الشَّكُّ واليقين الدّينيُّ عند الغزالي
يراهن رجال الدّين وخاصَّة المتأخرين منهم على “تميّز” الدّين الإسلاميّ عن بقية الأديان ببراهين قاطعة وأدلَّة دامغة لا ينكرها إلاَّ جاحد. ثمَّ إذا تحقَّق أحدهم من هذه الدَّعوى.. تشكَّك أو ارتدَّ! كما حدث -أو كاد- مع حجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي حين غرَّته هذه الدَّعوى وسعى في تحصيل أسبابها في علوم الكلام والفلسفة.
نناقش هنا بإيجاز أهمَّ مراحل الشَّكّ في الدّين عند الغزالي وكيفيَّة معالجته للمسائل المتعلّقة بإثبات الشَّرع معتمدين على اقتباسات من مؤلّفاته دون إخلال بمعناها في سياقها وبحسب التَّرتيب الزَّمنيّ لتأليفها.
يقول خطيب نيسابور عن الغزالي: (حكى أنَّه راجع العلوم وخاض في الفنون وعاود الاجتهاد في كتب العلوم الدَّقيقة حتَّى انفتحت له أبوابها، وبقى مدَّة في الوقائع وتكافؤ الأدلَّة وأطراف المسائل. ثمَّ فُتح عليه باب من الخوف بحيث شغله عن كلّ شيء، [غير التصوُّف] وحمله على الإعراض عمَّا سواه، حتَّى سهل ذلك.) وأيضًا -المعاصر له- عبدالغافر الفارسي قال: (فُتح عليه باب من أبواب الخوف).
ولعلَّ من الأسباب الَّتي أدَّت إلى هذه الأزمة هو دراسة كتب الصُّوفيَّة وسيرتهم. خاصَّة وأنَّ [الفضل بن محمد الفارمذي] دخل بغداد تلك الفترة ودرَّس في النّظاميَّة وعلى يديه تاب كثير من العباد ورجعوا إلى الله وكثير منهم من زهد في الدُّنيا وتنسُّك. كما ذكر ابن كثير.
والأهمُّ ما حكاه عن نفسه قائلاً: “فتيقنت أنّي على شفا جُرُف هار، وأنّي قد أشفيت على النَّار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال”.فكانت هذه بداية الأزمة الرُّوحيَّة عند الغزالي الَّتي أدَّت لفقدانه المقدَّرة على النُّطق وبلع الطَّعام لمدَّة ستَّة أشهر، خرج بعدها من بغداد متخفّيًّا إلى دمشق ليبدأ عزلته الصُّوفيَّة الَّتي استمرَّت قرابة عشر سنوات.
ظهر بعدها تبديل رأي الإمام، واعترف بوقوعه في ضلالة جدوى الكلام لإثبات الدّين قائلاً في كتاب (جواهر القرآن): (“فلقد تعثرنا في أذيال هذه الضَّلالات مدَّة لشؤم أقران السُّوء” “ومن ظنَّ أنَّ مدرك الأيمان الكلام والأدلَّة المجرَّدة والتَّقسيمات المرتبة فقط بعد عن الإنصاف”) “التَّخبيط والتَّضليل فيه [الكلام] أكثر من الكشف والتَّعريف...فأمَّا معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله..فلا يحصل من علم الكلام، بل يكاد أن يكون الكلام حاجبًا ومانعًا عنه” -الإحياء ثمَّ يعلن بتصريحاته وتلميحاته الَّتي تملأ مؤلّفاته (مثل الإحياء وفيصل التَّفرقة) أنَّ الدّين تجربة ذوق فرديَّة صوفية لا تقبل البرهنة!
وهو برغم نبوغه وإسهامه في الفلسفة الإسلاميَّة وشرحه للمنطق وإبداعه في صياغة براهين الألوهيَّة والصّفات، وتراثه الفلسفيّ المؤثّر في الشَّرق والغرب، إلاَّ أنَّه لم يسوق لنا أي دليل في إثبات النُّبوَّة وصحَّة الدّين بل وتهرَّب من ذلك قائلاً في كتاب (قواعد العقائد): إنَّ من يطلب دليل نبوَّة النَّبيّ كرجل يقف خلفه سبع ضارٍ وهو يرفض الالتفات لمن يحذره حتَّى يجد دليل صدق تحذيره ..
وكذا رسول الله إذ قال “وراءكم الموت ودونه النّيران إن لم تأخذوا منها حذركم وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي وإلاَّ هلكتم” بالإضافة لقوله في السُّطور اللاَّحقة: “يعرف صدق الطَّبيب بالتَّجربة ويعرف صدق النَّبيّ بالمعجزة” وهي [المعجزة] ما جعلها موضوع “الأصل العاشر” في نفس الكتاب.
ولكن خلال تنقله بين دمشق والقدس والخليل ومكَّة والمدينة متأثّرًا بالصُّوفيَّة تراجع عن موقفه مع حجيَّة المعجزة ولم يعد يعتبرها إلاَّ مسكنًا “لشكوك العوام والمتكلّمين” على حدّ سواء. إذ يقول في كتاب (القسطاس المستقيم) “لعلَّه [الإعجاز] حيلة أو تلبيس فلا يثق به وإن لم يكن تلبيس فغايته أنَّه فعل عجيب، ولا يستلزم منه نبوَّة...بل من يؤمن بقلب العصا حيَّة وشقّ القمر ثمَّ يكفر بخوار عجل السَّامريّ، فتعارضه جليٌّ....ويحصل به إيمان ضعيف وهو إيمان العوام والمتكلمين”!
وحتَّى حين يعتمد المعجزة كدليل في ما كتب لاحقًا، فباعتبارها أدنى بمرتبةً من اليقين، فيقول في (المنقذ): “الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة لو تحدَّى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًا وإنكارًا. فأنّي إذا علمت أن العشرة أكثر من الثَّلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثَّلاثة أكثر بدليل أنّي أقلب هذه العصا ثعبانًا، ولو قلبها وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلاَّ التَّعجب عن كيفيَّة قدرته عليه، فأمَّا الشَّكُّ فيما علمته فلا. ثمَّ علمت أنَّ كلّ ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النَّوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكلّ علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني”.
ثمَّ لا يلبث عدَّة أشهر حتَّى ينتصر للإيمان الوراثيّ على حساب إيمان الدَّليل بعد أن لم يجده -ممَّا يشي بإرادة إيمان مسبقة عنده-، قائلاً في كتاب (مشكاة الأنوار): “الإيمان قبول مجرَّد بالتَّقليد وحسن الظَّن بأهل الوجدان والعرفان”. وفي(فيصل التَّفرقة بين الإسلام والزَّندقة): يقول: “العامي مؤمن وإن لم يعرف أدلَّته..إيمان الكلام ضعيف جدًّا..بل الإيمان الرَّاسخ إيمان العوام الحاصل من الصبا بتواتر السَّماع، والحاصل عند البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التَّعبير عنها”. ويؤكّد مرارًا أنَّها “نور يقذفه الله..عطيَّة وهديَّة..لا يمكنه التَّعبير عنها”.
رغم أنَّه يشنّع إيمان التَّقليد في مواضع كثيرة:
(صبيان النَّصارى لا يكون لهم نشوء إلاَّ على التَّنصُّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلاَّ على التَّهوُّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلاَّ على الإسلام- كتاب المنقذ)، “من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضَّلال-المنقذ” ومن قال“الرُّكون إلى الدّعة أولى بي والقناعة بالاعتقاد الموروث من الآباء أسلم لي...خسيس قاصر النَّظر”- معيار العلم (ولا تكن في صورة أعمى تقلد قائدًا يرشدك إلى الطَّريق، وحولك ألف مثل قائدك ينادون عليك بأنَّه أهلكك، وأضلك وستعلم في عاقبة أمرك ظلم قائدك فلا خلاص إلاَّ بالإستقلال -كتاب ميزان العمل)، (ومن قلد أعمى فلا خير في متابعة العميان- ميزان العمل)، (من عوّل على التَّقليد هلك هلاكًا مطلاقًا- كتاب معراج السالكين)، (فالدَّاعي إلى محض التَّقليد مع عزل العقل بالكليَّة جاهل- كتاب الإحياء) ..!!
فلم يكذب عليه ابن طفيل حين قال: أنَّه متناقض يقول بالرَّأي ويقول بنقيضه ثمَّ يستمسك بالرَّأيين كليهما. وفي آخر حياته يحكي عن رحلة شكّه في (المنقذ من الضَّلال) أنَّ علم الكلام “قليل النَّفع في جنب من لا يسلم سوى بالضَّروريات شيئًا أصلاً، فلم يكن علم الكلام في حقي كافيًّا، ولا لدائي الَّذي كنت أشكوه شافيًّا” وأنَّ من حصل لهم اليقين به فلأنَّه “مشوب، بالتَّقليد في بعض الأمور الَّتي ليست من الأوَّليات” والَّتي دخلته عليه عن طريق “إمَّا التَّقليد، أو إجماع الأمَّة أو مجرَّد القبول من القرآن والأخبار”.
وحتَّى حجّيَّة الإجماع كان قد قال فيها في كتاب (الإقتصاد في الإعتقاد):
[الشَّبه كثيرة في كون الإجماع حجَّة قاطعة ..وقال النظّام (ليس يدلُّ على إستحالة الخطأ على أهل الإجماع دليل عقليٌّ قطعيٌّ ولا شرعيٌّ متواتر لا يحتمل التَّأويل)، وهذا في محلّ الإجتهاد ، ولي فيه نظر“].
ويحسب للغزالي هنا أمانته العلميَّة وإحترامه للمنهج المنطقي، فمعلوم منهج المتكلّمين أنَّ الإستنتاج عندهم يسبق الدَّليل، حيث تُرتب المقدّمات لأجل إثبات عقيدة مسبقة الإيمان. إلاَّ أنَّه لم يحتمل النَّتيجة الَّتي وصل لها بأن يترك الدّين كونه لم يستطع إثباته كلاميًّا حيث رمى بنفسه يائسًا في أحضان التَّصوُّف، وعزا ذلك لإنكشاف (”أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها..رسَّخت في نفسي لا بدليل معيّن محرّر بل بأسبابٍ وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلُها..فمن ظنَّ أنَّ الكشف موقوف على الأدلَّة المجرَّدة فقد ضيق رحمة الله“.
”وكان ما كان ممَّا لستُ أذكره *** فظنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبرِ“)!
ولسنا مكذّبين لما يدعيه من نور إلهي قد يكون حدث له فعلاً، ولكنَّنا بصدد بحث عن براهين عقليَّة متعدّية يمكن الإحتكام إليها، كما لا نستبعد تأثير العوامل الإجتماعيَّة والنَّفسيَّة والسّنين الطوال من التَّجربة الدّينيَّة الَّتي يصعب جدًّا الخروج عنها خاصَّة في مثل حالة الغزالي.
وعن رأيه في إيمان التَّقليد فيشترط للمقلّد” أن لا يعلم أنَّه مقلّد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو شعب لا يرأب وشعث لا يلم بالتَّلفيق والتَّأليف، إلاَّ أن يذاب بالنَّار“!! ولسنا ندري مقصوده بالنَّار هذه أهي التَّصوُّف أم غيره؟!
وأمَّا دليل النُّبوَّة فيطرح وسيلة جديدة لإثباتها وهي الإطلاع على مقولات النَّبيّ واختبار مطابقتها للواقع مثل:
(من عمل بما علم أورثهُ الله علم ما لم يعلم)..(من أعان ظالمًا سلَّطهُ الله عليهِ)..(من أصبح وهُمُومُهُ همٌّ واحدٌ كفاه الله هُمُومَ الدُّنيا والآخرةِ)، فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف ، حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه، فمن هذا الطَّريق أطلب اليقين بالنُّبوَّة ،لا من قلب العصا ثعبانًا، وشقُّ القمر ”بل الإيمان بالنُّبوَّة: أن يقرَّ بإثبات طور وراء العقل، تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصَّة، والعقل معزول عنها“ [بالرَّغم من أنَّ الأحاديث الَّتي أختارها بالذَّات من الموضوعات !]
أمَّا ما يخصُّ إشتغال العقل عند الغزالي فهو محصور ضمن حدود الشَّرع دائمًا، أمَّا خارجة فممنوع. وإن كانت له عبارات ظاهرها يخالف ذلك، مثل قوله في (معارج القدس):
”الشَّرع لم يتبيَّن إلاَّ بالعقل“ إلاَّ أنَّه في نفس الصَّفحة يوضّح فهمه لعلاقة العقل بالشَّرع أنَّ: ”الشَّرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل“ أي: في خارج الشَّرع، لا عقل بل شرع، إنَّما عمل العقل هو تبيين تفاصيل علوم الشَّرع كالفقه والأصول والتَّفسير، أمَّا إثبات صحَّة الشَّرع أصلاً من خارجه، فليست مهمَّة العقل.
وقد قال في المنقذ أنَّ عمل العقل أن ”يشهد للنُّبوَّة بالتَّصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النُّبوَّة، وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى إلى الأطباء المشفقين. وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عمَّا بعد ذلك، إلاَّ تفهم ما يلقيه الطَّبيب إليه“.
وأخيرًا يختم أبو حامد مسيرته بكتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) حفاظًا على زجاجتهم على حدّ تعبيره قال فيه: (أنَّ كلّ من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق فعليه سبعة أمور: التَّقديس، ثمَّ التَّصديق، ثمَّ الاعتراف بالعجز، ثمَّ السُّكوت، ثمَّ الإمساك، ثمَّ الكفُّ، ثمَّ التَّسليم لأهل المعرفة) فالإيمان (غير موقوف على البحث وتحرير الأدلَّة) ولا تهمُّ وسيلته أكانت عقليَّة [وقد أنكر الغزالي إثبات الدّين بالعقل]، أو جدليَّة، أو خطابيَّة” وأكثر أدلَّة القرآن من هذا الجنس“ أو حتَّى مغالطية، المهمّ أن”لا يبقى للسُّؤال مجال“ وفي خضم هذا التناقض يبدو إن إيمان الغزالي بالدين لا يعدو مقولة اللاهوتيين المسيحيين:”نحن نؤمن، لأنه غير معقول“ ربَّما على اعتبارها مرادفة لقوله تعالى”يؤمنون بالغيب“!
حقيقةً لو كان الإيمان بالغيب بهذا المعنى، لما كان هناك أيُّ تفاضل بين أيّ نقلين بأيّ شكل سوى بالوراثة، ولما كان هناك معنى لنقاش فكرة غيبيَّة واردة في أيّ نقل آخر. وهذا الإقرار بخطورته ينسف ”الثَّابت الأوَّل“ إن جاز التَّعبير وهو صحَّة دين واحد دون غيره ممَّا يترتَّب عليه بطلان مفاهيم كثيرة جدًّا تغيّر من فهمنا للدّين الإسلاميّ نفسه فضلاً عن بقيَّة الأديان..
وبعد كلّ هذا، قد نجد من ينتزع عن ”حجة الإسلام“ صفة حجّيته على الإسلام، كون ”كلّ امرئ يؤخذ من كلامه ويردُّ عليه إلاَّ صاحب القبر" لكن تبقى اعترافاته الصَّريحة والواضحة إشارات مهمَّة قد لا نجد لها مثيلا بين المتكلّمين.
محمد علي عطبوش
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد