صواريخ «غراد»: خطوة أخرى نحو «أفغنة» سوريا
تلقت الفصائل المسلحة التي تقاتل الحكومة السورية ضربةً كبيرةً عندما دخلت القوات الروسية ميدان الحرب السورية، قبل عامٍ من اليوم. إذ إن هذه الفصائل لم تفقد فحسب الزخم الذي ميّز عملياتها طوال الأشهر السابقة، بل إن القصف الجوي الكثيف الذي استهدف مواقع هذه الفصائل أجبرها على الانكفاء لفترة غير قصيرة. ومن بين الأسئلة التي فرضت نفسها في الأسابيع الأولى التالية كان ما الذي يمكن تقديمه لهذه الفصائل لإعادة ميزان القوى إلى حالته السابقة، أو على الأقل للحيلولة دون هزيمة هذه الفصائل. ولكون التدخل الروسي تدخلاً جوياً بالدرجة الأولى، توقع كثير من المراقبين أن يتم تزويد تلك الفصائل بصواريخ مضادة للطائرات، ولاسيما لأن الحصول على قدرات مضادة للطائرات هو أحد أقدم مطالب المعارضة السورية. يضاف إلى ذلك النقاش حول احتمال غرق روسيا في وحول المستنقع السوري على نحو ما حصل مع السوفيات في أفغانستان، والذي أحد أسبابه حصول المقاتلين الأفغان على صواريخ «ستينغر».
في مقالة سابقة («وصول مضادات الطيران إلى سوريا: هل تكون أفغانستان أخرى؟») خلصت إلى أنه من المستبعَد أن يقود تقديم مضادات الطيران للفصائل المسلحة في سوريا إلى تكرار السيناريو الأفغاني، وهنا أكتفي بالإشارة إلى بعض التفاصيل. أولاً، الطبيعة الجغرافية الجبلية والوعرة لأفغانستان، حيث تشكل الجبال التي يزيد ارتفاعها على 2000 متر ثلاثة أرباع أفغانستان، ويصل ارتفاع بعضها إلى 7500 متر. منحت هذه الطبيعة الجبلية حمايةً طبيعيةً للمقاتلين الأفغان ولم يكن من الممكن للجيش السوفياتي استهداف هؤلاء المقاتلين بواسطة العمليات البرية مما فرض استخدام سلاح الجو كخيار شبه وحيد. وفي حين أن صواريخ «ستينغر» تستطيع التعامل مع أهداف لا يزيد ارتفاع تحليقها عن أربعة كيلومترات تقريباً، جعلت الطبيعة الجبلية الشاهقة لساحة المعارك الطائرات السوفياتية في مدى صواريخ المقاتلين الأفغان، فسقف تحليق الطائرات والمروحيات يُقاس إلى مستوى سطح البحر لا مستوى ارتفاع التضاريس البرية، وذلك لأسباب تتعلق بشكل رئيسي بالضغط الجوي. ولهذا السبب، وبينما لم يخسر السوفيات خلال تسعة أعوام من القتال سوى 147 دبابة، خسروا 451 طائرة مقاتلة ومروحية.
نظرةٌ سريعةٌ إلى ميدان المعارك السوري، تضاريسه وأدواته، ستشير إلى أن العوامل التي جعلت من صواريخ «ستينغر» مؤثرةً بشكل حاسم في أفغانستان هي غير متوفرة في الميدان السوري الذي يعتمد بالدرجة الأولى على المواجهات البرية، وحيث تنفذ الطائرات الروسية والسورية مهام القصف من ارتفاعات عالية تبقيها في معظم الأوقات خارج مدى عمل مضادات الطيران مثل «الستينغر» وغيرها. تفصيل آخر لم يكن ملحوظاً في ثمانينيات القرن الماضي وهو احتمال أن تقع بعض الصواريخ المضادة للطيران بيد جماعات إرهابية تستخدمها ضد الطائرات المدنية. هذا التفصيل بات اليوم احتمالاً جدياً للغاية يجعل من الصعب على أيٍّ كان أن يقدّم مثل هذه الصواريخ، ولاسيما بعد أن أقرّ الكونغرس قانون «جوستا» (قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب) الذي يفتح المجال أمام محاسبة الدول. كل هذه التفاصيل لا تعني أنه لن يتم تقديم صواريخ مضادة للطيران محمولة على الكتف، فهذه الصواريخ قد قُدمت فعلاً، وإن كانت بأعداد قليلة، منذ مطلع العام 2013، بل تعني أن تقديم هذه الصواريخ لن يغيّر مسار الحرب بشكلٍ حاسم على نحو ما حصل في أفغانستان.
الأفغنة بـ«الغراد» لا «الستينغر»
ولكن استبعاد احتمال تقديم صواريخ «ستينغر» أو ما يشبهها، لم يعنِ بالمقابل أنه لن يتم تقديم أي شيء. خلال الأشهر الأولى من العملية الروسية، منذ نهاية أيلول وصولاً إلى مطلع شباط، بدا أن الدول الراعية قد اكتفت بزيادة «كميات» الأسلحة من دون العمل على تقديم «أنواع» جديدة. ولكن انطلاق العملية العسكرية الكبيرة في ريف حلب الشمالي، التي فكّت الحصار عن بلدتي نبل والزهراء وكادت أن تقطع طريق الكاستيلو، فرض البحث في خيارات الدعم النوعي للمسلحين. في يوم الجمعة 12 شباط، نقلت رويترز عن اثنين من قادة المسلحين أنهم حصلوا على كميات كبيرة من صواريخ راجمات «غراد» لتعزيز قدراتهم القتالية في المعركة الدائرة شمال حلب. ولكن توجه الروس والأميركيين للتوافق على «وقف العمليات القتالية»، لنزع فتيل تصعيد إقليمي كبير، حال دون استخدام هذه الصواريخ أو ربما حال دون وصولها إلى أيدي المقاتلين فعلاً. ولكن صواريخ «غراد» بدأت بالظهور بشكل متزايد خلال الأسابيع الماضية، وشهد هذا الأسبوع ذروة استخدام هذه الصواريخ إذ سجل إطلاق نحو مئة صاروخ بين يومي 26 و27 أيلول في الشمال السوري. ولوضع هذا الرقم ضمن سياق يسمح بالمقارنة، أطلق «حزب الله» خلال تصدّيه لعملية «تصفية الحساب»، في العام 1993، حوالي 151 صاروخاً فيما أطلق خلال عملية «عناقيد الغضب»، في العام 1996، 639 صاروخاً. وقبيل غزو بيروت 1982، كان ياسر عرفات يرد على المزايدين عليه بأنه يملك حوالي 400 صاروخ غراد لا يستطيع إطلاقها على شمال إسرائيل. ولكن لماذا لم تصل هذه الصواريخ إلى الميدان السوري إلا على أبواب العام السادس للحرب؟
لا بد من الإشارة هنا إلى أن صواريخ «غراد»، وغالبية الصواريخ المشابهة، هي صواريخ رخيصة نسبية، حيث لا يزيد ثمن الصاروخ الواحد من طراز «غراد» على الألف دولار، وهي متوفرة بكميات هائلة لدى العديد من دول العالم، ولاسيما تلك التي لاتزال تحتفظ بمخزونات كبيرة تعود لأيام الحرب الباردة. ومن المعلوم أن الفصائل المسلحة قد استخدمت حتى الآن حوالي 900 صاروخ «تاو» يتراوح ثمن الصاروخ الواحد ما بين 40 و60 ألف دولار، كما أنها قد حصلت على دبابات وعربات مدرعة، وهذا الأسبوع حصلت على عربات «همفي» أميركية معزّزة بتدريع؛ فضلاً عن أن المعدات الفردية قد تحسنت بشكل ملحوظ أيضاً. كل هذه التفاصيل تشير إلى أن أموالاً هائلة يتم إنفاقها على تسليح هذه الفصائل، ولكن لماذا لم يتم توفير صواريخ رخيصة وفعالة نسبياً مثل صواريخ «غراد» إلا الآن؟
تقديم مثل هذه الصواريخ، سواء في حالة الفصائل المسلحة في سوريا، أو في حالة «حزب الله» أو «منظمة التحرير الفلسطينية»، هو قرار سياسي بالدرجة الأولى. بينما تكلف صواريخ «تاو» والدبابات وسوى ذلك نحو عشرات ملايين الدولارات، تبقى الحقيقة هي أن هذه الأسلحة قصيرة المدى، 2 إلى 4 كيلومترات، ولا تصلح سوى للاشتباك المباشر، أما تقديم صواريخ «غراد»، الرخيصة بشكل لافت، ينقل الصراع إلى مستوى آخر إذ إن هذه الصواريخ تمنح مستخدميها القدرة على ضرب أهدافٍ تبعد 20 إلى 40 كيلومتراً (نموذج صواريخ «غراد» الذي ظهر في الميدان السوري الأسبوع الماضي هو 9M22U الذي يبلغ مداه 20 كيلومتراً فقط وإن كانت المعارضة تحدثت عن مدى أكبر). وقد كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال»، هذا الأسبوع، أن النقاش في واشنطن يتركز حول إمكانية «تسليم أنظمة أسلحة تسمح باستهداف المواقع السورية والروسية من مسافات بعيدة». صواريخ «غراد» تصنف تماماً في هذه الفئة. وإذا ما تم تقديم المزيد من هذه الصواريخ فهذا سيفرض إعادة النظر في معنى خطوط التماس الحالية، إذ تسمح هذه الصواريخ باستهداف بعض المطارات والمواقع العسكرية التي لا تقع الآن على خط تماس مع المسلحين. بل إن مصطلح «سوريا المفيدة» نفسه سيحتاج إلى إعادة تقييم، إذ إن معظم المدن الكبرى، والمنشآت الحيوية، في المناطق التي لاتزال تحت سيطرة الحكومة السورية تقع ضمن مسافة 20 إلى 40 كيلومتراً من خطوط التماس الحالية.
ليس من المؤكد حتى الآن أن الولايات المتحدة ستحسم أمرها وتبدأ تقديم كميات كبيرة من هذه الصواريخ، أو غيرها، والغالب أن ما رأيناه هذا الأسبوع، والتصريحات الأميركية، لايزال في خانة الضغط على روسيا، سواء لإيقاف حملة القصف الجوي على أحياء حلب الشرقية، أو لدفع المفاوضات حول سوريا للسير بشكل أكثر سهولة. المسار الدبلوماسي الروسي ـ الأميركي دخل مرحلةً حرجةً للغاية، وقد ينهار فعلاً خلال الأيام أو الساعات المقبلة. سيحصل المراهنون على الحسم العسكري على ما يريدون. ولكن لا حسم عسكري من أي نوع ممكن لأي طرف. وحتى تقديم صواريخ «غراد»، بكمياتٍ كبيرة، لن يجعل حسم الحرب ممكناً أو قريباً، بل سيسبّب فقط المزيد من المعاناة للسوريين وإطالة أمد الحرب لسنوات إضافية.
شهد هذا الأسبوع توقيع اتفاق سلام لإنهاء الحرب الأهلية الكولومبية التي دامت 52 عاماً. وتقول الدراسات اليوم إن متوسط عمر الحروب الأهلية، منذ الحرب العالمية الثانية، في ازدياد مستمر، إذ يتراوح هذا المتوسط اليوم بين 10 و12 سنة. سورية اليوم في منتصف هذه المدة تقريباً، والمزيد من السلاح سيقود فقط إلى إكمال هذه المدة.
محمد صالح الفتيح
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد