21-01-2018
التدين الرسمي في خدمة السلطة
يشير علماءُ الاجتماع إلى أن الدين -كل دين- ينشأ حوله بمرور الوقت طائفةٌ من الخبراء أو المتخصصين الذين ينقطعون لدراسته، ويعكفون على تأمل نصوصه المركزية/المقدسة، باذلين في تمثل دلالاتها وتدبر معانيها من الجهد العقلي ما يثمر في النهاية جملةً من الأنساق أو التصورات المذهبية المتمايزة، التي قد يشتد ما بينها من أوجه التباين والاختلاف فيغدو صراعًا وخصومةً، وقد يهدأ فيصبح أقرب إلى الخلاف في وجهات النظر.
ربما يكتسب أحدُ هذه التصورات حُجِّية مُلْزِمة، إذا بسطت له الدولة يد الدعم والمعونة، متخذةً منه «مذهبًا رسميًا»، قد تغلو في فرضه على الناس حتى يُخيل إليهم ألا خلاص لهم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بالإذعان له والخضوع لمقتضياته الآمرة. وفي حَمْلِ الناس على مذهبٍ دون سواه بقوة السلطة ما لا يخفى من الدلالة على أن الدين قد تحول من كونه وحيًا متحررًا يَعِد المؤمنين به السعادةَ في الدارين، إلى كونه مؤسسة/مذهبًا داخل الدين لا تبشر بالنجاة إلا مَنْ انحاز إليها وآمن بمقولاتها.
ولعل إضفاءَ الطابع المؤسسي على الدين تجسيدٌ لواحدةٍ من أبرز خصائصه، وهي «الجماعية»، بمعنى نزوع المؤمنين بالدين إلى ممارسة شعائره وطقوسه ومفاهيمه ممارسة جماعية، في ظل رعاية أو رقابة تبسطها على الجماعة مؤسسة عُليا؛ انطلاقًا من أن الدين «تجربةُ عيشٍ للمقدَّس، وهو في الوقت نفسه تنظيمٌ للفعل الجماعي الذي يوجد حول هذه التجربة ويحتفي بها».
ولقد عرف الإسلامُ السني عبر تاريخه الحافل شكلاً من أشكال «المؤسَّسِّية الدينية»، وإن تباينت صورُهَا، واختلفت أدواتُها باختلاف المراحل التي تقلّب فيها الإسلامُ منذ تاريخه المبكر إلى عصره الحديث. ويسعنا أن نقرر مطمئنينَ أن الإطار الجامع لهذه المؤسَّسِيَّة كان يتجسد في «مؤسسة أو هيئة العلماء».
يرجع الفضل إليهم في تشكيل صورة الإسلام السني بمختلف تياراته العقائدية (أهل الحديث والحنابلة، الأشاعرة، الماتريدية)، والفقهية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة)؛ إذ وَكَلَتْ إليهم الأمةُ مهمة تفسير الشريعة والإشراف على تنفيذها داخل المجتمع. وفي سبيل الاضطلاع بالشق الأول من هذه المهمة (أي: التفسير)، وضع العلماءُ جملةً من المناهج الفنية الدقيقة التي تتطلب استعدادًا خاصًا وتدريبًا طويلاً، في حين كَفَلَتْ لهم قوةُ الدولةِ إنفاذَ ما ينتهون إليه من قواعد وأحكام.
العلماء والدولة السلطانية
كان ظهور نموذج «الدولة السلطانية» نقطةَ تحولٍ حاسمة في تاريخ «هيئة العلماء»، وهو النموذج الذي أضحى -بتنويعاته وصوره المختلفة- منذ منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) هو القاعدة المطردة لنمط الحكم الإسلامي، عوضًا عن أن يكون الاستثناء العارض الذي تفرضه الضرورةُ؛ ذلك أن تدهور الخلافة وافتقاد كثير من القائمين بها لشروطها الأساسية -وعلى رأسها العلمُ البالغُ بصاحبه رتبةَ الاجتهاد- أدى إلى تعظيم دور العلماء وتضخم مكانتهم؛ حيث كان احترامُ الشريعة شرطًا لازمًا لإضفاء الشرعية على الدولة السلطانية، وهو ما كان ينطوي ضمنًا على تقدير العلماء والاعتراف بدورهم الديني. وجدير بالملاحظة أن ثمة تماثلاً وظيفيًا بين الشريعة التي يحمل العلماءُ لواءها وبين الدولة التي يمثلها الخليفة أو السلطان، فكلاهما يهدف إلى تنظيم الدنيا وفقًا لمرادات الإسلام (نظريًا على الأقل)، وتحصيل سعادة الإنسان في الدارين
ولئن كان السلاطين المتغلّبون يحتاجون إلى العلماء لإضفاء الشرعية على سُلطتهم، فإن العلماء يحتاجون إلى قوة الدولة لحفظ النظام داخل المجتمع، «وهو شرط لازم لفرض العقيدة الصحيحة والسلوك القويم». ويلاحظ محمد نبيل مُلِين أن سيطرة العلماء على أدوات المعرفة الدينية وخاصة في ميدان السُّنة سمحت لهم بفرض مكانتهم داخل مجال الاجتماع الإسلامي.
كانوا فقهاء ومحدّثين ومتكلمين، وكانوا قضاةً وخطباء ووعاظًا وأئمة مساجد؛ الأمر الذي أكسبهم سلطةً أيديولجيةً تعمل في شبه استقلال عن سلطة الخلافة، بل إنهم استأثروا بجزء كبير من السلطة الدينية للخلفاء. وكذلك فإن نوح فيلدمان يقرر أنه بظهور الدولة السلطانية أصبح العلماء «مصدرًا للسلطة في البنية الدستورية الإسلامية».
هكذا، عقد العلماءُ مصالحةً مع نظام هذه الدولة، أضحى الدينُ أو الشرعُ بمقتضاها أحد لوازم السياسة ومقوماتها الرئيسة، واندمج العلماءُ في البنية المؤسسية والإدارية للدولة، مشكلين طبقة بيروقراطية هيأت للمجتمع بما زاولته من أنشطة دينية وعلمية وسياسية قدرًا كبيرًا من الاستقرار والتماسك.
التنوع المذهبي وخصوصية المؤسسية الإسلامية
على أن سوقَ الكلام عن العلماء مساقًا واحدًا لا ينبغي أن يحجب عنا ما كان بينهم من تنوع مذهبي هائل أضفى على «مُؤَسَّسِيَّة الإسلام» في العصر الوسيط طابعًا خاصًا من التعددية المتصلة بالمنزع الفردي للاجتهاد اتصالاً وثيقًا، والمغايرةِ لجمود المؤسسية وتسلطها في العصر الحديث (عصر تقنين الشريعة) كل المغايرة.
لا جرم جابه العلماءُ -ولا سيما في التاريخ المبكر- كلَّ محاولةٍ لإكراه الناس على مذهب واحد برفض قاطعٍ؛ صونًا لحيوية الشريعة وحفاظًا على واحدةٍ من أبرز خصائصها، وهي الخصيصة التي يسميها وائل حلاق «التعددية الاجتهادية»، وإن أُخْضِعَت لضرب من الضبط أو التوجيه؛ بغية منع ما قد يترتب عليها من التباس مذهبي، ولا سيما في حقلي الإفتاء والقضاء.
ولقد تناول حلاق هذه المسألة بالنظر المتأني والدرس المستفيض، ناثرًا ما انتهى إليه بشأنها من نتائج في عدد من مؤلفاته. ونراه في هذا الصدد يميز بين صورتين للشريعة: إحداهما: هي الصورة التي تحولت إليها في القرنين الأخيرين (التاسع عشر والعشرين)؛ حيث أضحت مجرد «مدونة قانونية» تفرضها الدولة من أعلى، والأخرى: هي صورتها قبل التحديث؛ حيث كانت منظومة حياتية ثقافية تشكلت في رحم الاجتماع الإسلامي، هادفة إلى خدمته والوفاء بضروراته في المقام الأول.
تختلف هذه الصورة كل الاختلاف عن فكرة «القانون» الذي تفرضه الدولةُ من موقعها المركزي؛ فيتحرك إلى أسفل -وفقًا لمنهج مرسوم بدقة- حتى يستوعب جميع أفراد المجتمع المخاطبين به، بغية إعادة صياغة الواقع وضبطه ضبطًا صارمًا.
وقد نوَّه حلاق -مستندًا إلى هذا التباين الجوهري بين الشريعة في المجتمعات التقليدية والقانون في الدول الحديثة-ـ بأن كل تصور للشريعة يَنْسب إليها دور الضبط والسيطرة إنما هو سوء فهم حداثي نشأ عن إسقاط التصورات القانونية على الشريعة، وأكد أيضًا أن مطلب الفقهاء للسلطة كان مطلبًا معرفيًا بالأساس ثم تأويليًا ودينيًا، ولم يكن أبدًا مطلبًا سياسيًا بالمعنى الحديث للكلمة؛ أي أنه لم يشتمل على أي إكراه أو تسلط دَوْلَتيّ.
يشير حلاق في موضع آخر إلى أن الدولة الحديثة حين انتحلت صفة المشرِّع أحلت نفسها مرتبةً فوق القانون، وهو ما لم تعرفه المجتمعاتُ الإسلامية قبل التحديث؛ إذ لم يتدخل الحكام قط في عملية التشريع أو في تحديد المذهب الفقهي، بل كانوا يرون أنفسهم بصورة أو بأخرى خاضعين للشريعة التي يصوغ الفقهاءُ أحكامَها.
وعلى الرغم مما أثارته أطروحة حلاق من جدل واسع بين مَنْ أنكرها ومَنْ تعصب لها، وعلى الرغم من خلافنا معه في بعض التفاصيل التاريخية الدقيقة التي لا يتسع هذا المقال لمناقشتها، فإني أراني موافقًا لأطروحته في الجملة، وبخاصةٍ أن ثمة شواهد كثيرة في تاريخ التشريع السُّني تؤيد صحتها، وتبرز المحاولات الجادة التي بذلها الفقهاءُ للحفاظ على «تعددية الشريعة» -التي تعد المكوِّن الأبرز للإسلام- في مواجهة تسلط الدولة على هذا الميدان الذي يحسن أن يظل بمنأى عن قبضتها القوية.
فهذا الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) يأبى على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/775م) ما كان يجنح إليه من فرض كتاب «الموطأ» على كافة الأقاليم والأمصار التابعة لدولة الخلافة، وحمل الناس على العمل بما ورد فيه من أحكامٍ لا يجاوزونها إلى غيرها، فأجابه مالك: «يا أميرَ المؤمنينَ لا تفعلْ هذا، فإنَّ الناسَ قد سبقت إليهم أقاويلُ، وسمعوا أحاديثَ، ورووا رواياتٍ، وأخذ كل قومٍ بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله، وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدَعِ الناس وما هُمْ عليه، وما اختار أهلُ كل بلدٍ منهم لأنفسهم»، فقال أبو جعفر: «لعمري لو طاوعتَنِي على ذلك لأمرتُ به». ولكنّ مالكًا لم يطاوع، حافظًا للشريعة حيويتَها وتنوعَها.
هل طمست المدرسةُ ملامح التنوع؟
خطت فكرة «المؤسسية الدينية» في الإسلام خطوةً أبعد مع نشأة نظام المدارس التي توسع السلاجقةُ ومَنْ بعدهم كالزنكيين والأيوبيين والمماليك في بنائها، لتنهض بمهمة تدريس العلوم الدينية التي شكلَتْ في مجموعها بنيةَ الإسلام السني؛ كالتفسير والحديث والفقه والتصوف، فضلاً عن علوم العربية، ولم تلبث «المدارس أن أصبحت هي الطريقة السنية المعتمدة لتنظيم التعليم الديني والشرعي في ظل رعاية الدولة ودعمها»
رغم ذلك فإن المدرسة لم تمحُ عن الإسلام ما كان يمتاز به من تعددية وتنوع؛ ذلك أن تحمس هذه الدول لمذهب بعينه (كالسلاجقة مثلاً الذين تحمسوا للمذهب الحنفي)، لم يمنعها من تقدير المذاهب الأخرى واحترام المنتسبين إليها؛ ابتغاء إيجادِ نوعٍ من التضامن السني العام، ورعايةً لطبيعة التنوع المذهبي داخل الإسلام
ومن الإشارات اللافتة في هذا الصدد أن الوزير نظام الملك الذي جلس على كرسي الوزارة السُّلجوقية في إبان عظمتها نحو ثلاثين عامًا كان شافعيًا معروفًا بتقدير فقهاء المذهب الشافعي والحرص على إسناد التدريس لهم في مدرسته الشهيرة ببغداد. وتأسيسًا على ما تقدم لا يبدو مستغربًا أن يقرر إمام الحرمين الجويني (ت 478هـ/1085م) -أحد مشاهير علماء الشافعية في العصر السلجوقي- أن الخليفة ليس له أن يسعى إلى توحيد مذاهب الفقه؛ إذ «لا ينبغي له أن يتعرض لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل يُقِرُّ كلَّ إمامٍ ومتبعيه على مذهبهم، ولا يصدّ عن مسلكهم ومطلبهم»
وهكذا لم يفض انتشار المدارس في أنحاء العالم الإسلامي واحتكار العلماء التدريسَ بها إلى تكون «مؤسسة دينية رسمية» بالمعنى الحديث للفظة المؤسسة، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسلطة الدولة أو إن شئت الدقة بمنطقها المركزي المستبد في التشريع ووضع القوانين. وبعبارة أخرى: فإن إسلام العصر الوسيط لم يحتكر الحديثَ باسمه مذهبٌ معين أو تيارٌ دون سواه، مع إقرارنا بأن بعض المذاهب كانت تحظى بأفضلية نسبية في هذا الإقليم أو ذاك، بأثرٍ من دعم السلطة أو بحكم الانتشار والذيوع.
ولم يحدث أيضًا أن حمل علماءُ مدرسة من المدارس أو جامع من الجوامع لواءَ الإسلام السني على نحو ما آل إليه الأمرُ في العصر العثماني الذي أصبح فيه الجامع الأزهر جزءًا من الدولة، وممثلاً -يوشك أن يكون حصريًّا- للإسلام في مصر، بحيث لم يبق بينه وبين أن يكون «مؤسسة رسمية» كاملة التبعية للدولة إلا أن تطرق الحداثةُ أبواب العالم العربي.
إضاءات
إضافة تعليق جديد