لاعب الجودو الذي بعث روسيا من الرماد
تجري في الآونة الأخيرة «أبلسة» صورة فلاديمير بوتين في وسائل الإعلام الغربية، حيث يسمى أحياناً «القيصر إيفان الرهيب» أو «ستالين الجديد». ودائماً يشار إلى أنه الديكتاتور الخارج من عباءة الـ«كي جي بي»، ويجري تشبيه «البوتينية» بالفاشية.
ونشر مقال هو الأبرز بهذا الصدد لماكس بوت في «لوس أنجليس تايمز» في شباط الماضي، وصف فيه الرئيس الروسي بأنه «القملة المزمجرة». وآخر مقال في هذه السلسلة ظهر في «واشنطن بوست» في 3 آذار الجاري تحت عنوان «بوتين ــــــ قاطع طرق».
ويخيّل أحياناً بأن الحديث يجري عن أدولف هتلر والقومية الاشتراكية الألمانية في ثلاثينيات القرن العشرين، لا عن رئيس روسي منتخب ديموقراطياً في بداية القرن الواحد والعشرين.
ومن جهة ثانية، يشبّهه مؤيدوه بالرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة فرانكلين روزفلت (1932ــــــ1945)، الذي أنقذ بلاده في ثلاثينيات القرن الماضي من الأزمة الاقتصادية العصيبة، التي عصفت بها، وأحياناً ليس بوسائل ديموقراطية تماماً.
ويرى نائب رئيس ديوان الرئاسة، فلاديسلاف سوركوف، أن بين الولايات المتحدة في عصر روزفلت وروسيا المعاصرة أوجه تشابه كثيرة، و«أن بوتين مضطر اليوم، شأنه شأن روزفلت بالأمس، إلى تعزيز الحكم والاستفادة من طاقات السلطة الرئاسية من أجل التغلب على الأزمة».
من هو بوتين؟ هذا السؤال طرحته الصحافية الأميركية ترودي روبين عام 2000 في منتدى دافوس الاقتصادي على أربعة مسؤولين روس كبار، ولم يستطيعوا الإجابة عنه. ولم تجد روبين الجواب إلا في مطلع الشهر الجاري، عندما اكتشفت أن تكوين بوتين الفكري تكوّن أيام خدمته في «كي جي بي»، وأنه يفضّل عدم الشفافية ويميل إلى مركزة السلطة، «وبعبارة أخرى: السلطة المعتمدة على القانون، لا سلطة القانون». وقد كان ذلك واضحاً لديها منذ أيام حكمه الأولى.
ولد بوتين في 7 تشرين الأول 1952 في مدينة لينينغراد وترعرع فيها، ودرس في كلية الحقوق في جامعتها، وتخرج منها عام 1975، وكان له من العمر 23 عاماً، عندما جرى تجنيده للعمل في الاستخبارات السوفياتية، وأُرسِل إلى مدينة دريزدين في ألمانيا الشرقية للعمل حيث أتقن الألمانية، وتعرف إلى أوروبا.
ترك الـ«كي جي بي» (لجنة أمن الدولة) في عام 1991 في مرحلة الهزات الكبرى في الاتحاد السوفياتي، والتحق بمحافظ لينينغراد (بطرسبورغ في ما بعد) الإصلاحي أناطولي سوبتشاك. في عام 1996، هُزم سوبتشاك في الانتخابات البلدية في المدينة، في وقت نجح فيه بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا الجديدة، في الفوز بولاية أخرى في الانتخابات الرئاسية.
وفي هذه الأثناء، عرض رجل الخصخصة الروسية سوبتشاك، الذي كان قد عُيّن آنذاك مديراً لديوان الرئاسة الروسية، على بوتين الانتقال إلى موسكو والالتحاق به في الكرملين. ويجب القول إن بوتين تميز بصدق الكلمة وحرصه على محاولة تطبيق القانون حتى في عصر الفوضى الروسية، والإخلاص لرؤسائه في أي عمل مارسه، وربما لذلك عينه يلتسين في عام 1998 مديراً لمصلحة الأمن الفدرالية FSB، التي أصبحت وريثة لـ«كي جي بي»، ثم رئيساً للوزراء في 9 آب 1999 وكان له من العمر 47 عاماً.
وكانت روسيا آنذاك لا تزال تعاني من آثار قرار الحكومة بعدم تنفيذ تعهداتها المالية في آب من عام 1998، ما أدى إلى تعويم الروبل، الذي فقد 70 في المئة من قيمته الشرائية. وعمت البطالة، وطلب الناس الصدقات في الشوارع، وارتفع مستوى الدعارة، وعاش 29 في المئة من الروس تحت خط الفقر، وانتشرت المافيا والجرائم المالية والجريمة المنظمة والفساد في بلاد القياصرة.
هذه هي روسيا، التي تسلمها عقيد الاستخبارات السابق بوتين من يلتسين.
أما في الشيشان فكانت روسيا تعاني الهزيمة تلو الهزيمة منذ عام 1994عندما شن يلتسين حربه الأولى «لحاجة الوطن الكبير إلى انتصار صغير». ولم تعد روسيا موجودة على خريطة العالم إلا كدولة فاشلة تتلقى النصائح الأبوية من واشنطن حول الديموقراطية الانتقالية.
كان قد مضى ثلاث سنوات على اتفاقية السلام المبرمة في 31 آب 1996 بين الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف ورئيس مجلس الأمن القومي الروسي ألكسندر ليبيدوف، التي انسحبت القوات الروسية الفيدرالية بموجبها من الشيشان. ولكن أميري الحرب، الشيشاني شامل باساييف، والأردني عبد الرحمن خطاب، قررا توسيع دائرة سيطرتهما والهجوم في 2 آب 1999 على قرى داغستان الجبلية. وأدرك رئيس الحكومة بوتين أنه من دون استئصال الدُّمَّلة الشيشانية، لن يكون استقرار في روسيا.
وفي 29 آب 1999، بدأت الحرب الشيشانية الثانية وقام الجيش الروسي بهجوم شامل على الشيشان لاستعادة احتلالها من جديد. وبدأ بوتين يحقق انتصاراته الأولى على هذه الجبهة، وأصبحت الشيشان شغله الشاغل.
وحين سئل في شهر تشرين الأول من العام نفسه عن الشيشان، رفض إجراء أي مباحثات مع مسخادوف ونعته بالإرهابي، وقال قولته الشهيرة المأخوذة من قاموس السجون الروسية: «سنسوّح الإرهابيين أينما نجدهم ولو في المراحيض». ويجب القول إن هذه الكلمة نزلت على قلوب الروس، الذين عانوا لأعوام من الإذلال بسبب الشيشان، برداً وسلاماً؛ فالشعب الروسي كان بحاجة إلى الشعور بالأمن والنظام ويؤرقه الحنين إلى ماضي القوة العظمى. ولعبت مواقفه الصارمة إبّان قيادته لحرب الشيشان الثانية دوراً كبيراً في فوزه بالانتخابات الرئاسية في ما بعد.
- وفي 25 كانون الأول 1999، وقد أدرك يلتسين الحالة التي وصلت إليها روسيا وعجزه عن إحداث أي تغيير فيها، ظهر على شاشة التلفزيون الروسي الحكومي، وأعلن استقالته. وكان من الطبيعي أن تفتح الأبواب على مصراعيها أمام بوتين لكي ينتخب في آذار من عام 2000 رئيساً للاتحاد الروسي، بعدما وقع مرسوماً جمهورياً يمنح الحصانة ليلتسين مدى الحياة من الملاحقة القانونية له ولأي من أسرته ولبطانته، وهو لا يزال يحافظ على هذا الوعد إلى الآن.
وحظي بوتين بتفويض شعبي كبير في الدورة الأولى للانتخابات ونال نسبة 52,52 في المئة من الأصوات، رغم أنه لم يقدّم مشروعاً سياسياً واضحاً لروسيا الجديدة ولا برنامجاً انتخابياً محدّداً ولا جدولاً اقتصادياً، ولم يقدّم وعوداً أو أي إغراءات أخرى للناخبين، بينما كان يتحدث عن السياسة الدولية، وخصوصاً عن أزمة الشرق الأوسط كراهب بوذي يدعو إلى المحبة والسلام، ما دفع مجلّة «نيوزويك» في عام 2000 إلى رسم أربعة احتمالات ممكنة لحقبة الرئيس الروسي الجديد: الأوّل أن يصبح بوتين ديكتاتوراً جديداً شبيها بالزعيم السوفياتي جوزف ستالين، الثاني هو أن يبقى رهينة لأسرة يلتسين، التي جاءت به فعلياً إلى السلطة، الثالث أن يسعى إلى تسوية سياسية لحرب الشيشان، ثم ينصرف إلى حل مشاكل روسيا الاقتصادية، الرابع أن يعمد إلى تحريك العصبية القومية، ليجعل الروس ينسون مآسيهم الاقتصادية اليومية ويعتمد على الكبرياء الروسية والحنين إلى القوة العظمى التليدة.
- لكن المجلة الأميركية أخطأت في حساباتها، لأن أياً من السيناريوهات الأربعة لم يتحقق، وجسّدت خطوات بوتين التالية شيئاً من كل هذه السيناريوهات معاً. فقد تميّز بوتين بالشدة في تطبيق القانون، لكنه لم يكن طاغية آسيوياً أو ستالينياً جديداً، بل كان أوروبياً على الأقل في مظهره الخارجي، حيث لم يرتدِ قبعة الفراء الروسية الشهيرة، وأوقف العادة السوفياتية البريجنيفية في تقبيل الزعماء، التي تابعها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، وأقام صداقة شخصية مع الزعماء الأوروبيين. ولعبت إجادته للغة الألمانية ودراسته الحقوقية دوراً في إعطاء صورة عصرية أخرى عن رئيس روسيا تخالف تلك المتصورة عن قاطني الكرملين المترهلين قبله.
وبوتين لم يبقَ رهينة لعائلة يلتسين، لكنه لم يسمح بمساءلتها أمام القانون رغم مطالبة الحزب الشيوعي الروسي والحزب الليبرالي الديموقراطي وغيرهما مراراً بذلك. وبقي مخلصاً لرئيسه السابق أناطولي سوبتشاك عندما اشتدت الأمور عليه في نهاية عهد يلتسين، ولاحقته النيابة العامة الروسية بسبب ليبراليته، وأنقذه بوتين بإرساله على طائرة خاصة إلى باريس.
ولكن ذكر الشيشان كان دائماً يصيبه بالانفعال. وكان يعول على الدعم الغربي لنظامه، وخصوصاً بعد تفجير المباني السكنية في موسكو في أيلول 1999. لذا أثيرت حملة إعلامية ضخمة روسية قبل أحداث نيويورك بعامين على «الإرهاب العالمي» و«جحافل الإرهابيين العرب»، الذين يحاربون ضد الروس في الشيشان.
وفي 16 حزيران 2001، التقى بوتين في سلوفينيا بالرئيس الأميركي جورج بوش، الذي قال إنه نظر في عيني بوتين وإن هذا الشاب قد أعجبه. وعلى إثر أحداث 11 أيلول 2001، كان بوتين أول المتصلين ببوش للتعزية بضحايا الاعتداءات. وذكـّر بأن 15 من بين الخاطفين الـ 19 للطائرات كانوا من السعودية، التي كانت تموّل برأيه المقاتلين الشيشان.
لكن، لم يكن مكتوباً للتحالف الأميركي ــــــ الروسي ضد «الإرهاب العالمي» أن يتم. واستمرت الإدارة الأميركية بانتقاد انتهاك حقوق الإنسان في الشيشان، بل لم ينفذ بوش أبسط وعوده، التي كان يطلقها، على الأقل بإلغاء «تعديل جيكسون ــــــ فينيك»، الذي أقره الكونغرس في عام 1974 للضغط على موسكو الشيوعية، التي وضعت القيود آنذاك على الهجرة اليهودية أيام الحقبة السوفياتية، فيما ألغي هذا التعديل بالنسبة إلى أوكرانيا. وانهارت أيضاً خطط بوتين للتحالف مع حلف الأطلسي أو للتقارب مع الاتحاد الأوروبي.
واستمر بوتين بالتراجع تكتيكياً، وسحب قواعده من فيتنام وكوبا، حتى اتهمه القوميون الروس بالعمالة لواشنطن، لأنهم لم يكونوا يتصورون أن بوتين سيأمر بعد سنوات بتوسيع نقطة الإمداد البحرية العسكرية الروسية في طرطوس وتوسيعها حتى عام 2009 وتحويلها إلى قاعدة عسكرية بحرية روسية في سوريا.
ورأى بوتين أخيراً أن الأوان قد آن لإفهام الولايات المتحدة أن روسيا ليست جمهورية موز في جيبها، وأن الوقت أصبح ملائماً لإنهاء علاقة النفاق، التي غلّفت المساندة الأميركية لنظام يلتسين. وبدأ بالتكلم مع واشنطن من موقع المساواة، الذي تجسد بسعيه إلى الاعتراف الدولي بالعالم المتعدد الأقطاب، وباتخاذه مواقف معارضة لمصالح الولايات المتحدة بالنسبة لإيران وسوريا. وبدأ بانتهاج سياسة التقارب مع العالمين العربي والإسلامي، التي انتهت بحصول روسيا في حزيران 2005 على عضوية في منظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب.
وهناك درس تعلّمه بوتين في بداية ولايته الرئاسية الأولى، حيث أدرك أن الأهم في القرن الواحد والعشرين ليس القوة العسكرية بل الاقتصاد. لذا بدأت روسيا بفتح أسواقها أمام العالم، وشرعت بالبحث عن شركاء من بين الدول الآسيوية الاقتصادية الرائدة. كما أدرك أن أحد أهم الاتجاهات الواعدة في القرن الواحد والعشرين هو أمن الطاقة، حيث تستطيع روسيا لعب دورها العالمي من جديد بواسطة احتياطيها الضخم من النفط والغاز. وبفضل بوتين يفوق احتياطي روسيا اليوم من العملات الصعبة والذهب ما يعادل 300 مليار دولار.
وكإنسان مقتنع بأنه «بقدر ما تكون الدولة قوية، يكون شعبها حراً»، كان بوتين يعزز أدوات السلطة بدأب ملحوظ ومستمر، ما جعل منتقديه الغربيين يؤكدون عودة الديكتاتورية الستالينية إلى روسيا، لكنه كان يشعر بأن النظام الشيوعي السابق لا يمكنه التحوّل بين ليلة وضحاها إلى ديموقراطية غربية والعمل في أجواء السوق الحرة، من دون استعادة هيبة الدولة.
وأظهر بوتين خطأ من كان يظن أن أيام الدولة الروسية معدودة وأنها سائرة إلى فناء. وبيّنت سياسته في الشيشان بوضوح تام عزمه الصارم على اتباع سياسة حازمة فيها. وإذا كان موقف يلتسين في كوسوفو يشكل عنواناً لتعامل الغرب معه، فإنّ موقف بوتين في الشيشان شكل عنواناً لتعامله هو مع الغرب. ففي الحالة الأولى اضطرّ يلتسين للإذعان لزعامة حلف شمال الأطلسي، وفي الحالة الثانية اضطرّ حلف شمال الأطلسي للإذعان لإرادة بوتين.
ولعل حادثتي احتجاز الرهائن في المسرح في موسكو في 23 تشرين الأول 2002، وفي مدرسة مدينة بيسلان في أوسيتيا الشمالية في 1 أيلول 2004، وطريقة التعامل الروسي معهما، حيث تم في الحالتين قتل الخاطفين والكثير من الرهائن، عززتا حزم بوتين وعزمه على محاربة المقاتلين بشدة أكبر وباستخدام وسائل أكثر صرامة عن المرة الماضية.
وفي الوقت نفسه تحالف مع مفتي الشيشان السابق أحمد قديروف، الذي أصبح رئيساً موالياً لموسكو، وبعد مقتله في عام 2004، تحالف مع ابنه رمضان، الذي أصبح أخيراً رئيساً جديداً للشيشان. وصرفت مئات الملايين من الدولارات على إعادة إعمار الشيشان، وأجرى المسؤولون الروس في هذه الأثناء مباحثات حثيثة مع الدول العربية والإسلامية «لتجفيف منابع تمويل الإرهاب». وكان هم بوتين منصبّاً على إيقاف العدوى الشيشانية، التي كانت تهدد بالانتقال إلى جمهوريات القوقاز الأخرى وتتارستان، بل والأورال. واستغل بوتين عملية بيسلان الإرهابية لإحكام سيطرته الكاملة على العملية السياسية في البلاد، وألغى الانتخابات المباشرة من الشعب لرؤساء الكيانات الفيدرالية الروسية، الذين عدوا أنفسهم رؤساء دول مستقلة في العهد اليلتسيني، وعزز السلطة الفيدرالية، وأقام ما سمي رأسية السلطة. لكن خطوات بوتين، التي كانت صارمة في مجال الأمن والسياسة، لم تكن كذلك في مجال الاقتصاد، الذي كان ليبرالياً صرفاً، حيث استمرت خصخصة الاقتصاد الروسي، وأجريت إصلاحات ليبرالية جذرية في المجالات الاجتماعية، أثارت أحياناً غضب المواطنين مثل إلغاء التسهيلات العينية للمسنين والاستعاضة عنها بتعويضات مالية، وتحديث البنية التحتية الاجتماعية.
والآن يتعرض نهج بوتين للانتقاد ووصفه بالفاشية، لكن لا يستطيع أحد من منتقديه إنكار أن روسيا اليوم عادت بفضله دولة كبرى نافذة، وبالطبع لم تصبح روسيا جنة الله الموعودة على الأرض، لكن بوتين بعثها من الرماد، وحفز نهوضها السياسي والاقتصادي، وأوقفها على قدميها.
هل هو روزفلت أم ستالين؟ يترك هذا السؤال لحكم التاريخ. لكن الجميع يثقون بأن صاحب هذه الرؤية لن يغيب عن المسرح السياسي بانتهاء فترة رئاسته في عام 2008، وقد يشبهونه آنذاك بالأب الروحي «للبيريسترويكا» الصينية الزعيم الصيني دين سياو بين.
حبيب فوعاني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد