أسرار مدينة دمشق
تبدو دمشقُ كمدينة خالدة، ولطالما تفاخرَ السوريّون أن مدينتهم هي أقدمُ عاصمة مأهولة في العالم .. فهل هذا أمرٌ جيدٌ؟ أم سيّئٌ؟! أعني أن يكون المرء محكوماً بحكايات الماضي التي قد تؤخّره عن استحقاقات المستقبل!
فخلال أربعة آلاف عام، مرّ على دمشقَ نفسُ الذي مرّ على غيرها من المدن التي اندثرت، من غزو وجفاف وزلازل وأوبئة، فلماذا لم تندثرْ كغيرها من المدن الميتة؟!
السوقُ هو سرّ دمشقَ؛ حيث كلُّ المدن تُفرز أسواقَها بعد تأسيسها، إلا دمشق، فهي سوقٌ أفرز مدينَته؛ سوقٌ استقطبت القوافل منذ أن كانت إحدى محطّات طريق الحرير، فكانت طريقها إلى البحر، وإلى فارس وآسيا الصغرى ومصر والجزيرة العربية. فأُنشئت الخاناتُ والحمّاماتُ والملاهي والمعابدُ متعدّدة العبادات لخدمة قوافل التجّار العابرين، الذين كان يطيب لبعضهم لطافة هواء دمشق وبساتين غوطتها التي تجري من تحتها فروعُ نهر بردى السبعة، وتتمايلُ على طرقاتها نساؤها الحورُ العين، فيقيم التاجر في المدينة مدّة، يبيع ويشتري، ثم يتعلّق بها، فيتزوّج، ويستقرّ فيها .. كذلك اكتسب التاجر الدمشقيّ من كل الأمم التي كان يتاجرُ معها براعتَه ودهاءَه، إلى درجة أننا لم نسمع - يوماً - أن تاجراً دمشقياً أعلن إفلاسه .. فهو قد يخسرُ، ولكنه لا يُفلسُ، وخسارته تنحصر في نقصان أرباحه عن العام المنصرم، ذلك أن التاجر الدمشقي يقسم مالَه على أربعة أقسام: قسم للعمل التجاري، والثاني لشراء العقارات، والثالث لشراء الأراضي، والرابع للاحتياط عملاً بالقول "فرّقْ مالك، واجمعْ أولادك". كما أن تجّار التصدير والاستيراد يتبعون الحروبَ في العالم، ويستفيدون من حاجة أسواقها إلى البضائع المفقودة، وإذا كانت الحرب على أرضهم، فإنهم يعمدون إلى الاحتكار والتحكّم بالأسواق الداخلية ..
طبيعة علاقات السوق أعطت للدمشقيّ طبعاً معتدلاً غير متطرّف؛ إذ لا صديق دائم، ولا عدوّ، فالدنيا "بيع وشري"، كما تقول حكمة الدمشقيين، حتى الحجّ كان يُستثمَر تجارياً؛ إذ يقال للحاجّ العائد: "حجّ مبرور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور"، وهو يشمل المعنى الديني والتجاري معاً؛ حيث كان الحجّاج يبيعون ويشترون في كل المدن التي تمرّ قافلتُهم عليها .. وكان محمل الحجّ الدمشقي فرصة للتبادل التجاري مع قوافل كل الحجّاج العابرين لدمشق نحو مكّة، والحاجّ الذي قد تتأخّر قافلته عن محمل الحجّ الدمشقي، لمرض، أو هجوم لصوص، كان يُضطرّ للإقامة في دمشق، إلى أن يحين موعد الحجّ في العام التالي، وهكذا ينضاف إلى سكان دمشق تاجرٌ أجنبيّ، قد تطيب له المدينة ومعشر أهلها، فيتزوّج، ويتناسل، وفي الجيل الثالث، يغدو أولاده شبه دمشقيين؛ لأن الشوامَ الأقدم منه سيقولون عند حضور المستشومين: قد حضر البخاري، أو الداغستاني، أو البغدادي، أو الحجازي .. إذ لا يتقبّل الدمشقيون الأغرابَ قبل مرور قرنين على سلالتهم داخل سور المدينة .. وسنأتي في السياق على تحليل عصبية الدمشقيين الفريدة من نوعها في العالم ..
وكما أمّت دمشقَ قوافلُ التجّار، فقد غزتها جيوشُ الأمم المتنوّعة، فكان ملوكها وأمراؤها وكهّانها وتجّارها الجدد يقيمون داخل سور دمشق، بينما تُقطَع الضياع والقرى المحيطة لقادة الجند، وجنودهم، وكان من الطبيعي أن الكاهن المتبطّل سيسعى إلى مال التاجر الحربوق، والتاجر - بدوره - يرغب باستقطاب جمهور الكاهن كزبائن محتملين، ولهذا كان أغلب تمويل عمليات بناء المعابد تأتي من مال التجّار، وغالبية أسواق دمشق تستند في نهاياتها إلى المعابد، وأقدمها كان المعبد الآرامي في نهاية السوق الذي يُدعى - اليوم - سوق الحميدية، "معبد حدد، سيّد دمشق، القابض على الصاعقة والسنبلة، ربّ الأرباب، مُنزل الغيث، ومُنبت الزرع، وواهب خيرات الأرض"، كان أفخم المعابد الآرامية، وأجملها، وأقدسها، وكان الناس يحجّون إليه من أقاصي البلاد الشامية، يطوفون حوله، ويتبرّكون به، وعندما جاء الرومان، أقاموا فوقه معبد الإله جوبيتير، وقيل إنه تحوّل إلى كنيس يهودي قبل أن تصل المسيحية إلى دمشقَ، وتقيم فوقه كنيسة يوحنّا المعمدان، ثم تحوّل إلى الجامع الأموي بعد مجيء مسلمي شبه الجزيرة العربية؛ ودائماً كان هناك علاقة وطيدة بين الدين والسوق، والسوق والسلطة السياسية، سواء كانت محتلة، أو أصلية .. وقد أُقيمت داخل سور دمشق في المدينة القديمة التي لا تتجاوز مساحتها مئة هكتار حوالى 45 سوقاً قبل أن يتوسّع الدمشقيون خارج أسوارهم بداية القرن العشرين؛ حيث نجد في نهاية كل سوق جامعاً، أو كنيساً، أو كنيسة .. لهذا كانت دمشق مدينة مختلطة شبه علمانية عبر التاريخ؛ حيث تقيم آلهة كل الأمم إلى جوار بعضها، وتتنافس على المستهلكين الذين يتنقّلون بين أسواقها وأماكن عبادتها، مشكّلين حركة السوق، ونبض المدينة، فاختلطت عصورها وأسواقها؛ لتنتج طوائف متعايشة، تجمعها مصالح السوق، والنفاق الاجتماعي (بمعناه المدني)، وسطوة الدولة التي كان يحرّكها التجّار بخيوط حريرية منذ أيام الإسكندر المقدوني إلى اليوم ..
يعود تاريخ تأسيس غرفة تجارة دمشق - كواحدة من أقدم غرف التجارة في العالم العربي - إلى العام 1840 م، ولكنها كانت موجودة افتراضياً منذ نشوء أول سوق في واحتها، وكانت تَعرف - دائماً - كيف تُطوِّع سادتها، وتُدخلهم في قنوات أرباحها .. وفي كتابي "رواية اسمها سورية" تحدثتُ عن بدر الدين الشلاح (1905 ـ 1998) التاجر الشامي الذي بدأ بائعاً للبطّيخ، ثم انتهى إلى جبل من المال، سلطتُه تُوازي سلطةَ العسكر، وصداقاتُه تتعدّى الملوكَ والرؤساءَ العربَ وصولاً إلى رتبة عليا في المحفل الماسوني، كما ورد في مذكّراته، ثم ورث ابنُه راتب رئاسةَ الغرفة، وسياستَها المعتدلة، وعلاقتَها الطيبةَ مع الجامع والسلطة، كما هو الحال لدى سائر التجّار الدمشقيين الذين يدفعون بأولادهم إلى أرصفة الأسواق منذ بداية تعلّمهم الحسابَ، فيبيعون البضائعَ الرخيصةَ على الأرصفة، لكي يُتقنوا فنَّ المساومة، وقراءةَ شخصية الزبون بغيةَ اصطياده؛ لأن "التجارة شطارة"، كما يقول المَثَلُ الشامي، والشطارةُ تقترن - غالباً - بمرونة أخلاقية، تشبه مرونةَ السياسيين .. وبعد سنين عديدة، يحصل الأبناءُ على الإجازة في البيع والشراء، ويتسلّمون تجارة الآباء؛ حيث يمكن لدكّان مساحته متران بثلاثة، أن يهيمن على تجارة صنف من أصناف البضائع في السوق كلّه ..
والتاجر الشاميّ اقتصاديّ في طبعه، غير مسرف في مصروفه، ولا يصل حدّ البخل، يشي بذلك المطبخ الدمشقي المؤلّف - غالباً - من أكلات بسيطة غير مُكلفة، وقد تجد أكلات مخترعة من بقايا أطعمة الأيام السابقة، بعكس التاجر الحلبيّ الكريم بمطبخه الغنيّ، إلى درجة الترف، ذلك أن هدف التاجر الشاميّ هو التوسّع والديمومة في تجارته، دونما استعراض، أو مغامرة، ولهذا تراهم مستمرّين في تجارة النوع نفسه، لعدّة أجيال، إلى أن يغلب عليهم اسمُ تجارتهم، فهناك عائلة الصوّاف والقطّان والحبوباتي والتوتنجي والشراباتي والكزبري والسوّاس وعربي كاتبي والقبّاني والخيّاط والجمّال والحكيم والصبّاغ والبارودي والبندقجي والحبّال .. وفي المَثَل الشاميّ، "اشتري وبيع، ولا تخلّي اسمك يضيع".. وكل ما تقدّم يؤكّد رأينا في أن دمشق سوقٌ، بُني لأجله مدينةٌ ناعمةٌ ومخاتلةٌ، بسبب كلّ هؤلاء الغزاة الطامعين بامتلاك الفردوس الأرضي، وليس غريباً أن نهر بردى كان يُدعى - زمن اليونانيين - "بارادايس"؛ أي الفردوس، وأن سوقَ الحميدية المتّكئ على الجامع الأموي هو أقدمُ مول في التاريخ.
لا يوجد دمشقيون في دمشق: فإذا صحّ قولُ علماء الآثار، فقد كانت دمشق - بعد العصر الجليدي - بحيرة قبل أن تجفّ، وتغدو واحة خصبة، وقد بدأت هجرات الإنسان الأول إلى ضفاف بحيرة دمشق من يبرود، فسكنوا الكهوف على ضفافها، كما في معلولا وصيدنايا وبرزة؛ ثم حرستا، فجوبر .. ثم جفّت البحيرة بعد آلاف السنين، وانوجدت واحة دمشق التي تشبه جنّة آدم وحواء، فاستقطبت شهوةَ الأمم من كل حدب وصوب: غزاة وتجّاراً، علماء وأطباء ولصوصاً، حواة وأنبياء وآلهة، وفدوا إليها مع السومريين والعموريين والكنعانيين والآشوريين، ومع الفراعنة والبابليين، ثم السلوقيين والبطالمة والأنباط، فالرومان، أمويون، فعباسيون، طولونيون، فإخشيديون، حمدانيون، ففاطميون، سلاجقة، وأيوبيون، مغول، ومماليك، فعثمانيون، فأرناؤوط .. جاؤوها من كل فجّ عميق، وكلهم باتوا دمشقيين، ليسوا من دمشق، حكموها، وأقاموا أسواقها ومعابدها، وبنوا المدينة من حولها، على منوال رقعة الشطرنج، ثم رفعوا سوراً، يحمي فسيفساءَ القوميات والأديانَ والطوائفَ والعشائرَ المختلفةَ، ويوحّدها أيام الخوف: منذ الملك رزين وابنه حزيون، وحفيده طاب ريمون، وابنه حدد الأول، فالثاني، فالملك حزائيل المقاتل الجبار «الذي كان يركع له الفرسانُ، ويمسحون الغبارَ عن حذائه»، ثم جاء ملوكُ آشور مع تغلات فلاصر الذي قتلَ رصينَ الآرامي، وأنهى حكمَ الآراميين، ولكنه استمرّ في استخدام خططهم الهندسية، وسياستهم الاقتصادية، فتغيّر الحكمُ، وبقيت الثقافةُ الآراميةُ التي وَسَمَتْ هويةَ دمشق الأولى، وكانت لغتَها شفاهً وكتابة، الآرامية التي اشتُقت منها اللغتان العربية والعبرية، وقد بدأ تعريبُ المدينة مع مجيء الملك الغسّاني النبطي الحارث الثالث، ثم دخلت دمشقُ تحت حكم اليونانيين، فالسلوقيين الذين جلبوا معهم المدارس والألعاب الأولمبية والراقصات والموسيقى، وبنوا الحمّامات والمسارح، وأنشؤوا شبكات المياه، ورصفوا الطرقَ، وشقّوا الشارعَ المستقيمَ الممتدَّ من باب الجابية، إلى باب شرقي، والذي يُسمّى - اليوم - سوق مدحت باشا، وصارت دمشقُ تتكلّم اليونانية، إلى جانب الآرامية، وتناقش مذاهبَها الفلسفية، في مدارسها وأكاديميّتها، لثلاثة قرون خلت .. وبعدهم جاء بيزنطين الروماني، فبنى معبدَ جوبتير فوق معبد حدد الآرامي، ثم قامت كنيسة يوحنّا المعمدان فوقه بعد دخول روما في النصرانية، وتحوّلت إلى المسجد الأموي الكبير زمن معاوية بن أبي سفيان بعد منازعات طويلة مع مسيحييها، وقد أبقى الأمويونَ على ضريح يوحنّا وسط المصلّى، وصار اسمه النبي يحيى؛ حيث يتبرّك به المسلمون .. وقد تنازع الأمويون - بدورهم - مع آل بيت رسول الله على الخلافة، وقطعوا رأسَ الحسين، ووضعوه في ركن خاصّ بالمسجد الأموي احتراماً له، ولجدّه الرسول الأكرم، فأسّسوا بذلك للخلاف الإسلامي الذي نعاني منه حتى اليوم، وهو خلاف كان موجوداً بالأصل قبل الإسلام، بين عائلة عبد المطلب الدينية التي تُشرف على الكعبة والحجيج وعائلة الأمويين التجارية التي كانت تعملُ كوسيط تجاريّ بين اليمن والشام، ذلك أن الخلاف بين السوق والمعبد يُربك النظام السياسي، ويُحدث فوضى كبيرة في المجتمعات، ومن الأسلم أن يكون هناك اتّفاق بين المعبد والسوق؛ لكي يستمرّ التوازنُ، كما في حالة دمشق؛ حيث نجد أغلبَ عائلاتها التجارية على مذهب السّنّة رغم أن شجرة أنسابها تنتهي إلى آل البيت .. إنه توازن السوق الدمشقيّ مع المعبد الذي يُنتج سياسة متبصّرة وحكيمة، كشعرة معاوية الشهيرة؛ حيث يقول: لو كان بيني وبين الناس شعرة، ما قطعتُها، إذا شدُّوا، أرخيْتُ، وإذا أرخَوا شدّيتُ ..
لا يوجد دمشقيون في دمشق: فقد سكن اليونانيون في حيّ خاصّ بهم داخل السور، إلى جوار الآراميين والآشوريين، ثم جاء العرب الأنباط، فأقاموا حيّهم الخاصَّ إلى جوارهم، ثم جاء اليهود والأرمن والرومان، فأقاموا أحياءَهم كذلك، ثم أقام المسلمون العرب والتركمان والشركس أحياءَهم قبل أن ينقسموا إلى حيّ للشيعة، وآخر للسّنّة، إلى جوار حيَّي اليهود والمسيحيين، في شكل متصالب، مركزه الكنيسة المريمية والمأذنة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك جامعاً، وعُدَّت حداً فاصلاً بين حيَّي المسيحيين والمسلمين، كما ورد في وثيقة الصلح الموقّعة بين خالد بن الوليد والقمّص الذي فاوضه على حياة المسيحيين واليهود قبل أن يفتح باب دمشق الشرقي لجيش المسلمين، على خلفية تعاطف المسيحيين العرب مع العرب المسلمين، للتخلّص من الاحتلال البيزنطي المسيحي.
فمنذ البداية، حكم دمشقَ، وشكّلها أقوام، جاؤوا من خارجها، فأقاموا داخل السور مع عائلاتهم وحاشيتهم وجواريهم وعبيدهم، وأقطعوا قادَتهم العسكريين وعشائرهم المقاتلة القرى المحيطة بدمشق: فجاء الآراميون مع رزين بن إيل الذي أعلن نفسه ملكاً على آرام دمشق. وقد بنى الآراميون سنة 1200 ق م معبداً للإله حدد "ربّ الخصب والرعد والمطر" الذي يقوم الجامع الأموي على أساساته، وأقاموا سوقهم حوله - ومايزال قائماً إلى اليوم؛ حيث سمّاه العثمانيون "سوق الحميدية" نسبة إلى سلطانهم عبد الحميد - ثم جاء اليهود مع جيش الملك داود، واستقرّت تجارتهم ولغتهم العبرية في أسواقها التي استندت إلى الكنيس الذي أقاموه في حيّ اليهود الماثل إلى اليوم، ثم جاء الآشوريون مع الملك "تغلات فلاصر الثالث" الذي أنهى حكم الآراميين الأوائل، وأخرج من المدينة كلّ مَن لا يستطيع دفع الجزية، وبالطبع، فقد بقي التجّار فيها، وباتت دمشق تتكلّم الأكادية، وتكتب بالمسمارية، إلى جانب الآرامية، ثم جاء اليونانيون مع الإسكندر، فأقاموا سورَها، وبنوا أحياءَهم في الجانب الشرقي من المدينة القديمة، وكانت تتوسّطها ساحة السّوق العامّة (الأغورا)، وصارت دمشق وأسواقها تتعامل باللغة اليونانية، إلى جانب الآرامية لثلاثة قرون من هيمنة الثقافة الهلنستية والعملة اليونانية، ثم جاءها الأنباطُ العرب مع الحارث الثالث الذي عرّب المدينة، وألحقها بالبتراء عاصمة النبط، ثم جاءها الرومانُ مع القائد بومبيوس عام 64 ق م، فبنوا معبدَ جوبيتر، وأُحدثت حوله أسواق ذات أروقة، تصلُ بين أبواب المعبد الداخلي وبين أسواره الخارجية، ويُشاهَد اليوم جانبٌ منها عند البابين الشمالي والغربي للجامع الأموي، وقد استمرّوا في حكمها سبعة قرون قبل أن يدخلها المسلمون مع أبي عبيدة وخالد، فمعاوية، ثم موسى بن يحيى البرمكي زمن العباسيين، فالسندي بن شهيد، فعيسى بن محمد النيسابوري، ثم جاء عصر المماليك، فحكمها أماجور ولؤلؤ وطغج والإخشيد وألب طغين ويلكتين التركي، فبكجور ومنجوكين، ثم جاؤوا مع تزمالت، فيوسف بن يروخ، ثم مع أنوشطكين، فسبكتكين، فأتسز، فسوتكين، فسلالة الزنكيين، فالأيوبيين، وبعده جاء هولاكو، فبيبرس، وأيبك وأقوش والظري وآيدمير وسنقر وطرنطاي، والكثير من الشركس الممماليك، ونذكر منهم: كشك وأقوش ويلبغا وأرغون وأرقطاي وقتلجا ومنجك وتيمور وآقباي وجقمق وكنباي وقانصوه وجنبلاط وسودون وجانبردي الغزالي الذي خان سيده قانصوه الغوري، وانحاز إلى أعدائه العثمانين في معركة مرج دابق عام 1516 م، وأغفلنا مثل هذا العدد من الحكّام الذين بذروا سلالاتهم - أيضاً - داخل السور قبل أن يأتي القادة العثمانيون، ويخلفوا سلالات جديدة من الدمشقيين؛ منهم: سنان وكشك وسلحدار وأرسلان وأوغلو وأرناؤوط وعثمان زاده أيدن وطوبال وأحمد باشا الجزار، الذي حكم دمشق 4 مرات، ثم إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا الأرناؤطي، ومحمد باي وميرزا سعيد باشا، وعشرات الباشوات العثمانيين الذين أخذت أحياء دمشق وأسواقها أسماءَهم، ثم بعد أربعة قرون من الحكم العثماني الكئيب، تخلّصت دمشق من اللغة التركية الرسمية، واستعادت العائلات العربية حظوتها بعد سقوط الخلافة .. وقد شكّلت كلّ هذي السلالات المختلطة داخل السور عصبيةً فريدة من نوعها تجاه الأقوام خارج السور؛ حيث ينظرون بعنصرية وفوقية إلى فلاحي الأرياف المحيطة التي سكنها العسكرُ وباقي بيادق الأمم التي غزت دمشق، وحكمتها، وقد كانت كلمة (فلاح) شتيمة في القاموس الدمشقيّ حتى عهد قريب، وقد أُهمل الريف خدمياً، فبقى عالماً ساكناً، لا يتطوّر، يفتقر إلى المدارس والمشافي والأسواق والطرق والأسوار، فقط كان التجّار بعد الاستقلال يموّلون بعض زراعات الفلاحين التي يتاجرون بمحاصيلها، واستمرّ حال الريف كذلك حتى مجيء الثورة الفلاحية التي قادها البعثيون سنة 1963، فأقاموا المدارس والجامعات والجوامع والمستوصفات والمشافي والمراكز الثقافية، وغيّروا في الثقافة الشعبية حتى غدت كلمة (برجوازي) شتيمةً، يستخدمها البعثيون لتحقير التجّار، الأمر الذي يُظهر العداء الطبقي بين فلاحي الريف وتجّار المدينة .. وعلى الرغم من أن كبرى العائلات الدمشقية قد خرجت إلى الأحياء الراقية التي نشأت خارج السور منذ أيام الوالي مدحت باشا أواخر القرن التاسع عشر، فإن عصبية (السور المقدّس) ماتزال مقيمة في نفوسهم تجاه الوافدين إلى العاصمة منذ بداية الاستقلال سنة 1946 إلى اليوم؛ إذ يطلقون عليهم صفةَ "غربتلية"؛ أي الغرباء .. مع التنويه أن الأخيرين باتوا يساوون ضعف عدد الشوام، وتنتمي إليهم غالبية النخب الثقافية والسياسية، بينما ظلّت النخب التجارية حصراً على العائلات الدمشقية، واكتفى أمراءُ السلطة بمشاركتهم كواجهة تجارية لغسيل أموالهم وسمعتهم التجارية .. واليوم، بعد مرور ثلاثة عشر قرن ونيف على قيام الدولة الأموية، ماتزال دمشق تحمل هويتها الأموية، وبعد طول عداء مع ثورة البعث الفلاحية، تصالح البعث معها، فربط العروبة بالإسلام، وآمن بقدرة غرفة تجارتها على تشكيل حياة المدينة بانتهاج (اقتصاد السوق الاجتماعي) منذ بداية القرن الواحد والعشرين ..
وعلى ذكر دولة الأمويين، أظن أن أهمّ ما قدّمته دمشق للإسلام هو أنها - بعد عشرة قرون من تشبّعها بالثقافة اليونانية والبيزنطية - شكّلت الفلترَ المدني الذي مرّ عبره الإسلام القادم إليها من بوادي شبه الجزيرة العربية، فأعادت إنتاجه؛ لتخترق - بما أدعوه "الإسلام الشامي" - مدنَ العالم القديم؛ إذ إن الشوامَ الداخلين في الإسلام كانوا يحملون إرثاً ثقافياً مدنياً، بعكس المسلمين الأوائل الذين وفدوا من بوادي الجزيرة، ولم يكونوا يُتقنون القراءة والكتابة (سوى معاوية ابن أبي سفيان وبعض الصحابة الذين جاؤوا مع الجيش)، والأمر نفسه بالنسبة للمسيحية التي قدمت من فلسطين مع بولس الرسول، ومرت عبر فلتر دمشق؛ حيث أعاد حنانيا الدمشقي صياغتها، وعمل السوريون على نشرها في أنحاء العالم القديم، من السودان جنوباً، وحتى روما شمالاً .. لهذا يمكننا القول إن سوق دمشق ومعابدها أعادت إنتاج الديانات الإبراهيمية، وقلّمتْ أظافر جميع مَن مرّوا عليها من أصدقاء وأعداء حتى غدوا بشراً سويّاً ..
فدمشق حكاية، ودمشق رواية، سيف ووردة، وسوق يروّض الطوائف، ويجمع الأعداء، كما لو أنهم أصدقاء.. ودمشق ماءٌ في المآقي، وسرٌّ كامنٌ تحت أساسات الجامع الأموي، لا يدركه غير الأخيار والأبدال!
آرامية يونانية رومانية عربية، إسلامية مسيحية يهودية وثنية، جعلها الربّ داراً لرجل وزوجه وإبليسها بعد ترحيلهم من جنّته وخلوده ونقائه .. للذهب والفضّة تخشع، وبهما تُروِّض غُزاتها، وتُقلِّم أظافرهم، كما لو أنهم بشر؛ أهلها يحملون سرّها، ولا يُدركونه؛ لأن العصبية تشوّش الرؤيةَ، والمالَ يعدمُها، وسيأتي في يوم ما دمشقيّ، ليس من دمشق؛ فيكشف سرّها، ويتجاهلونه، كما تجاهلوا دعوة محيي الدين ابن عربي؛ ليبقى السرّ موجوداً، وغير ظاهر، كأساسات الجامع الأمويّ التي بناها أتباع الإله حدد الوثنيون .. فقد كان الشوام يوماً وَثنيين متعصّبين لآلهتهم الآرامية، ثم صاروا يهوداً متعصّبين ليَهْوَه، ثم غدوا مسيحيين متعصّبين للسيّد المسيح، ثم مسلمين متعصّبين لفرع أميّة، لكنهم من غير أن يُدركوا كانت نعومة السوق وتوازناتها هي ما يشكّلهم، السوق الذي كانت تمرّ عبره قوافل كل الأمم وبضائعها وثقافاتها، فتعطي دمشق، وتأخذ منها، كما يأخذ بردى من ثلوجها وأمطارها وأوكسجين هوائها، ويعطيها روائح نباتاته وزهوره وأشجاره عند منبعه، ورائحة مجاريرها في منتهاه، بردى ككائن حيّ، يُولدُ عذباً، في الجبال، ويشبّ هادراً في الوديان؛ ليشيخ مالحاً في بحيرة العتيبة، وينتهي جثّة عاتبة على الذين شربوا من مائه، ثم بصقوا فيه .. فسلامٌ من صبا بردى أرقّ، ودمع لا يُكفكف، يا دمشقُ ..
نبيل صالح
التعليقات
دمشق
المنامة؟!!!!!!!
إضافة تعليق جديد