إعلان الخلافة فرصة ثمينة لاتحاد العراقيين
(1)
بقيامها بشطب العراق والشام من مسمّاها، خسرت «داعش»، بين عشية وضحاها، تفوّقها الأيديولوجي السياسي على المنظمات التكفيرية والطائفية الأخرى. ففي مشروعها الأول، قدمت تصوّراً مطابقاً لواقع اجتماعي سياسي ممكن في بادية الشام، مكّنها من التحشيد على جانبي الحدود السورية ـ العراقية، والاقتراب من الحدود الأردنية، مجتذبةً جماهير بدوية ونصف بدوية تسعى إلى الانفصال عن الدول الوطنية الظالمة القائمة، متأملةً، بالدرجة الأولى، بتحسين ظروف حياتها في الهنا والآن.
لا نعرف كيف ولماذا تخلى أبو بكر البغدادي عن الفكرة الجذّابة التي أطلقتها منظّمته، وساعدته في بناء قواعد قبلية بدأت تتمدد بالفعل، في سياق مشروع «واقعي»، رغم ما يواجهه من عقبات إقليمية ودولية جسيمة، ولكننا نرى أنه خسر سلاحه الأمضى، بذهابه بعيداً إلى مشروع طوباوي خيالي هو مشروع «الخلافة» الأممية، المحصور، فعلياً، في خلافة «القاعدة» وبن لادن. حددت «داعش» مجرى حربها، إذاً، في القتال لاستتباع فصائل السلفية الجهادية أولا، والطائفية السنية ثانياً. وهو ما يعني المزيد من الراديكالية في تطبيق فقه أولوية مقاتلة «العدو القريب». (وهو ما يشبه، بالمناسبة، الفقه اللينيني القائل بأولوية النضال ضد انحرافات الاشتراكيين، وتطهير الحزب إلخ).
(2)
بدأ الخلاف يدبّ بين «داعش» وحلفائها في الاستيلاء على الموصل، النقشبندية والبعثية والفصائل الطائفية، مبكراً. ففي مباحثات تشكيل مجلس عسكري مشترك، طلب الحلفاء أن يكون المجلس تحت رئاسة عزة الدوري، لكن الأهمّ أنهم تشددوا في أن يتولى العراقيون، وحدهم، أي مسؤولية عسكرية أو شرعية أو سياسية، بمعنى أنهم قبلوا «داعش» باعتبارها قوة عراقية، وتوهّموا إمكانية ضمها إلى التيار العربي السنّي العريض الذي يشتمل على ثلاثة مواقف: (الانفصال، توحيد العراق تحت سلطة سنية، التفاوض مع بغداد من موقع القوة لتعديل الحصص الطائفية)، أي إنها كلها عراقية الاتجاه؛ فماذا الآن، وقد دعا الخليفة، المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، إلى الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإيمان؟ ستزعزع هذه الدعوة الأممية نفوذ «داعش» الذي حصّلته في المناطق السورية والعراقية التي وقعت تحت سطوتها، وستزعزع صورتها في المناطق المحتملة الأخرى. فالخلافة، كالقاعدة، مشروع أممي ضارب في الخيال، بينما تتطلع القبائل إلى مشروع محلي ضيق يسمح بتحقيق مكتسبات آنية وقصيرة المدى.
(3)
يسير إعلان الخلافة خطوة أكثر تشدداً وشمولية في عملية التكفير؛ ليس المسيحيون والشيعة والعلويون وأعضاء الطوائف الأخرى والسنة العلمانيون هم الكفّار فقط، بل كل مَن يبيت وليس في عنقه بيعة من المسلمين الذين هم بالنسبة إلى الخلافة، السنَّة تحديداً. يعني ذلك تكفير البعثيين والفصائل الإسلامية والعلماء المسلمين والعشائر، أي كل مكونات التمرد السني المسلح في العراق. الخليفة يعلن الحرب الأهلية الشاملة على حلفائه المؤقتين.
رئيس هيئة العلماء المسلمين، الشيخ حارث الضاري ـ وهو أرفع شخصية دينية ـ سياسية سنية في العراق، وزعيم «كتائب ثورة العشرين» ـ شنّ هجوماً شرساً على الخلافة والخليفة، وأفتى بأن «البيعة له غير ملزمة، شرعاً، لأحد من الناس»، واعتبر أن «إعلان الخلافة ـ وإن كان صورياً ـ فإنه يعطي للحكومة العراقية، دفعاً قوياً وتأييداً دولياً (.) ويعزز الانقسام بين الفصائل» العربية السنية. وهذا تقدير صحيح للموقف الناشئ؛ سوف تستقطب «الخلافة»، لما تكتنزه من أموال وأسلحة، فصائل من «جبهة النصرة» في سوريا وفصائل سلفية تكفيرية أخرى، بل وربما تنجح في توحيد القيادة والبندقية لمعظم القوى المرتبطة بـ«القاعدة» وتنظيمها وفكرها، وترث هذا التنظيم الدولي، لكنها سوف تشتبك مع جميع القوى الأخرى في التمرد السني السوري ـ العراقي.
(4)
بالنسبة إلى سوريا، حيث توجد ـ برغم عيوبها العديدة ـ دولة وطنية وجيش وطني متماسك وقوي، فإن الصراع بين «الخلافة» من جهة، و«النصرة» والتنظيمات الطائفية الأخرى، من جهة أخرى، سوف يسهّل لدمشق معاركها الأخيرة مع الإرهاب كله، لكن بالنسبة إلى دولة المحاصصة الطائفية العراقية، فإن الأمر مختلف نوعياً. بطبيعة الحال، لا حل، جذرياً، للأزمة العراقية، إلا بالخروج من العملية السياسية الطائفية نحو دولة وطنية جديدة، ولكن التطورات تفسح في المجال أمام حكومة نوري المالكي لاتباع سياسات حصيفة تنهي الحرب القائمة، وتحوّلها إلى محاصرة شاملة وحصرية لـ«داعش»؛ يتطلب ذلك إجراءات وخطاباً سياسياً جديداً. العفو العام خطوة صغيرة في الاتجاه المطلوب؛ ولكن، ربّما حان الوقت لدفن القانون الانتقامي الطائفي المعيب المدمر القاضي بـ«اجتثاث البعث» بمختلف تسمياته؛ يستطيع المالكي تجميد القانون فوراً ومن طرف واحد، والتعهد بإلغائه في البرلمان، والإفراج عن المعتقلين، ودعوة البعثيين وقيادات الفصائل غير التكفيرية والعشائر من المناطق السنية، للبحث في إنهاء العمليات العسكرية، وتوجيه كل البنادق نحو «داعش»، ولاحقاً نحو العدوان الكردي ـ الصهيوني على كركوك، وإعادة تأسيس هوية جامعة لعراق موحد؛ عراقوية ــــــ مشرقية ــــــ عروبية.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد