أدونيس: (قنٌّ هائل لتربية الدّجاج ( حوار مع صديق ))
- 1-
(...)
ـ أطفالٌ يولدون كالدّواجن. ينشأون، يعيشون، يتعلّمون كالدّواجن. ثمّ،
ذات يومٍ، ذاتَ لحظةٍ، لسببٍ أو آخر، مشارَكةً في وليمةٍ سياسيّةٍ،
أو احتفاءً بعرسٍ حربيٍّ،
يُذبَحون كالدّواجن.
إنّه العصر - قِنٌّ هائلٌ لتربية الدّجاج، من نيويورك إلى بيشاور،
مروراً بالبحر الأحمر الذي بدأ يَسْوَدّ.
المزارع، داخل هذا القنّ تتنوّع بلا حدود.
أشكال التربية، وشروطُها وطُرُقُها تتنوّع هي كذلك بلا حدود.
إنّه عصر الذرّة والتقنية - عصر الدّواجن!
هل يريد الإنسان في هذا العصر أن يخرج من نَسل أسلافهِ متمرِّداً عليهم؟
هل يطمح إلى أن يكون مقدِّمةً لنسلٍ جديد؟ نسلُ آلاتٍ في صورٍ إنسيّة،
أو إنسٍ في صور آلات.
لا نعود في حاجةٍ إلى الأيدي العاملة، سواء كانت مصبوغةً بالدّم،
أو كانت تتحرّك وهي تقطر عسلاً.
ولا نعود في حاجةٍ إلى الأكباد والقلوب، سواء كانت تخفق أو تحنّ
في قلاع الكراهية أو في خيام العشق.
ولا نعود في حاجةٍ إلى الأعين لأنّ من يرى سيتغيّر ويُصبح كمثل من لا يرى.
ولا نعود، على الأرجح، في حاجةٍ إلى النُّطق،
لأنّ الألسنة جميعاً تكون قد صارت آليّةً أو فوقية، تردّد الكلامَ ذاتَه، أخيراً وكاملاً ونهائيّاً.
الكلام نفسه الذي يُبتَكَرُ به المعنى، لن يعود له أيُّ معنى.
أوه، يبدو حقّاً أنّ الإنسانَ هو العدوُّ الأوّل للإنسان.
- 2 -
شبحٌ يُمسك بجمجمة هذا الإنسان الجالس على كرسيِّه في ظلّ شجرةٍ تشبه شجرةَ الزَّقّوم. يداعب العنقَ هامساً، لكن في سمع الأفق:
" غداً أو بعد هنيهات، سيتمّ الأمر.
المجزرةُ، تحديداً، فنٌّ: هي أن تُقطَع رؤوسُ البشر كما تُقطَع رؤوس البصل. بهدوءٍ. بتقنيةٍ عالية. ولا بأس أن يُسكبَ الدّمُ في جرارٍ عتيقة الصّنع. أو أن يُراقَ على الأحذية الخاصّة بالعسكر والجند من كل نوع، أو أن يُصَبّ كمثل شرابٍ سلسبيل في معدة العصر".
- 3 -
ـ لماذا تحدِّق فيّ؟
كلاّ، كيف أعرف أين يتطاير جسمُك؟
لا أحد سيهتمّ أين تكون جثّتُكَ:
في أعماق الأرض أو في العراء،
تحت النّجوم التي غنّاها امرؤ القيس،
أو بين الغيلان الذين رافَقَهم تأبّطَ شرّاً،
أو على عتبة الصباح الذي وُعِد به ليلُكَ الطّويل.
- 4 -
لماذا تسأل بإلحاحٍ: كيف يُقتَل إنسانٌ لا يتكرّر، إنسانٌ مُفرَدٌ بوعيِهِ وشكله،
تنويعاً وشهادةً على غِنى الخليقة وتعدُّد وجوهها،
كيف يُقتَلُ عمْداً في بيته أو في الشارعِ
أو كيف يلذّ له أن ينفجرَ آخِذاً في شظاياه آخرين ممّن يصادفهم؟
أو كيف يَنحر شبيهه في الصّورة، كما يُنحر أيُّ خروفٍ بائس، ثمّ يستمتع فيضع الرأسَ الذي قطعه على صدر صاحبه كأنّه يجهِّز عملاً فنّياً معاصراً خاصّاً بمتحف القتل الكونيّ المعاصر؟
أو كيف تُعرَض المرأة في قفصٍ كأنّها دجاجةٌ من عالمٍ آخر،
وتُباع كما تُباعُ الدّجاجةُ في عالم اليوم؟
ولماذا تسأل بإلحاحٍ مُضحِكٍ: ما دورُ الشِّعر في هذا كلِّه؟
ومن أين تجيئكَ هذه المقدرة على طرح مثل هذا السّؤال؟
وهل للشعر في العالم العربيّ مكانٌ لتكونَ له مكانة؟
سمِّ شاعراً عربيّاً واحداً يُذكَرُ إلاّ بوصفه جزءاً من ظاهرةٍ سياسيّةٍ إيديولوجيّة.
محمود درويش نفسه الذي تحبّه، وهو جديرٌ بالحبّ، والأكثر شهرةً في العالم العربيّ، لا يُذكَر إلا بوصفه مرتبطاً بالقضيّة الفلسطينية.
لم يُذكَر مرّةً واحدةً حتى عند الذين درسوه وأحبّوه، بوصفه خلاّقاً لعوالم جديدة، فنّيّاً وجماليّاً ومعرفيّاً.
الغناء، مثلاً، أكثر أهمّيةً عند العرب المعاصرين، وأكثر حضوراً.
حتى صباح المغنّية اللبنانيّة، وهي جديرةٌ بالتقدير والتّكريم، أكثر حضوراً عندهم من شاعر جديرٍ بالتقدير والتكريم، هو أيضاً، إضافةً إلى أنّه مجَدِّدٌ وخلاّق: سعيد عقل.
ولقد "اهتمّ" العرب حتى في لبنان "بلد الشعر!" لموتِ صباح، أكثر ممّا اهتمّوا بموت سعيد عقل.
الشعرُ عند العرب مجرّد طرب. طرب من الدّرجة الثانية.
- 5 -
تبـدو فـي هذه اللحظة كأنّك سيزيف آخر.
ولماذا تحدِّق فيَّ. ما الأمر؟ ماذا وراءك؟
هل تعبتَ؟ أعرف أنّ أمامك صخوراً لا تُحصى.
في الأسطورة اليونانية كان سيزيف سعيداً: عاش يُدَحرِج صخرةً واحدة!
اليوم، في الأسطورة العربيّة، لا نهاية للصخور التي كُتِبَ عليك أن تُدَحْرجها. ازداد البلاء والشقاء.
والصّخور، هذه الصخور، لا تقيم في بيتٍ منفصلٍ عنك، اسمه الطّبيعة. إنها مقيمةٌ في الرؤوس والقلوب. في الدّم وشرايينه وأوردته. في المخيِّلة والقدَمَيْن والخطوات واليدين.
هل تقدر أن تتخلّص من كلّ قديمٍ فيك، دون استثناء؟
أكرّر: كل قديم؟
إذاً آنذاك يمكن أن تحلم. آنذاك، يحقّ لك أن تحلم.
آنذاك يمكن أن تدحرج جميع الصخور، بعيداً بعيداً.
- 6 -
لكن، أرجوك أنت الغارق في الحداثة، أن تلاحظ معي. أن تتابع، أن
تستقصي:
ألا ترى كيف ترقص قبّعةُ الحداثة
على رأس قردٍ آليّ؟
ألا ترى كيف يُعَلَّبُ ذلك الطّفل؟
كلاّ، لم أخطىءْ في اللفظ: أقول يُعَلَّب، ولا أقول يَلْعَب.
هل اهتديتَ إلى تعريفٍ أخيرٍ للسلطة في الحياة العربيّة؟
أهيَ في القلم، أم في السّيف؟
أهي في المُواطَنَة أم في التّمَذْهُب؟
أهي في الدّاخل أم في الخارج؟ في العبوديّة، أم في الحرّيّة؟
لا أريد جواباً.
أريد، على العكس، أن أذهب معك إلى أبعد.
أفلا ترى أيُّها الصّديق، أنّ الرّغبة عند العربيّ، اليوم، في حياةٍ سعيدة،
بعد المرارات الكثيرة المتنوِّعة التي يرثها أو يعيشها،
هي التي تدفعه، شبه يائسٍ، إلى القبول بكلّ ما يتيح له تحقيقها؟
كأنّه يرى في هذه الرّغبة ما يحجب عنه شقاء التاريخ،
وما يحول بينه وبين إعادة النّظر في أسباب هذا الشقاء،
أو التفكير في هذا التاريخ؟
لكن يجب أن يُدرك أنّ في هذه الرغبة أيضاً ما قد يدفعه
إلى مزيدٍ من التوهُّم، ويحرِف وعيَه الثّقافيّ عن البحث والتساؤل
والاستقصاء، ويحوّل ثقافته، تبعاً لذلك، إلى نوعٍ من المَلاذ السيكولوجيّ.
وفي هذا المَلاذ، يزداد يقينه،
خصوصاً في ضوء الأحداث التي تحيط به،
أنّ العالم الذي يعيش فيه ليس إلاّ غابةً من العكاكيز:
عالم لا يقوم بذاته، وإنّما يقوم بغيره.
وتلك هي مشكلةٌ كبرى.
حسناً. نتوقّف هنا.
وإلى خميسٍ مُقبل.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد