أهالي مناطق الغمر في الجزيرة
أهالي مناطق الغمر في الجزيرة
بين كارثتهم الإنسانية وحياة اللجوء والتشرد التي يعيشونها في ريف دمشق
النساء يعملن في الأرض والرجال يقعدون في الخيم، أو يمضون نهارهم في الساحات بحثاً عن عمل
ليتكفل الشارع بتنشئة الأطفال دون تعليم ورعاية
بنت العم لابن العم ولو بالغصب
لا ترث المرأة، ولا يحق لها طلب الطلاق
تحرم المرأة من الزواج لتأتي بالخبز للأسرة طوال حياتها.
كارثة إنسانية حلت بأهالي المحافظات الشمالية (الرقة، دير الزور، الحسكة، وحلب) حين بدأت مياه الفرات بغمر أراضيهم وبيوتهم في السبعينات، تلتها عدة غمرات في الثمانينات والتسعينيات، فوجد سكان مناطق الغمر أنفسهم فجأة دون بيت يحضنهم، ودون أرض يزرعونها ويأكلون من خيراتها. فرحلوا على أثرها إلى مناطق مجاورة، حيث عوض البعض منهم بأراض بعلية لا يمكن استصلاحها، مساحتها لا تكفي لبناء منزل، والبعض الآخر لم يعوض. فما كان أمامهم سوى خيار الهجرة إلى المحافظات المجاورة وإلى ريف دمشق للعمل.
تلك النكبة حصدت نتائجها المأساوية الأسرة كاملة نساء ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً، لكن المرأة المنكوبة أصلاً في تلك المحافظات نابها النصيب الأوفر منها.
فإذا كانت المرأة في أرياف محافظاتنا تخرج للعمل في الأرض مع الرجل وتقاسمه إياه يداً بيد، مع عملها الأساسي كربة منزل، فالمرأة في تلك المحافظات تقوم بالاثنين معاً، إذ يعد عمل الأرض، من زراعة وحصاد وقطاف خاص بالفتيات يسخرن للعمل فيه منذ الصغر، لاسيما في الأرياف النائية، حيث تخضع المرأة لعادات وتقاليد عفى عليها الزمن، تجور في قسوة أحكامها عليها في كل ما يتعلق بحياتها.
من نافذة منزلي المطلة على مساحة كبيرة من الأرض المزروعة بالحنطة في منطقة الجنائن بجرمانا أخذت أراقب عملهن في الحصاد الذي بدأ باكراً، ولم ينتهي حتى آخر النهار، طاقم من النساء وحسب، يستخدمن المنجل لحصاد وحمل ما يُحصد، وتجميعه في مكان واحد، ومع أن عملهن شاق ويتطلب جهد عضلي حقيقي لم يرافقهن أي رجل لمساعدتهن، الحديث معهن، والسؤال عن عملهن، وحياتهن فتح الباب على مشكلة مجتمع بأكمله، يعيش أهله على أطراف ريف دمشق في خيم كانت عنوناً لأحزمة البؤس والفقر والتشرد.
كان لا بد من مرافقتهن إلى قرية أوتايا بريف دمشق، مكان إقامتهن، ورغم تعب النهار، بدأن طريق العودة الطويل، بالغناء للرقة قمرهن العالي البعيدين عنه:
(هلهلي هلالي حلوة يا الرقة، يا قمرنا العالي
قصر البنات، مسعد يا من شافها وقلعة جبر، يا عز ها لمضافة)
لا نعرف طعم النوم
في قرية أوتايا وعلى جانبي الطريق المؤدي إلى النشابية، اتخذ (عرب الشيخ فضيل) الوافدين من الرقة وحلب، من خيم الخيش بيوتاً لهم يقيمون فيها لمدة سبعة أشهر فترة المواسم الزراعية، ويعودوا مجدداً إلى محافظاتهم، والبعض الآخر استقر بشكل دائم صيفاً شتاء منذ سنوات مع استخدام النايلون للوقاية من مطر الشتاء وبرده.
إذ يقول موسى العلي: ندفع أجرة الأرض لنصب الخيمة (1000 – 1300) ليرة سورية حسب المساحة، وفي الشتاء نضع النايلون فوق الخيش للوقاية من المطر، ونستخدم الحطب للتدفئة، حيث نشتري كيلو الحطب بثلاث ليرات من المناشر، وفي العواصف والرعد والمطر لا نعرف طعم النوم، جالسون من البرد والخوف لا نعلم متى تهبط الخيمة فوق رؤوسنا.
ويضيف حمود المبروك: في الشتاء الماضي انهدمت الخيم مرتين فوق رؤوسنا من الريح والمطر، وبقينا طوال الليل واقفون على أرجلنا، وعندما سألته هل أتاكم أحد للإغاثة؟!.. أجاب:( ما حدى داري فينا، ما حدى مدحج علينا)، (الشبعان ما بيدرى بالجوعان).
خلفيات الهجرة
يضم (عرب الشيخ فضيل) حوالي 40 خيمة، حيث يتواجد فيه بحدود الثلاثة آلاف فرداً، لكنه ليس الوحيد في هذه المنطقة، وإن كان يضم أهالي الرقة وحلب عموماً، فهناك عربيين في حوش الصالحية على طريق النشابية من أهالي الحسكة، وعربيين في حمورية من الجزيرة أيضاً، واثنين في دوما، وأربعة في الشيفونية.
ما الذي يجعلهم يقطعون كل هذه المسافات ويتركون ديارهم، ويرضون حياة التشرد تلك؟!... ألا تتوفر لأهالي الجزيرة و"الفرات" الأراضي والمياه للعمل فيها ؟!...، يقول (حمود المبروك- 35 عاماً ): في عام 1974 غمرت مياه سد الفرات أراضينا وبيوتنا، فتم تعويضنا بأراض بعلية في القامشلي استصلاحها مشكلة كبيرة بالنسبة لنا، والذي لديه أرض في الرقة يعمل بها مع أولاده، ولا يحتاج أحد لمساعدته، ومع ذلك فهو خسران لعدم توفر أسواق تصريف لمنتجاته، وفي البادية إذا زرعنا الشعير نزرعه مخاطرة لأن الزراعة فيها ممنوعة.
يحسبوننا (نور... أو قرباط)
ويضيف (عوش السعران) الذي أتى مع أسرته المؤلفة من عشرة أفراد من حلب، واستقر في العرب منذ سنوات: بعد أن طمر سد تشرين أرضينا وبيوتنا، أتيت مع أسرتي منذ أربع سنوات للعمل، ندفع أجرة أرض الخيمة التي نقيم فيها صيفاً شتاء 1300 ليرة سورية، بعد أن كان لدينا أراضي وأملاك في حلب، لكن الظروف جارت علينا، يحسبوننا ( نور أو قرباط) وعندما نسمع ذلك حتى الطعام لا نقدر عليه من الحزن، نحن عرب، ولكن ماذا نفعل؟... نسرق، (نبوق) نحن نعمل لنعيش.
محرومون من الزراعة
في حين (أبو إبراهيم) قال: أعطونا أرض بعلية رعوية في قرى تبعد عن الفرات مسافة 15 كيلو متر، لكن استصلاحها مستحيل، ومن عام 1993 نحن محرومون من الزارعة لا نفلح ولا نزرع، وهذا هو حالنا.
وكذلك إبراهيم الخلف الذي كان يملك 6 هكتارات في حلب قال: في عام 1992 غمر سد تشرين الأرض والمنزل بارتفاع 100 متر، فتم ترحيلنا إلى مسكنة، حيث أعطونا أرض مساحتها 450 متر لا تكفي لبناء منزل مع 5 طن اسمنت، وطن حديد.
بانتظار مشروع الرصافة
كما أن بعض الأهالي وقعت أراضيهم ضمن الحزام البيئي ولا يمكنهم الانتفاع منها، إذ يقول (أحمد المطر) من الرقة مدينة الطبقة: لدي 50 هكتار من الأرض، لكنها ضمن الحزام البيئي، ونحن ننتظر التعويض الذي يقال أنه سيتم مع تنفيذ مشروع الرصافة.
القعدة في الخيمة أرحم
أما (جمعة الجاسم من حلب - قرية بردى): في السنة الماضية 2004 وزعت مزرعة مساحتها 550 هكتار على الفلاحين للعمل، اعتمد في توزيعها على سندات الإقامة، ومعظم الذين حصلوا على الأرض غادروا المنطقة، وسكنوا في محافظات أخرى، بينما نحن نقيم في المنطقة منذ ثلاثين عاماً، وفلاحون أباً عن جد، ولم نحصل على أرض، حيث كان للرشاوى والدفع دوره في التوزيع.
أقيم في حلب وأسرتي مع أخوتي الأربعة وأسرهم في بيت واحد مؤلف من غرفتين، إضافة لغرفة تستخدم للطبخ والحمام، لذا القعدة في هذه الخيمة أرحم.
الرشوة علنية
وكذلك (يازي الحاج محمد- 51 عاماً ) التي يعدها العرب امرأة مثقفة، إذ تتابع الأخبار السياسية على المحطات الفضائية، استقبلتني في الزيارة الثانية في بيتها الذي جمع معظم العرب، تقول: عملت بواحة باسل الأسد شمالي الرقة من عام 1994حتى عام 1999، وفي عام 2000 الذين كانوا يعملون فيها أخذوا ثلاثون دنماً من الأرض، أما أنا فقد تركت العمل قبل يوم من موعد توزيع الأرض ولم أحصل على شيء، وكذلك زوجي الذي أمضى ستة سنوات من العمل، وتوفي على رأس عمله في الواحة لم يعوض.
عداك عن ذلك فقد دفعت يازي ستون ألفاً إلى أحدهم لتزوير هذا اليوم، لكنه أخذهم لجيبه دون فائدة، وتبرر ذلك بقولها: الرشوة في مدينة الرقة علنية في جميع دوائر الدولة، فالذي لديه واسطة أو مال حصل على أرض، والذي مثل حالنا أتى إلى دمشق للعمل.
(جوعانين نريد نعيش)
في حين أبو ابراهيم الموسى المقيم مع أسرته في جرمانا قال: من عام 1988 بدأت مياه سد تشرين بغمر أراضينا في حلب، منطقة منبج، وكانت أرحم قليلاً، وفي عام 1992 لم يبقى من أرضي التي مساحتها 12 هكتار والبيت شيء، أعطونا أرض بعلية في مسكنة مساحتها 500 متر لا تكفي لبناء بيت، فلم يدرس أحد من الأولاد لمساعدتنا في العمل، ماذا نفعل؟...(جوعانين نريد نعيش).
ومع أن أبو ابراهيم كان يعمل في أرضه مع أسرته ليلاً نهاراً، ويحافظ عليها كمحافظته على عرضه على حد قوله، يجد الآن صعوبة في العمل بالأجرة عند الآخرين.
تسع ساعات عمل في اليوم
الفقر والعوز والحاجة، والبحث عن لقمة العيش هي التي دفعت أهالي الغمر، وسواهم من الفلاحين الغير مالكين للأراضي إلى الوفود إلى ريف دمشق للعمل، ولكن من الذي يعمل؟!.... النساء هن اللواتي يعملن في الأرض والزراعة، ولا يقبل الرجال على أنفسهم القيام بعمل يعتبر "للنسوان"، فترى الفتيات يعملن خارجاً في الأرض، والرجال قاعدون ينتظرون عودتهن.
تقول (مها العيسى – 21 عاماً): مع بداية الشهر الرابع من كل عام حين تبدأ المواسم، آتي مع أمي وأختي إلى دمشق للعمل، ونبقى حتى الشهر العاشر، لنعود مجدداً إلى الرقة، ففي الشهر الرابع نعمل في قطف الفول والبازيلة، وفي الخامس والسادس في الحصاد وقطاف المشمش، ومن الشهر السابع حتى العاشر موسم قطاف القرنبيط والكوسا والبندورة والخيار، وعملنا بمعدل تسع ساعات في اليوم، من السابعة حتى الواحدة ظهراً، ومن الرابعة حتى السابعة مساء، وأحياناً طوال النهار عندما يكون مكان العمل بعيداً عن إقامتنا، ويصل دخل الواحدة منا لحدود 6000 ل.س.
أُجبرت على ترك المدرسة
وفي سبيل العمل يحرمن الفتات من التعليم، ففي أفضل الحالات قد يصلن في دراستهن للصف السادس، حيث تقول (حليمة - 25 عاماً): لم أدخل المدرسة أبداً بسبب الظروف المادية الصعبة، فنهارنا نمضيه في العمل بالأرض لنعيش، مع عملنا في المنزل.
وتقف مشكلة خروج الفتاة من المنزل أحياناً عقبة في وجه متابعة تعليمها، إذ تقول (مريم العلي-20 عاماً): بعد الصف السادس أجبرت على ترك المدرسة، لأن خروج البنات من البيت يعتبر عيباً بالنسبة للعرب.
نعمل مثل النمل
تحاول النساء استغلال فترة الموسم في الصيف على أكمل وجه، لضمان معيشة الأسرة في الشتاء، إذ تقول (هاجر الأحمد -50 عاماً): رغم عملنا الشاق والمتعب في الصيف، خاصة شهر الحصاد أصعب المواسم بالنسبة لنا، نحاول أن لا نضيع أي فرصة تأتينا للعمل، دون وجود أي يوم عطلة، فنحن نعمل مثل النمل نجمع أيام العطل للشتاء، وكل ما ننتجه في الصيف نصرفه في الشتاء حيث نقعد في منازلنا دون عمل.
تركت زوجي عند أهل الخير
أما (جواهر – 30 عاماً) فقد تركت زوجها الذي يعاني من إعاقة جسدية في الرقة، وأتت مع طفلها الصغير إلى دمشق للعمل إذ تقول: تركت زوجي المعاق عند أهل الخير يعطفون عليه، وأتيت مع أهلي للعمل، أضع طفلي الذي لم يتجاوز عمره العام عند أمي وأخرج للعمل، ماذا أفعل؟ لا يتوفر لدينا أي مصدر دخل، قدم زوجي طلب إلى الشؤون الاجتماعية والعمل للحصول على وظيفة منذ سنوات، وإلى الآن ما زلنا ننتظر.
مشكلة... لشراء قطعة ثياب، أو... دواء
جلسن بجانبي وأنا أستمع لشكاوى أهاليهن التي أخذت كل الوقت، وكان يبدو أن لديهن الكثير من الكلام، فهمست لهن بدخولنا إلى الخيمة.
تقول (راجحة – 20 عاماً): (لا فوته ولا طلعه من البيت ع الشغل ومن الشغل ع البيت)، نحن نخرج إلى العمل، والشباب يقعدون في الخيمة، ومع ذلك نعمل أكبر مشكلة إذا أردنا شراء قطعة ثياب، وعادة ما نشتريها من البالة، وإذا مرضت واحدة منا، تموت ليأخذوها إلى الصيدلية لتجلب دواء، وليس إلى الدكتور، وإذا أتاها خطابين أقل مهر يطلبونه 300 ألف ليرة، (لتطفيش) العريس، وتبقى تعمل عندهم.
تحت المطر والثلج في الشتاء
وتضيف (فضة - 23 عاماً): (من خلقنا يجيبونا ع الشغل)، نركض طوال الصيف، وأيام الشتاء تحت المطر والثلج، في مواسم السبانخ، ولم الحطب، وتجريس البقدونس، ولا نلحق أكل اللقمة، وأحياناً لا نأكلها. ومعاملة أهلنا معنا تتغير حسب العمل، ففي اليوم الذي نعمل فيه تكون جيدة، واليوم الذي لا نعمل فيه غضب الله ينزل علينا.
نتمنى الموت... من الملل واليأس
وبأسى تكمل فضة كلامها: إذا أردن الخروج لعند الجيران أو الوقوف مع شاب ممنوع، أما الطلعة مع (المعلمية) أصحاب العمل مسموح، مع أن تعاملهم معنا سيء، وأحياناً يسمعوننا كلام وسخ، فنضطر لترك العمل قبل انتهائنا منه، وعندها نأكل بهدلة من أهلنا، حيث يقولوا: (ليش ما تحملتوا لينتهي اليوم وتأخذوا أجرتكم)، ومن الملل واليأس نتمنى الموت، وكثيراً ما نفكر بالانتحار.
الإحساس بالغربة
ومع ضغط العمل والفقر والتعب يكون الحنين إلى الأهل والإحساس بالغربة قاتلاً، هذا ما عبرت عنه (أم أحمد)، لتضيف: عندما نُؤخذ إلى شغل صعب وبعيد عن مكان إقامتنا، كحوران وسعسع ودرعا والسويداء، ونمضي هناك طوال النهار متحملين عناء السفر، ومع تعب العمل وفقر الحال نتذكر أيام كنا نعمل بأرضنا ورزقنا بين أهلنا وناسنا، فنشعر بالقهر والظلم، ونتمنى أن ينتهي النهار بسرعة لنعود، وننام أحياناً دون عشاء من التعب والحزن.
زواج بالغصب
ورغم أن الفتاة هي التي تعيل الأسرة كاملة، وحياتها تمضيها في العمل وحسب، تفرض عليها عادات وتقاليد قديمة، إذ ما زال لابن العم صلاحياته الكاملة على ابنة عمه، وتخضع لحياة صعبة وخانقة على حد قول مها: الخروج من البيت ممنوع، وتترك الفتاة لدينا المدرسة لكي تبقى بالبيت، أو لتخرج للعمل، فإذا أرادت الواحدة منا حضور عرس يجب أن يلازمها أخوها، عداك عن العادات والتقاليد المفروضة علينا، فمن بعد الأب الأخ، ومن بعدهما ابن العم، وإذا أراد ابن العم الزواج من ابنه عمه هي له، حتى ولو بالغصب.
عمل الأرض خاص بالبنات
أما راجحة 21 التي كانت تقوم مع أخواتها عائشة وأمينة، بنكش ذات الأرض التي قمن بحصدها الأخريات، وقد زرعت بالباذنجان، لم يكن حالهن مختلف كثيراً، فقد قدمن من حلب، وأقمن مع الأسرة في بيت أجار في جرمانا.
تقول راجحة: عندما حصل الغمر كنت في الثانية عشرة من عمري فخرجت مع إخوتي البنات للعمل في قطاف القطن وحصاد القمح، إلى أطراف القامشلي ونهر الخابور، ولم ندخل المدرسة من أجل ذلك، حيث الاعتماد على البنت في العمل بالأرض، والشاب قد يساعدها أحياناً في السقاية أو النكش، إذ يعد العمل بالزراعة في مجتمعنا خاص بالبنات، لاسيما القطاف، فيجده الشاب ثقيل عليه، وإن رضي الشاب القيام به، أصحاب العمل لا يرضون، إذ يرغبون بالفتاة لهذا العمل.
لا تعطى ميراث
المرأة المحكومة بالعمل والشقاء في هذا المجتمع، والمحكومة بأكثر من ذلك بأحكام المجتمع وأعرافه الجارية، ففي الميراث لا يُقسم لها من تركة والدها، ومن لحظة خروجها من بيت أهلها إلى زوجها تعد ضيفة عليهم، على حد قول راجحة ( البنت لدينا ما لها ميراث، من طلعت من بيت أهلها تأتيهم ضيفة عليه).
عادات المجتمع تفرض على الفتاة عدم مطالبة أهلها بالميراث، فتجد الفتاة أن الزواج هو الحل الذي يستر حالها، خوفاً من بقائها بعد وفاة الأب والأم في المستقبل تحت رحمة أخوتها الشباب، إذ تضيف راجحة: (من تغيب عين الأم والأب، الأخ نائم مع عياله مو دريان بحالنا، السترة في الزواج).
بعهدة (زلمة)
وهذا ما أكده (أبو أحمد) والد راجحة، في جلسة من المصارحة والديمقراطية في طرح الآراء جمعتنا مع الأسرة في جرمانا، حيث قال: الفتاة لها حقها الكامل والشرعي في الميراث، ولكن في عادات مجتمعنا لا تعطى ميراث، ولا تطالب به، لأنها عندما تتزوج تصبح بعهدة رجل هو المسؤول عنها، فلا تأخذ من بيت أهلها لزوجها.
وإن لم تتزوج ألا يعطيها والدها قبل وفاته، أم تبقى تحت رحمة إخوتها الشباب ؟!... يقول: إذا لم تتزوج تبقى طوال حياتها بعهدة (زلمة) في إقامتها وأكلها في بيت والدها مع أخوها، أما أن يُسجل لها رزق فهذا غير وارد في مجتمعنا، إلا التي ليس لديها إخوة شباب.
ليروها مقتولة
وفي موضوع الطلاق قد تصل المرأة للموت أحياناً من ظلم زوجها، ولا تتمكن من طلب الطلاق خوفاً من أقاويل المجتمع، ولا يمكنها هي طلبه إن لم يتبنى الأهل ذلك، بعد التأكد من الظلم الواقع عليها، أما الرجل فبأية لحظة يمكنه أن يطلق، إذ تقول راجحة: خوفاً من كلام الناس، الأهل لا يمشون بموضوع الطلاق ليروها مقتولة أمامهم.
(ما بيطلعلها تطلب الطلاق)
ويضيف أبو أحمد: إذ حدث خلاف بين الزوجين وكانا غير متفاهمين، والزوج يريد أن يطلق، يطلق بشكل طبيعي، أما البنت (ما بيطلعلها تطلب الطلاق)، وحتى إذا أرادت الطلاق تخبر أهلها، فيبحثون ويتأكدون من الظلم الواقع عليها من الأصدقاء والجيران، فقد يكون لها علاقة مع رجل آخر، و(قاعدة تحط المشاكل) ليتأكد الجميع أنها مظلومة، واستمرارية الحياة معه مستحيلة، عندها نقعد مع كبير العشيرة، ويتخالص الزوجين دون محاكم.
زواج بالمقايضة
وأمام واقع المهور الغالية، فأدنى مهر 200 ألف ليرة سورية، وتصل لحدود 500 ألف ليرة سورية أحياناً، فقد تعمل الأسرة لسنوات لتجمع مهر أحد أبنائها إذ تقول مها:( نعمل جميعاً ولمدة عشرة سنوات لنجمع مهر ولد) يدرج زواج البدائل، حيث تكون العملية بالمقايضة، فتاة إحدى الأسر لابننا مقابل أخته، لأخو تلك الفتاة.
يغصب أخته على الزواج
وغالباً ما تكون تلك العملية على حساب الفتاة التي تُجبر في أحيان كثيرة على الزواج من رجل لا تريده إذ يقول أبو أحمد: إذا كان الأخ يحب إحدى البنات ولا يملك مهراً للزواج منها، ويوجد لديها أخ يريد الزواج يغصب أخته، ويضغط عليها لترضى به زوجاً، مقابل زواجه من الفتاة التي يريدها. ومع أن هذه الحالات كثيرة على حد قول (أبو أحمد) لكنه يعتبرها حالات فاشلة ولا تستمر للنهاية.
وتعدد زوجات أيضاً
ويبدو أن واقع المهور الغالية لا يلغي تعدد الزوجات لبعضهم، كحال (أبو حسن) ونسوانه الأربعة، الذي جمعهم في بيت واحد، مانحاً كل زوجة غرفة لها ولأبنائها، رغم فقر الحال. ويقال أنه حالياً يريد أن يتزوج الخامسة، لكنه محتار أي من زوجاته الأربعة يطلق.
(500 ) ألف مهر ...(لتطفيش العريس)
معظم الأهالي يدركوا تماماً الظلم الواقع على بناتهم، ولكنهم يجدون من المصيبة التي تعرضوا لها، وعدم وجود فرصة عمل، وفقر الحال والحاجة للرغيف مبرراً أخلاقياً طبيعياً حين يقفوا في وجه زواجهن ليبقين طوال حياتهن يعملن على إعالتهم.
إذ يقول ( محمد الجاسم): الذي يأتيه بنت لدينا يفرح، وينبسط كثيراً لتشغيلها في الأرض، وأحياناً يطلب الواحد منا ببنته مهراً يصل لحدود ( 500 ) ألف (لتطفيش) العريس، لتبقى طوال حياتها تعمل له، وعندما يصبح عمرها من فوق الثلاثين، تصبح عانساً لا أحد يرضى بها، كحال بناتي الستة اللواتي أصبح عمرهن من فوق الثلاثين، مع أنه أتاهن الكثير من الخطابي لكني لم أزوجهن، من أجل أن يبقين يعملن، ويأتين بالخبز للبيت.
هكذا وبكل وضوح كان حديثه وقد ختمه مؤكداً، برجاء بسيط : أرجو أن تأخذي لي صورة، وتكتبي تحتها اسمي، " أنا الظالم والمظلوم،... من الفقر" ، نحن ظُلمنا وبالتالي ظلمنا أولادنا.
(الأرض.... لا تسولف علينا، ولا نسولف عليها)
وبعض الآباء يجدون أن تعاملهم مع بناتهم أفضل من غيرهم، إذ يُعتبر عملهن في الأرض كرامة لهن، بينما البعض الأخر منهم يشغلون بناتهم في خدمة المنازل الذي لا يحفظ الكرامة، إذ يقول: عمل بناتي في الأرض فقط، ولا أسمح لهن كغيري بالطلعة لخدمة المنازل ولو أموت من الجوع، دخل 150 ليرة يومية من الأرض أفضل من 500 ليرة من خدمة العالم، كما أن عزة نفسنا وكرامتنا لا تسمح لنا بذلك، فأبسط الأمور هن يتعاملن مع التراب ( لا يسولف علينا ولا نسولف عليه).
بطالة الرجال
معظم الرجال لا تتوفر بيدهم أي مهنة تمكنهم من العمل، في حال توفر فرصة عمل، وأمام عدم قبولهم لعمل النساء في الأرض، وعدم رغبة أصحاب العمل بعملهم بالزارعة أصلاً، لم يكن وضعهم أفضل حالاً، فهم عاطلون عن العمل، يمضون نهارهم قاعدون في البيت، أو يتخذون من الساحات مكاناً يمضون فيه نهارهم على أمل أن يأتي أحد ليطلبهم لبعض الأعمال المتعبة، كأعمال البناء و(العتالة)... وغيرها.
يقول (محمود المبروك - 36 عاماً): أمضي نهاري حالياً في الساحة بدوما، يوم نلقى شغل وعشرة ما نلقى، وإن توفر العمل فهو شاق، كصب (الباطون بالتنكة)، أو الحمل والتنزيل (العتالة) على الطوابق العليا، لأنه لا يوجد بيدي أي صنعة، والذي يريد أن يتعلم مهنة يجب أن يكون قادراً على العمل مجاناً لدى صاحبها ليتمكن من تعلمها، وأنا متزوج ولدي أربعة أطفال يحتاجون إلى طعام، واليوم الذي أعمل فيه لا يصل دخلي لحدود 300 ليرة سورية.
العسكرية أرحم
أما (أحمد – 18 عاماً) الذي سيق مؤخراً لخدمة العلم، وجد أن العسكرية أرحم من حياته هذه، فأبسط الأمور الأكل والشرب متوفر، ولا يحمل هم المصروف.
(ما بتوفي معه)
وتذكر (أم أحمد) بحزن كيف سافر ابنها (علي - 23 عاماً) إلى العراق نتيجة عدم توفر فرص عمل للشباب هنا، إذ تقول: الشاب لا يستطيع القيام بعمل الأرض، فهو يحتاج إلى باع طويل وأخلاق هادئة، وإن رضي الشاب القيام به، أصحاب الأرض لا يرضون، إذ يرغبون بالفتاة لهذا العمل، كما أنه لا يرضى بأجرته القليلة (150) ليرة يومية (ما بتوفي معه)، خاصة وأن لديه زواج، وأقل مهر لدينا يصل لحدود 200 ألف ليرة سورية، عداك عن تكاليف العرس.
ثلاثة أطفال ماتوا بحوادث السير
وأمام هذه الظروف كيف يمكن أن يتخيل المرء حياة الأطفال، وقد وجدوا أمام الخيام، وعلى جانبي الطريق، متخذين من الزبالة وعلب النفايات والتراب ألعاباً لهم، وهم عرضة دائمة لحوادث السير، فحصيلة ضحايا هذا العام ثلاثة أطفال على حد قول الأهالي، دهسوا وهم يقطعون الطريق.
لتقعد مع أخوها الصغير
وكيف يمكن أن نتخيل تنشئتهم، فالأم التي تترك طفلها، قبل أن يصبح عمره ستة أشهر، وتذهب إلى العمل لتتولى أخته الصغيرة الغير قادرة على حمله مهمة تربيته، وقد تترك المدرسة للقيام بهذه المهمة ليدفعان الثمن معاً، كحال ( عايشة الجاسم – 12 عاماً) التي تركت المدرسة في الصف الخامس لتقعد مع أخوها الصغير الذي عمره سنة ونصف، لتتمكن أمها من الذهاب للعمل.
وعن رغبتها بالذهاب إلى المدرسة ببراءة أجابت: (كنت حابي روح على المدرسة من شان شوف رفقاتي، بس ما بحسن لأنه ما عندي مصاري أجار الطريق).
دفتراً وعلبة ألوان للرسم
أما (حلى الموسى - 13 عاماً) التي تعرف المدرسة من خلال كلام صديقتيها أمل وسميرة اللتان تدرسان في حلب، ومن خلال أولاد أخوها الصغار حيث كانت ترى كتبهم ودفاترهم وأقلامهم عندما يعودوا من المدرسة، ولاسيما دفاتر الرسم والألوان، فاشترت منذ عام دفتراً وعلبة تلوين وبدأت بالرسم بمفردها، وعندما كانت تراها أختها (أمينة – 14 عاماً) التي لم تدرس أيضاً تقول لها: (ما منه فائدة، تعب ع الفاضي، لمين بدك تشوفيهن، مين رح يدرى فيك) وبقيت مصرة على الرسم.
حلى التي أدهشتنا برسومها الجميلة تتمنى أن تدخل المدرسة، وتتابع دراستها، وبأسى تعبر عن غيرتها من صديقاتها اللواتي يدرسن.
مئة طفل في العرب بدون دراسة
هذا هو حال الأطفال في العرب بحدود المئة طفل قاعدون بدون دراسة على حد قول الأهالي، فالظروف المادية الصعبة تقف عائقاً في وجه دراستهم، وواقع تنقلهم بين محافظاتهم والمدينة، وأحياناً عدم وعي الأهل واكتراثهم لموضوع دراسة أبنائهم إذ تقول (عدلة الخضر- 14 عاماً): لم أدخل إلى المدرسة أبداً وكذلك أخوتي الخمسة، وتعزي والدتها السبب بأنهم لم ينتبهوا لهذا الموضوع.
حُرق شعرها بانفجار كهربائي
كما أن معظم الأهالي اعترضوا على وجود خزان كهربائي بجانب العرب، عرضة لأذية الأطفال الذين يلعبون بجانبه، وانفجاره بشكل دائم، إذ يقول جاسم العبد الله: بين بيتي وخزان التوتر العالي أربعة أمتار، ومنذ فترة حصل انفجار، واحدة من بناتي عمرها ثلاث سنوات حُرق شعرها، ونحن دائماً على أعصابنا من الخوف نتوقع انفجاره في أية لحظة، وحين قدمت طلب لفرع كهرباء دوما من أجل إزالته أو إيجاد حل للمشكلة، قيل لي إذ أردت إزالته عليك أن تزيله على حسابك الخاص، وتكلفة إزالته تصل لحدود 100 ألف ليرة سورية، أو ارحل من المكان.
هذا حال أهالي الجزيرة (المغمورون) حيث أطلقت عليهم هذه التسمية، حين غمرت مياه الفرات وتشرين بيوتهم وأراضيهم، لكننا نستطيع القول بأنهم مغمورون، ومنسيون، ومعزولون أيضاً، فمازالت عبارات: (ما حدى داري فينا)، (ما حدى مدحج علينا)، أو (ما حدى رايدنا) وقع صداها المؤلم في سمعي، وما زالت مشاهد الشقاء والبؤس التي لفت أسرهم تتراءى أمام ناظري في خيام كانت عنواناً لحياة التشرد واللجوء، فوق أرض وطن هو وطنهم، وتحت سمائه يعيشون لأنهم أحياء وحسب.
لتدفع ضريبة وجودهم في هذه الحياة ووجودها غالياً المرأة التي تتكفل بجلب رغيف الخبز للأسرة كاملة منذ الصغر، لتحرم من التعليم أبسط حقوقها ومن الزواج لتفني حياتها في العمل والشاق، في مجتمع تسود العادات والتقاليد فيه كقوانين شرعية ثابتة، تفرض أحكامها القاسية عليها في العمل والدراسة والزواج والطلاق والإرث وفي كل ما يتصل بحياتها، حين تتسع دائرة صلاحيات الرجل وسلطته على المرأة (كضلع قاصر) في مجتمع عشائري مغلق.
الجمل - ليلى نصر
إضافة تعليق جديد