الخاصرة التركية تقلق أوروبا.. وتحرج «الأطلسي»
لا يفهم الكثير من المسؤولين الأوروبيين ما الذي تفكر فيه أنقرة، ولماذا تتصرف على هذا النحو الذي بات يهدد أمنهم مباشرة. عبر الحدود التركية يعبر آلاف «الجهاديين» الغربيين، وعبر هذه الأداة صار تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش» يشكل خطراً أمنياً يمكنه أن يطالهم في قلب بلدانهم. لا يجدون أحياناً غير الشكوك، يرمونها باتجاه من يفترض أنها شريكة لهم في حلف «الكل للواحد والواحد للكل».
تطفو هذه الخلاصات بينما يناقش الأوروبيون حالياً، وبشكل مكثف، إحياء سياسة أمنية ودفاعية مشتركة.
تعترف أوروبا الآن بأنها تعاني نقصاً أكيداً في قدراتها العسكرية، وفي البنية اللازمة لحفظ أمنها. ولهذا السبب اجتمع وزراء الدفاع في دول الاتحاد الاوروبي، أمس، بعدما طلبت ذلك وزيرة خارجية الاتحاد الجديدة فدريكا موغريني، التي قالت إنها تريد أن تفي بوعود قطعتها، قبل أن تستلم منصبها في مطلع تشرين الثاني الحالي، حينما تعهدت بأنها ستنخرط بفعالية في إنشاء سياسة دفاع وأمن مشتركة.
الهدف العريض هو زيادة قدرات أوروبا لمواجهة التحديات الصاعدة حديثاً في الشرق، حيث الصراع مع روسيا في ذروته على خلفية الأزمة الأوكرانية، وكذلك في الجنوب حيث الحروب الأهلية في الدول العربية باتت ناراً تحاصر حدود القارة العجوز.
دول أوروبية عدة طالبت بوضع تهديد «داعش» على قائمة أجندة هذا النقاش، وأن تتعامل السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة معه بوصفه «تحدياً مشتركاً».
هذا ما يؤكده مسؤول أوروبي قام بالتحضير للاجتماع، موضحاً أن موغريني استجابت «لأنهم يريدون التباحث حول هذا الموضوع، وغير ذلك سيشعرون أن الاجتماع غير مرضٍ لهم».
وزراء دفاع هذه الدول، وعلى رأسها المانيا، يريدون العمل على بناء سياسة أوروبية موحدة لمواجهة تهديد التنظيم «الإرهابي»، وألا يبقى ذلك مقروناً برغبة وهواجس دول بعينها.
يقول المسؤول الأوروبي موضحاً: «إنه تهديد عام، وليس من الصحيح أن هناك فقط بعض الدول معرضة للتهديد»، قبل أن يضيف: «البداية الآن هي مع طرح هذا النقاش السياسي، وهذا مهم حتى لو بدأنا نخطط الآن لأي نشاطات عملانية».
طرح المباحثات حول هذه القضية جاء تحت عنوان: «الوضع الأمني على حدود الجوار الأوروبي».
هناك من جهة أزمة أوكرانيا، لكن من الجهة الأخرى المخاطر الآتية من الجنوب. هنا يؤكد الأوروبيون أنهم ملتزمون بشكل كامل بـ«هزيمة داعش»، لافتين إلى أن ذلك يتطلب قدرات عسكرية وأدوات أخرى، سياسية واجتماعية وثقافية لمواجهة «أسبابه الجذرية».
نقاش كهذا تطلب حضور يانس شتولتنبرغ، الأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي»، الذي اجتمع مع وزراء الدفاع. الفراغ بين حدود الحلف، وحدود الاتحاد الأوروبي، تملأه دولة واحدة فقط، هي تركيا الملتصقة باليونان. لكن من هذا الفراغ يأتي الآن «تهديد أمني رئيسي»، كما تصفه وثائق الاتحاد الأوروبي، هو آلاف «الجهاديين» الذين عبروا إلى هناك من الحدود، ويتوعد «داعش» باستخدامهم للانتقام من هجمات «التحالف الدولي».
أنقرة المتهمة بالتساهل، لطالما نفت أن يكون تمرير «الجهاديين» سياسة ممنهجة من قبلها. بررت بأن حوالي 900 كيلومتر من الحدود الطويلة مع سوريا، تصعب مراقبتها. نفت بشدة حديث مسؤولين وتقارير عديدة بأن العبور كان يجري من منافذ مسهّلة.
لكن كل هذا السجال لا يلغي واقعاً بات قائماً، ولم يعد ينكره أحد برغم الإحراج الذي يسببه: تركيا هي الآن عملياً الخاصرة الرخوة لأقوى حلف عسكري في العالم. ينبغي التذكير بأن قوات «الأطلسي» قطعت مسافات شاسعة للقتال في أفغانستان، تحت راية مواجهة «الإرهاب»، فيما الأخير بات الآن يدخل ويخرج عابراً حدود الحلف.
خلال توجهه إلى الاجتماع، سألنا الأمين العام لـ«الناتو» عن رأيه بهذا الواقع. قال شتولتنبرغ بداية إن «الجهاديين» يمثلون «مشكلة أمنية خطيرة، لهذا السبب قرر الناتو العمل عن كثب بين الحلفاء لتبادل المعلومات والاستخبارات، لنفعل ما يمكننا لتفادي وتقليل المخاطر الناجمة عن عودة المقاتلين الأجانب إلى دولنا».
لكن ماذا عن «الضعف الأمني» على حدود الحلف، لجهة تركيا تحديدا؟ سمع شتولتنبرغ السؤال بوضوح، لكنه تفادى الإجابة عنه مباشرة. من المفهوم أن القضية تسبب إحراجاً متزايداً، فالتهديد الذي تصرخ الدول الأوروبية محذرة منه يعبر من حدود «الناتو» الشرقية مباشرة. في الأساس تجاهل الحلف لفترة طويلة أي ذكر لموضوع «المقاتلين الأجانب». أخيراً جاء انخراطه في القضية، بعدما قرر زعماء الحلف ذلك، بقيادة الولايات المتحدة، خلال قمة ويلز الأخيرة التي شهدت ولادة «التحالف الدولي».
القضية برمتها ليس فيها غير الإحراج والحساسية. حينما نفذ مهدي نموش الاعتداء على المتحف اليهودي في بروكسل، ليقتل أربعة أشخاص، كانت طلقات بندقيته تتردد على بعد كيلومترات قليلة من مقر «الناتو». لكن مع ذلك لم يصدر الحلف أي بيان يدين فيه الاعتداء. عادة ما يصدر «الناتو» بياناته ليدين ويهنئ، معلقاً على الأحداث في أقاصي الأرض، لكنه لم يصدر ولو بضعة أسطر حول اعتداء بروكسل. برر مسؤولون في الحلف ذلك، حينما سؤلوا سابقاً، بأن الناتو يمتنع عن إصدار أي بيان حول قضية ما عندما تطلب إحدى دوله ذلك.
على كل حال، بدل الرد حول إثارة قضية الضعف الأمني على حدود الحلف، قال شتولتنبرغ مجيباً عن سؤالنا إنه «حينما يأتي الأمر لأمن الحدود، فالمسؤولية الرئيسة للناتو هي حماية الحلفاء والدفاع عنهم ضد أي تهديد، لذلك نحن واضحون جداً في ما يخص الأمن المشترك، حيث الواحد للكل والكل للواحد». لخص تنفيذ هذا الالتزام بنشر الحلف لبطاريات صورايخ الباتريوت، قرب الحدود التركية ـ السورية.
مسؤولون أوروبيون لم يعودوا يتحرجون من الحديث عن دور تركيا. تحدث عن ذلك إلمار بروك، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوروبي. السياسي البارز في حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، رد على سؤالنا بالقول إنه «يجب أن يكون هناك تعاون أفضل (بين تركيا والأوروبيين) بالنسبة إلى من يذهب ويخرج عبر الحدود»، قبل أن يضيف بلهجة لائمة «في الماضي حصل عناصر داعش على الدعم عبر التراجع وتلقي العلاج في مستشفيات تركيا».
بعيداً عن المداورة، قال بروك: «أعتقد أنه علينا ألا نعطي المقاتلين من أمثال داعش ملاذاً في حديقتنا الخلفية كي يتعافوا. لا يجب (على المسؤولين الأتراك) أن يدعموا داعش، بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر هذه الأدوات»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الماضي ولا أعرف إذا كان لا يزال يحدث اليوم».
وضع تهديد «داعش» على أجندة السياسة الأمنية والدفاعية، التي يريد الأوروبيون تقويتها، يفترض أنه مقدمة لتوفير أدوات تواجه تهديداته. مسؤول أوروبي يعمل على الملف قال إن «التهديد حقيقي ويتطور بشكل مستمر، ونعلم جيداً أن هذا الوضع يؤثر في الاتحاد الأوروبي بما يتجاوز قضية المقاتلين الأجانب فقط».
في هذا السياق، وجه العديد من السياسيين الأوروبيين انتقادات للنهج الأوروبي، والنقص في تطوير سياسة مشتركة لتطويق خطر «الجهاديين». هناك تسع دول تنسق سياستها بشكل وثيق، على اعتبار أنها الأكثر تعرضاً للظاهرة، الأمر الذي دفع بأحد السياسيين المعترضين للقول مؤخراً: «لو كنت إرهابياً وأردت تنفيذ اعتداء، كنت سأختار بالطبع إحدى الدول التسع عشرة الأخرى» في الاتحاد الذي يضم 28 دولة.
مسؤولو مكافحة الإرهاب لفتوا مراراً إلى نقص القدرات الأوروبية الأمنية، خصوصاً أن أكثر من ثلاثة آلاف أوروبي منخرطون في القتال داخل سوريا والعراق. أكدوا أن مراقبة كل «جهادي»، على مدار 24 ساعة، تتطلب عشرين رجل أمن، وأن ذلك «يفوق قدراتنا» على حد تعبيرهم.
يبدو ذلك مفهوماً وفق هذه التقديرات، ونظراً إلى أن الإرسال إلى السجن، عبر المحاكمات، ليس يسيراً لصعوبات عدة، منها كيفية توفير أدلة تثبت الإدانة قضائياً. على هذا المنوال، عودة كل المقاتلين ستعني أن على مجموعة من الدول الأوروبية توفير ستين ألف رجل أمن، لا شغل لهم إلا رصد تحركات العائدين.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد