هل خُتم الشعرالعربي بالمتنبي؟
اذا كان من المستحيل تعريف الشعر، او اثبات ضرورته، فالاحرى ان يصعب الى حد استثنائي، تبين علامات اختفائه، او تضاؤل ضرورته، غير المؤكدة اصلا، وحيث لا يبدو هذا الامر معمما، وفي حال البحث عن الخصوصية، او تحري الارجحية غير العادية، التي يحتلها هذا الفرع من النشاط الانساني، في السيرة الاجمالية للتعبير في تاريخ قوم بعينهم، فان ما لا يفاجئنا، ان يكون تاريخ هذا النوع من الفنون، قد صادف الانقطاعات الكبرى، كما فقدان القدرة على الفعل، او مواصلة أداء الوظيفة الخفية، داخل البناء الشعوري العام. ففي تاريخ الشعر العربي ظهرت لحظة ابطاء وتخلخل في سوية الأداء، رافقت ظهور الاسلام، وتكاد تكون استمرت الى وقت متأخر من العهد الاموي، قبل ان تعود وتتشكل مقومات تفاعل بين الحياة المدنية المستجدة، والافق الامبراطوري، لتعود وتتأثر بقوة وبعد قرون من السبات، بالعصر الجديد وبنهاياته وانهياره، فهل يعكس ذلك تبادلية في المكانة، ضمن الشعور العام.
فعند هذه اللحظة الاخيرة، وما بعدها، يكاد يتأكد احتمال غير ملحوظ، نتج عن سردية ايقاعية واستئنافية بتعسف، لم تؤشرعلى الدلالات الختامية السابقة واخفتها، فهل الشعر له «ختام»، كما ان للنبوة «ختام». وهل يجوز مثلا اعتبار المتنبي، خاتمة الشعر، التي لا عودة للفعالية الشعرية في الوجدان، وتشكل الشعور في العالم العربي، بعده؟ المسالة الاخرى، تاتي من الامعان في نكران التموضع الذي ميز التجارب الكبرى جغرافيا. فالشعر العربي عرف تجربتين، هما التجربة الجزيرية السابقة على الاسلام، اي «الشعر الجاهلي»، والتجربة العراقية، التي تشكلت بعد الاسلام، ايام العباسيين، وهما من دون شك محطتان، يمكن اسنادهما للشروط الخاصة بالموضعين اللذين ظهرا فيهما بنيويا، ومن حيث المميزات. فالشعر العربي ليس نتاج العالم العربي كله، والسياقات التي تعين هاتين التجربتين، لا تجعلان، من امرئ القيس مغربيا او مصريا، ولا من ابن الرومي وابو تمام وابو نواس شواما، او من بلاد المغرب، فمثل هذا التعميم، ينطوي من ناحية على إجحاف وتشويش متعمدين، ومن جهة على تعمية تتعدى التعميم، وهو امر يتحدى البنى كما يزيل العلية، ويخرجها من التداول.
ومقولة «الشعر العربي» لا تكفي من حيث الدلالة التاريخية، اذا لم ترفق بمراحل تجليه في الجزيرة العربية، اولا، وضمن شروط تشكل الوطنية الجزيرية، في مجتمع صحراوي، اتخذ وعي الذات فيه، صيغة تشكل مجتمع لا دولة، له توسطية تجارية واقتصاد غزو ريعي، عرف شكل الوحدة الشعورية عبر توسط مزيج من التمركز التجاري والمقدس، تدعمه فعالية شعرية، تحولت هي الى مادة التوحيد الشعوري. ولا يشبه هذا المسار خاصيات اي من بقاع المنطقة التي اصبحت عربية في وقت لاحق، كما ان التعريب وتوطن الاسلام والعرب في المنطقة المعروفة اليوم بالعالم العربي، لا يعطيان هذه البقاع الاضافية، انتسابا اصيلا للشعر الجاهلي ومناخ صيرورته، بعد ان تبدلت آليات وجوده في المواضع التي انتقل اليها. وقد يكون مثل هذا الراي صادما، او هو لا يستقيم بناء على التصور القوموي الاعتباطي والانشائي. اما المسار الواقعي والسياق التاريخي، فيقولان ان العرب الذين اكتسبواعالما جديدا في الجغرافيا، مع الفتح والتعريب، فقدوا مع الزمن والتفاعل، اساس الدينامية والخلفية الدافعة الاولى، مع الانتشار، وغدوا من يومها خاضعين لفعل ديناميات اخرى، حورتهم بقدر ما تأثرت بحضورهم العنصري والمفهومي.
تبدو تاريخانية الشعر العربي مطموسة، حتى في افضل المقاربات، واكثرها ايحاء، كما في «الثابت والمتحول» لدى ادونيس، فطغيان النزوع الانشائي اللفظي والسكوني للتاريخ، يمكن اعتباره خاصية ملازمه للوعي العربي، وهي خاصية لم تكن دائما ذات مفاعيل سلبية، غير انه من الثابت ان الوعي النقدي والوعي التاريخي، لا ينبعان من الفرع الابداعي في الشعورية العربية، فالمهمة على هذا الصعيد، تتجاوز الشعر والادب الى بنية العقل نفسه، وما دام الحال كذلك، فان السطوة تظل منوطة بالماضي واحكامه، بينما لا يزال العرب يخافون من التعرف على ماضيهم، حسب السياق الذي تفصح عنه الآليات، والوقائع المعاشة، وكأنهم يخشون افتقاد الماضي بمنجزه وآلياته، خوفا من ان تطرح على العقل الحالي، تساؤلات التاريخ البديهية، حول امكانات التحقق الراهن، بناء على التبدل الطبيعي في الظروف، وفي الزمن.
لا تشبه الحقبة العراقية في التاريخ الشعري العربي، الحقبة الجزيرية السابقة على الاسلام، لا من حيث الموضوعات ولا الموقع والدلالة، غير ان الحالتين قابلتان للمقارنة، ان لم تكونا واجبتَي التناظر، فمقابل تشكل الذاتية الجزيرية بخاصياتها، لدينا ايضا التأسيسات الاولى في الملحمة التي ميزت التكوين الشعري والمفهومي العراقي، هذا التكوين الحضاري النزّاع بالطبيعة الى الكونية، والذي منه جاءت الرؤية الكونية الاولى التوحيدية، فالشعر على هذا المنوال، هو شعر ملحمي عراقي بالاصل، وشعر عمودي جزيري، اكتشف ايقاعه في البصرة، على يد الخليل الفراهيدي، كما تم تقعيد اللغة بين البصرة والكوفة، اي في المجال الحضاري الاصل في ارض السواد، حيث اندثرت في التاريخ بابل، وعرف العراق واحدة من فترات انقطاعه التاريخي التقليدية، تاركا في الافق رؤيته الكونية المطرودة، ابراهيمة تتناسل لتعود في ختامها وتصبح اطارا اعلى فوق الشعر، في المجال الجزيري الذي لا يعرف الدولة القاهرة، وتتحقق وحدة الشعور التي توسع اطار الخلية الاجتماعية، من القبيلة الى «امة العقيدة»، التي خرجت من ارضها، لتعيد بازاحتها الامبراطوريات المتهالكة، آليات المنطقة الحضارية المتوقفة، الى الحياة والعمل من جديد، وان حسب ايقاع مضبوط على وفق التكوين الجزيري المتغلب، عقيدة ومفاهيم وعنصرا.
فالشعر مع الدين في الموروث العربي، هما المكونان الابرز الحاسمان، في التكوين التاريخي النفسي الشعوري والمفهومي، لهذه المجموعة البشرية، ومن المستحيل تصور اي انقلاب كبير او صغير، يمكن ان يطرأ على هذه المنطقة، اذا لم يتداخل مع، او ينجم عن هذين العالمين، سواء أتأتى ذلك من دوافع التغيير «والاصلاح»، او الجمود والارتداد، او، وهذا ما لم يصبح بعد مألوفا، او ملاحظا، الانقلاب، والاستبدال، سواء بأنماط متجددة، او بنشوء حالات من التغير في المواقع، وفي قوة التأثير. ومهما يقال اليوم عن مكانة مستجدة احتلها في الآونة الاخيرة، عالم السرد والرواية، فإن مجالات التقييم على المستوى التاريخي، لا تزال أقل مما ينبغي، توفرا على مقومات الجزم في حقيقة هذا التحول، هذا ناهيك عن ابعاده، واذا كان يعكس بالأحرى ازمة، او عدم اتساق، او انه يعزز بمعنى ما، فداحة كبوة الشعر.
لكن هذا الاستنتاج لا يمنح المتتبع فرحة، وكأنه يقارن موقع الرواية في الغرب، وما احتلته في العصر الحديث، لدرجة انها اوحت بالثورة، او اصبحت مصدر فهم اعمق، كما قال لنين عن روايات بلزاك، او حتى بصدد أثرها في الثورة، والثورة الفرنسية على وجه الخصوص، هذا بينما الرواية العربية، لم تكتب الملحمة العربية الحاضرة، ولا هي استطاعت ان تكشف من دون غيرها من وسائل الفحص النظرية، عن العلة التي تجعل المستعار والمفارق، وليس المطابق، من الرؤى والافكار مهيمنا. يعني ذلك اننا نقارب مشهدا مشوشا او متراكبا غير متسق، قد تكون الاجابات عليه لا تزال في رحم الغيب، هذا والحياة لا شيء يوقف جريانها، ولا مفاجأتها.
كل هذا يجعلنا نسأل تكرارا، اين اصبح موقع الشعر، وهل ان مسار الحداثة العربية، كان دفعة من خارج السياق، ام انه حقيقة تأتت عن تفاعلات اصيلة. يخطر بالبال احيانا، الاعتقاد بان التاريخ العربي الذي نتخيله او نتوهمه، هو تاريخ خواتيم لا ننتبه لدلالتها، واذا كانت الابراهيمة تتأتى عن قانون، يعكس ابعد بكثير مما نعتقد، قوة فعل في قلب آليات تاريخ هذه المنطقة، فان الختام الذي يخيم هنا مفهوميا منذ الف واربعمئة عام، يبدو قضية اشكالية، عندما نبحث في المستقبل من زاوية حتمية تقدم التاريخ، وهل هو مهيأ للجمود. لكننا هنا نعرف ان «النبوة ختمت»، اما الشعر، فان عالمه لم يعرف متل هذا الاعتقاد، وترك سائبا، ربما لان التوصل لمثل هذه الحقيقة، يتطلب اجبار الزمن للمعنيين والمتعاطين بالشعر، على الاعتراف بذلك، وهو ملاذ يجد الشعراء انفسهم مستعدين لمواجهته.
غير ان المرء يمكن ان يداخله احيانا الشعور، بان قامة «المتنبي» تكاد تكون واقعة تحد تاريخي، تجمل في داخلها عالما ضخما ومميزا فعلا، يمتد من الجاهلية الى الفترة العربية العراقية، وان هذا الميدان لم يعد من وقتها يحتل المعنى ذاته في الحياة. صحيح ان نظم الشعر استمر، وهو قد يكون عرف فترات نهوض، الا انه لم يصبح ابدا مثلما كان، والجزيرة العربية التي اسست الشعر العربي الغالب بقالبه العمودي، منذ الجاهلية، توقفت بعد ظهور الاسلام الى اليوم الحاضر، عن مواصلة دورها، ذلك بينما لم يعد الشعر في اي من الفترات اللاحقة، يحتل المكانة نفسها التي كان يحتلها في الوجدان العربي، ومن ثم، من حيث الوظيفة. لا يمكننا ان نجزم او ننفي وجود شعراء، بعضهم ليس قليل الاهمية من كل النواحي المجردة، لكن لا وجود قطعا للشعر باعتباره مصدرا من مصادر البوح العام، له فعالية على مستوى الدلالة والخيارات، وحيث تتراجع باطراد، مكانة ودور هذا المجال الخطير في حياتنا الثقافية والادبية، في العقود الاخيرة، تتزايد اهمية والحاح السؤال قبل البحث عن مؤداه ونتائجه، ترى هل للشعر ختام، وهل «ختم الشعر العربي» بالذات؟
(كاتب عراقي)
عبد الأمير الركابي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد