا دينيّاً.
والعامل الثاني يتمثّل في خاصيّة عصر «الحرب الباردة» الذي اقتضى أن تصنّف الشيوعيّة العدوّ الأوّل للغرب وأن تكون إحدى وسائل مقاومتها إقامة تحالف عالمي يوظّف الدين ضدّ الإلحاد. وتولّت الولايات المتحدة بصفتها القوة الغربيّة الأعظم الدفع بهذا الاتجاه وتشجيع كلّ الحركات الدينيّة المتسيّسة التي تتخذ لها عدوّاً الأنظمة والأحزاب والأفكار الشيوعيّة. وكان الالتقاء الأميركي الأصولي في حرب أفغانستان ضدّ الإمبراطورية السوفياتيّة قمّة هذا التحالف لكنّه كان يؤذن أيضا بنهايته.
والعامل الأوّل هو اليوم في صدد التغيّر، فالأيديولوجيا الإسلامويّة بصفتها أيديولوجيا عمل سياسي هي في صدد فقدان قوتها، وليس سبب ذلك عودة الروح إلى الأيديولوجيات المنافسة من ماركسيّة وقوميّة، ولا سببها نشأة الأفكار الليبراليّة الجديدة، وإنّما السبب الحقيقي أنّ الشعوب في المجتمعات المتخبّطة أمام مهمات التحديث قلّ إيمانها بالأيديولوجيات جميعاً ولم تعد تشعر بالحاجة إليها وهي تتجه نحو شيء آخر هو الاستهلاك فتتحوّل مجتمعات استهلاكيّة أساسا. فإمّا أن تلهيها وفرة الاستهلاك عن الأيديولوجيا أو أن يبعدها اللهاث من أجل القوت اليومي عن كلّ طموح أيديولوجي. بل الاستهلاك يصبح الأيديولوجيا الجديدة التي تتغلّب على كلّ الأيديولوجيات المنافسة وآخرها الإسلاموية.
وكذلك العامل الثاني هو في صدد التغيّر. فالولايات المتحدة هي القوّة الوحيدة التي تستطيع أن تسطّر الجيوستراتيجيا العالميّة، وكلّ ما تريده يصبح كونيّاً لا محالة، وتلك خاصيّة الإمبراطوريّات العظمى في كلّ التاريخ البشري. وقد قرّرت الولايات المتحدة أن تصنّف الإسلامويّة بصفة التوتاليتاريّة، بمعنى أنّها قرّرت بصفة حاسمة أن تنهي تحالفها السابق مع الإسلامويّة لأنّها لم تعد بحاجة إلى هذا التحالف. فهي لم تعد بحاجة إليها وقد سقطت الأنظمة الشيوعيّة في العالم كلّه. ولم تعد بحاجة إليها أداة للضغط على بعض الأنظمة والحكومات لأنّها أدركت مواطن المخاطرة في هذه السياسة. ومصير الإسلامويّة سيكون مثل مصير الحلفاء السابقين للإدارات الأميركيّة في العراق وباناما وغيرهما، فإنّهم حين يظنّون أنّ بإمكانهم تحدّي راعيهم يجدون أنفسهم في مواجهة ضارية مع هذا الراعي، فقوّتهم لم تكن مستمدّة من قوّة مجتمعاتهم وشعوبهم وإنّما جاءت من الحاجة السابقة لأدوارهم الإقليميّة وانتهت بنهاية هذه الأدوار.
إنّ خطاب الرئيس بوش الذي أدان فيه الإسلامويّة ووضعها في مقابل الشيوعية والنازية سابقا هو إعلان لهذه النهاية ولتحوّل التحالف إلى عداوة مفتوحة وصراع جيوستراتيجي. فهذا الخطاب معناه أنّ الولايات المتحدة لن تحارب الإرهاب كمفهوم عام يمكن أن ينسحب على حالات عديدة ومتنوعة في العالم، لكنّها معنيّة بالإرهاب الإسلاموي تحديدا، بل هي لن تقبل أن تسمي إرهاباً أشكال العنف الأخرى لأنّ الإسلامويّة ركن في تعريفها للإرهاب.
ومع أنّ الرئيس بوش قد ذهب إلى هذا التصريح لأنّه يرغب أساساً في تقديم مبرّرات لفشله الكبير في العراق فإن هذا الدافع الظرفي لا يحجب قضيّة أكبر وهي أن القطيعة بين الولايات المتحدة والإسلامويّة هي قطيعة نهائيّة وأنّ الإسلامويّة غدت ركناً في التعريف الاستراتيجي الأميركي للإرهاب.
محمد الحداد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد