إبراهيم المصري: أكتب كحطّاب ليل
«في الهزيع الأخير من الليل يستيقظ الشِّعر؛ ثم ينتشر بكثافته المنعشة في الحارات والشوارع والمدن، قبل أن يعود صباحاً إلى النوم، آخذاً معه باعة الجرائد والشعراء».. تشبه المقطوعة السابقة شخصية شاعرها إبراهيم المصري (1957) الذي كتب في الرواية والشعر والقصة وأدب اليوميات ما يشبه وثائقيات يومية عن مصر، فهو في كتابه «الشعر كائن بلا عمل» (دار بدايات - 2010) يُعيد تعريف الشِّعر منتصراً لماهية الكتابة نفسها. يقول المصري عنها: «لا يترك أحدكم كتاب شعر مغلقاً، الشِّعر يحيا في الهواء الطلق».
لا يحبّ مؤلف كتاب «الزَّهْرَوَرْدِيَّة» (2007، طبعة خاصة) الادعاءات الثقافية ولهذا يقول: «أكثر ما يثير السخرية مهرجان.. يجتمع فيه الشعراء ليتناوبوا على طعن جسد الشعر.. هذا الذي ينتظر متألماً.. أن ينتهي الشعراء من قسوتهم حتى يذهبَ معهم إلى الحانة». الشاعر المولود في قرية «بشتامي» بمحافظة (المنوفية)، جاور شط النيل سنيناً طويلة، متعلّماً منه سرد الغيطان البعيدة وبراءة الفلاح الأولى: «طوال حياتي لم أطمئن إلى مدينة لا تشرف على ماء، سواء أكان نهراً أو بحراً». أماكن الصبا امتدّت بالفتى الذي لوّحته شمس «أم الدنيا» حتى بلوغه الثانية والعشرين من عمره؛ ليتنقل بعدها إلى «مديرية التحرير» في محافظة «البحيرة» صبياً، أحد مشاريع جمال عبد الناصر الزراعية التي وئدت بعد ذلك، مروراً بقرية «محلة مرحوم» القريبة من «طنطا» عاصمة محافظة الغربية مراهقاً، وصولاً إلى الإسكندرية شاباً؛ المدينة الأكثر تأثيراً في ذاكرة من كتب ديوان «مقتطفات البيرة»(2008، دار شمس): «حتى اليوم أعيش مع قريتي الأولى، فسنوات اغترابي الطويلة لم تحجب مصر عني، ليس حنيناً وإنما اهتماماً ببلد هو وطني أولاً وهو بلد مصائر وتحوّلات رهيبة أثّرت على العالم العربي كله».
المسار التعليمي لصاحب رواية «مُهَـرِّبُو الأحْـلام» (2012، دار الأدهم) كان معقّداً بشكل ما، كما يصفه لنا: «درست الثانوية التجارية وبعدها الثانوية العامة، والتحقت بكلية الآداب، في جامعة بيروت العربية، لأدرس بعدها الفلسفة وعلم الاجتماع؛ لكنني لم أُكمل التعليم الجامعي بقرار اتخذته وأنا لازلت في السنة الثالثة، وذلك لعدم قناعتي بما كنتُ أدرسه، خاصة أن بعض قراءاتي في تلك الفترة المبكرة كانت متجاوزة بالفعل لما أدرس، وقد ضرّني عدم إكمال التعليم الجامعي وظيفياً إلى حدّ ما في حياتي، لكنني أنقذت رأسي، أو هكذا أعتقد».
مسارات متعدّدة
عمله اليوم كرئيس لتحرير الأخبار والبرامج السياسية ومُعدّاً وكاتباً ومنتجاً للأفلام الوثائقية في تلفزيون أبو ظبي، جعله مزاولاً لمهن عديدة يقول إن الكتابة ترفدها بقريحة كثيفة وظمأ لا يرتوي ودون توقف: «إن كان من أمر أثَّر على تصوري للعالم والكتابة والشعر، فهو العمل الإخباري والتلفزيوني، من ناحية مصائب البشر وعذاباتهم وحروبهم وقد غطيت بعضها، ومن ناحية ثانية تقنية الكتابة للمشهد المباشر، أو الكتابة التي يجب من وجهة نظري أن تتخطّى المجاز إلى شعرية الواقع، مع ابتذال المصطلح الأخير للأسف في الشعر العربي الراهن، فالواقع أشد كثافة وحضوراً وقسوة وحفراً في النفس، ما يؤدي إلى نص كأنه الحياة في زوالها من لحظة إلى أخرى، ولهذا لا أومن بخلود الشِّعر، ولا حتى بعظمته، فقط، أراه في سياق اللحظة المُعيشة بكل ما فيها».
لكن ما الذي يدفع شاعر «الديوان العراقي» (2008) لكل هذه الغزارة في الإنتاج الأدبي؟ يجيب: «أعتقد أن ما يدفعني للكتابة هو القراءة، فقد كنت أقرأ منذ سن مبكرة للغاية، وفي نهاية السبعينيات بداية الثمانينات بدأت الكتابة بنصوص فجة، ثم كتبت الشعر العمودي وقصائد التفعيلة، لأتحوّل بعدها إلى كتابة قصيدة النثر في منتصف الثمانينيات تقريباً، وأعتقد أن الكتاب الفاصل في تجربتي كان كتاب «الليل أسود» ثم كتاب «لا يَنسى أكثر ولا يَنسى أقل» وقد أنجزتهما بين عامي 1990 و1991 على التوالي وهما مخطوطان حتى اللحظة».
ينفي (المصري) عنه صفة الروائي؛ برغم أنه حقق أكثر من رواية في هذا السياق كان أبرزها: «لعبةُ المراكب الورقية» (1998 دائرة الثقافة والإعلام - الشارقة): «قبل أي شيء، أنا لستُ روائياً، وإنما كتبت أربع روايات، ثلاثاً منها منشورة والرابعة مخطوطة، من باب التنقل بين مجالات كتابية، وهكذا أطمئن أكثر إلى تعريفي كشاعر وصحافي، والأول هو ما أدّعيه، والثاني هو مهنتي؛ فالساحة في الحقيقة لم تخلُ حينما كان جمال الغيطاني وأدوار الخراط وعلاء الديب أحياء أو بعد رحيلهم، بيد أن المشكلة تكمن في الاستنطاق الإعلامي للمشهد الروائي أو الثقافي في مصر، لأنه قلّما يرد مثلاً اسم أحمد صبري أبو الفتوح كاتب رواية «ملحمة السراسوة» بأجزائها الخمسة، وهو من جيل المخضرمين في الرواية المصرية، وكأن الغيطاني أو الخراط، قد استحوذا على المجال كله إبداعاً وإعلاماً. هذا ظلم تام لأسماء روائية مصرية لها إبداع يفوق حتى الأسماء المذكورة، كما أن ثمة روائيين شباباً كأدهم العبودي وغيره، يكتبون بجمال ونفاذ بصيرة».
«وجبة الماء.. وجبة الكهرمان» (2013) و «مترو الأنفاق» (2014) كتاباه الشعريان اللذان كانا بمثابة محاولة لتوصيف الواقع الثقافي والفني في بلاده إبان انتفاضة يناير2011: «لديّ تصور قد يحمل قدراً من الحقيقة إزاء الواقع الثقافي في مصر، لكن لنعد قليلاً إلى نظام حسني مبارك ذاته، لقد حوَّل هذا النظام البلدَ إلى ما يمكن أن نطلق عليه «عصابات مغلقة» أو بتعبير أخفّ «جماعات مغلقة» ففي غياب أي استراتيجية تنموية تأخذ في حسابها المجتمع كله، كان التقاتل على حصص الحياة في مصر، بدءاً من زمن ما وصف بالانفتاح الاقتصادي في عهد السادات، لكن ذلك تفاقم للغاية في عهد مبارك، ليتشظَّى المجتمع المصري إلى جماعات أو عصابات تتكاتف لتأمين مصالحها. ينطبق ذلك مثلاً على الشرطة والقضاة، كما ينطبق على المثقفين والحياة الثقافية المصرية. برأيي هذا واقع الثقافة والحياة الثقافية في مصر، ولم تغيّر «ثورة يناير» من هذا كثيراً للأسف الشديد. ومع ذلك أعتقد أن ثمة حيوية إبداعية كبيرة في مصر، تتركّز اليوم في الأقاليم أكثر منها في القاهرة».
خارج الشعر
يمكنني القول بثقة كبيرة إنه لا آباء لي، يعقب المصري مضيفاً: «لم يحدث أنني تصاغرت أمام شاعر كبير أو سابق، أو حتى حاولت تقليد أحد، كنت أكتب أحياناً كحطّابِ ليلٍ وأحياناً بوعي جمالي وإبداعي، شخصياً كنتُ على تماس أكثر مع النص الشعري في كلٍ من لبنان والعراق وسوريا أكثر من النص الشعري المصري، وآبائي في الحقيقة هم هؤلاء الذين أبدعوا نصوصاً نافذة في الشِّعر، أو حتى في كتب الاقتصاد والفكر، برأيي أن الأرض التي يأتي منها الشِّعر هي خارج الشِّعر تماماً».
«رائعون»، يقول المصري عندما نسأله عن شعراء الألفية الثالثة في بلاده: «هذا ما يمكنني قوله، ليس نفاقاً لهم، ولكن لأنهم كذلك بالفعل، وعلى سبيل المثال لا الحصر.. خالد السنديوني، أسامة بدر، آلاء فودة، شهدان الغرباوي، عبدالرحمن تمام، وغيرهم وقدر الطاقة والوقت أتابع المشهد الشعري في مصر وفي العالم العربي، ومن البهجة أن «الفايسبوك» اليوم الذي يهجوه الجميع، وفّر منصة فورية ويومية للمتابعة والقراءة والتفاعل، فلقد تمكنت الأسماء المذكورة من تخطي المجاز، لإقامة اللغة على مجاز الواقع ذاته، فكانت نصوصهم كشفاً شعرياً مبهراً من وجهة نظري».
كأن مصر بملايينها التي تجاوزت الثمانين أمست اليوم في غيبوبة، إذ تراجعت مهرجانات عديدة ثقافية وفنية، أضف إلى انحدار السينما والأغنية، وذهابها المجنون نحو أجواء الفيديو كليب وأفلام شباك التذاكر؟ هذا ما نلمسه حين نقرأ كتابه «الوعي والوجود» (2009): «إنه كلام حقيقي بمعنى وصف الحالة، لكنه في سياق تفاعل الناس مع الإبداع بكل صوره، لا يعني تراجعاً، وإنما تطابقاً مع حالة مصر ذاتها، إنه سياق مركَّب وعام لا يمكن فصل جزء من أجزائه ومحاكمته منفرداً؛ والانحدار على أية حال، هو قياس على حالة سابقة تُعرف كما يقولون بالزمن الجميل، لكن هل كان لهذا الزمن أن يستمر بوتيرة إنتاجه الإبداعية العالية لو لم يكن المجتمع ذاته قد تردَّى اقتصادياً وثقافياً وحياتياً وسياسياً»؟ يتساءل المصري ويجيب: «الانهيار في رأيي شامل ولا يخصّ مصر وحدها بل في العالم العربي كله، لذلك كانت الثورات الأخيرة رد فعل أخذ طابعاً دموياً على كل ما حدث خلال نصف القرن الأخير في بلادنا. وبالرغم من ذلك، أعتقد أنه لو توفر مناخاً أكثر انفتاحاً وتمكيناً للطاقات والمواهب، فلسوف تتلاشى كل مظاهر الانحدار سريعاً أو في زمن قياسي، وهذا ليس في مجال الإبداع فقط، ولكن حتى في الإعلام المصري الذي تضربه الفوضى وانعدام المهنية بشكل رهيب، ويمسك به رجال الأعمال من خناقه».
التطرف الديني
حقق إبراهيم في العام الماضي كتابه «داعش وأخواتها ـ نصوص الإرهاب» (دار أرواد - طرطوس) وفيه يتناول عبر يوميات لاذعة وحس ساخر ظاهرة التطرف الديني، لكن هل يستطيع الكاتب العربي اليوم أن يعبّر عن معنى الحرية بعد حصاره بين أنظمة قمعية وأخرى دينية متشددة؟ يجيب: «نعم كتبت هذا الكتاب بحسٍ ساخر، لكنه لم يكن يوميات طريفة، وإنما تحديق ممضّ في الدم، وما يحدث ليس تطرفاً دينياً، إنه نوع من عناد العقل العربي أمام العبور إلى المستقبل، ولأن الدين مكوّن كبير وأساسي في هذا العقل، فقد كان الانفجار الدموي ذا طابع ديني، ونعم ثمة معنى للحرية بالتحديق في المستقبل، بعدم التراجع أو الخوف أو التكاسل عن مواجهة التطرف والإرهاب أياً كانت أشكاله أو صوره».
وهل ما زال هناك فسحة للكتابة في زمن قطع الرؤوس؟ يعقب: «نعم، ثمة فسحة وستبقى، هي الحياة كلها، والكاتب الذي يردعه مشهد قطع الرؤوس عليه أن يصمت، الحياة في الحقيقة لا تحفل كثيراً بالجبناء، وإن كنّا نريدها حرة كريمة، فيجب أن نواجه بكل الأدوات المتاحة لنا، بما فيها الكتابة».
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد