إعزاز.. مسرح قتال بين حلفاء واشنطن
فجّر الاستعصاء السياسي والعسكري الحاصل في مدينة إعزاز، بأبعاده السورية والإقليمية، الكثير من التناقضات والمفارقات التي تنطوي عليها الحرب السورية. ومن الطبيعي أن تقع الولايات المتحدة، باعتبارها من أبرز اللاعبين الرئيسيين، في قلب هذه التناقضات، وأن ينالها نصيب الأسد من تداعياتها.
وهناك جانب معلن وواضح للمأزق الأميركي في إعزاز، «عاصمة» ريف حلب الشمالي، وهو الجانب المتعلق بكيفية الموازنة بين تحالفها مع «قوات سوريا الديموقراطية»، التي تهيمن عليها «وحدات حماية الشعب» الكردية، وبين تحالفها مع تركيا في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، خاصةً أن الطرفين تجمعهما عداوة تاريخية قابلة للانفجار في أية لحظة.
وفي هذا السياق، كانت مواقف واشنطن منذ اقتراب «قوات سوريا الديموقراطية» من مدينة إعزاز، والرد التركي بالقصف المدفعي لمنعها من أخذ المدينة، مجرد تجسيد لسياسة الموازنة. فقد طلبت من الأكراد عدم التقدم نحو إعزاز، كما طلبت من أنقرة وقف القصف. الأمر الذي أغضب أنقرة ودفع رئيسها رجب طيب أردوغان لتصعيد لهجته ضد واشنطن، طالباً منها تحديد مع من تريد أن تتحالف مع تركيا أم مع «الإرهاب الكردي»؟.
ومما لا شك فيه أن خروج أنقرة عن طورها بهذا الشكل، واستمرار صدور تصريحات غاضبة من قبل مسؤوليها، يشكلان عامل ضغط على الولايات المتحدة، وهو ما يعني أنها فشلت في سياسة احتواء «حليفيها العدوين».
ولكن هناك جانب آخر للمأزق الأميركي في «استعصاء إعزاز» قد لا يكون واضحاً للعيان، وقد لا يكون بأهمية الجانب الأول، لكنه مهم للغاية، لأنه يكشف جوانب خفية من طبيعة علاقة الولايات المتحدة مع الفصائل المسلحة على الأرض، ويسلط الضوء على حقيقة باتت ملء العين في ريف حلب الشمالي، وهي أن السلاح الذي تقدمه واشنطن عبر غرفة عمليات أنطاكيا (ألموم) إلى عدد من الفصائل أصبح في الواقع يقاتل نفسه بنفسه. وهو ما يشكل فضيحة بالنسبة للولايات المتحدة، لأنه يقدم دليلاً إضافياً على أن جميع استراتيجياتها المتبعة في سوريا كان نصيبها الفشل.
فقد انتهى برنامج التدريب الذي كلّف الخزانة الأميركية نصف مليار دولار إلى فشل ذريع، بعد تلاشي «الفرقة 30» التي كان يفترض أن تكون أول مجموعة متدربة في إطاره تدخل للمشاركة في القتال على الأرض، غير أن «جبهة النصرة» سارعت إلى القضاء على «الفرقة» والاستيلاء على الأسلحة الممنوحة لها. بعد ذلك قررت الولايات المتحدة إيقاف برنامج التدريب والاتجاه إلى تسليح بعض الفصائل التي تثق بها، مع التركيز على أن الهدف من دعم هذه الفصائل هو القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش».
غير أن هذه الإستراتيجية الجديدة تسير قدماً على درب الفشل أيضاً، وقد كان للتطورات في ريف حلب الشمالي دور بارز في كشف ذلك. كيف لا؟ وحلفاء واشنطن المدججون بالأسلحة المقدمة من قبلها أصبحوا يقاتلون بعضهم بعضاً بالسلاح الذي وصل إلى أيديهم من المصدر نفسه. الأمر الذي يطرح تساؤلاً مهماً: هل تبحث واشنطن عن «حلفاء» فعلاً، أم أنها تريد «مرتزقة» للقتال في صفها من دون أن تضطر إلى إنزال قواتها على الأرض؟.
وتعد «قوات سوريا الديموقراطية»، بتكوينها المختلط العشائري التركماني الكردي، لكن مع هيمنة العنصر الأخير، من أبرز الفصائل التي تحظى برعاية أميركية، لدرجة أن بعض العمليات التي تقوم بها هذه القوات تجري بإشراف مباشر من قبل خبراء عسكريين أميركيين. وكانت واشنطن قد أعلنت في وقت سابق أنها أرسلت العشرات من هؤلاء الخبراء إلى مناطق سيطرة الأكراد في سوريا، كما ظهر بعض هؤلاء الخبراء أثناء عملية السيطرة على سد تشرين، قبل حوالي شهرين. لذلك كان من الطبيعي أن تستجيب قيادة «قوات سوريا الديموقراطية» للإيعاز الأميركي بعد التقدم أكثر غرب نهر الفرات، مراعاة للخط الأحمر التركي.
لكن على الجهة المقابلة، في أقصى غرب نهر الفرات، أي في محيط إعزاز تحديداً، استغلّت «قوات سوريا الديموقراطية» تقدم الجيش السوري نحو نبل والزهراء، كي تنقض اتفاقها مع «غرفة عمليات فتح حلب»، وتبادر للسيطرة على عدد من القرى، أبرزها تل رفعت ومنغ ومطارها، وباتت تقف على مشارف مدينة إعزاز الإستراتيجية، الأمر الذي أثار ذعر تركيا وفجر الأزمة الحالية.
لكن ضد من تقاتل «قوات سوريا الديموقراطية» في ريف حلب الشمالي؟
ببساطة هي تقاتل ضد حلفاء آخرين للولايات المتحدة. وعندما نقول حلفاء فهذا يعني أنهم منضوون ضمن «غرفة عمليات ألموم»، التي تقودها واشنطن وتتخذ من أنطاكيا مقراً لها، وبالتالي يخضعون لميثاقها ويلتزمون بالعمل تحت إمرتها وبموجب توجيهاتها. كما يعني أنهم يتلقون رواتب وأسلحة وكل أنواع الدعم منها. وأبرز هذه الفصائل هي «فرقة السلطان مراد» و «الفرقة 13» و «لواء صلاح الدين»، ونحن هنا نذكر فقط أسماء الفصائل التي دخلت في اشتباكات مباشرة مع «قوات سوريا الديموقراطية». وقد نتج عن بعض الاشتباكات سقوط عشرات القتلى والجرحى، كما وقع آخرون في الأسر. وقد استخدمت «الفرقة 13»، يوم الجمعة، صاروخ «تاو» أميركي الصنع لتدمير عربة تابعة إلى «سوريا الديموقراطية». كما هدد «لواء صلاح الدين»، وهو ذو غالبية كردية، بالقتال حتى آخر قطرة دم ضد ما اسماه «التحالف الشيطاني». وهذا ما دعا أحمد عثمان قائد «السلطان مراد»، في تصريح لموقع أميركي، للقول «هذا أمر غريب، ولا أستطيع فهمه».
وتتلقى «فرقة السلطان مراد» أسلحة من الولايات المتحدة، تضم صواريخ مضادة للدبابات. ويعد هذا الدعم جزءاً من برنامج تشرف عليه المخابرات الأميركية، ووافق عليه الكونغرس، ويتم تنسيقه من الأراضي التركية، وتشارك فيه دول حليفة للولايات المتحدة، مثل السعودية، بحسب ما أفاد موقع «بازفيد» الأميركي.
ومن شأن ذلك، لو سلطت الأضواء عليه، أن يشكل إحراجاً كبيراً للسلطات الأميركية، التي دأبت خلال الفترة الماضية على انتقاد الغارات الروسية واتهامها باستهداف من أسمتهم «المعارضة المعتدلة»، لأن الفصائل المحسوبة على الاعتدال الأميركي تخوض قتالاً ضد بعضها بعضاً، ويتسبب ذلك في إراقة دماء مقاتلين يتلقون رواتبهم من الجهة نفسها، ويستلمون أسلحتهم من المستودع نفسه، فلماذا تلام روسيا أو غيرها؟. أليس من واجب واشنطن قبل أن تنتقد أي طرف آخر أن تمنع حلفاءها، المؤتمرين بأوامرها من قتال بعضهم بعضاً، بما يعنيه ذلك من أن الأسلحة الأميركية تشارك بشكل مباشر في استهداف «اعتدالها».
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد