نهاية الأسطورة: طفل يقتل ريتشارد قلب الأسد
قضى ريتشارد قلب الأسد أيامه الأخيرة، كما قضى السنين الأولى، في قتال مستمر وحروب وصراعات لا تنتهي، حاول خلالها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مملكته الفسيحة، التي فرّط بها شقيقه الخائن في غيابه، واستولى عليها فيليب ملك فرنسا، لكن آخر معاركه كانت أفضلها وأهمها، ونهايته كانت أغرب ما حدث في مسيرته، انتهت معها أسطورة أقوى ملوك أوروبا في العصور الوسطى، وأشهرهم بلا منافس.
التحذير الإلهي
في أحد أيام عام 1195، بينما كان ريتشارد يصطاد في الغابة مع حاشيته، قابله أحد الرهبان المتواضعين، الذي تحدث مع ريتشارد بشكل جريء وحذّره من الحياة التي يقودها، وأنه إذا لم يكف عن الفساد وإغضاب الرب، فسينزل عليه عقاب شديد، وسيموت موتة صعبة تليق بذنوبه، ابتسم ريتشارد ولم يولِّ أهمية لكلام الراهب، وأكمل ما كان فيه.
لكن الرد لم يتنظر طويلاً، حيث أصابه إعياء شديد ومرض عجز الأطباء عن مداواته، مما ذكّره بتحذير الراهب، فأسرع يستدعي الرهبان والقساوسة من كل مكان، وظل يعترف بخطاياه ويطلب مغفرة الإله، وسألهم كي يصلوا من أجله ويدعوا له بالغفران، ووعد أنه إذا قام من مرضه، فسوف يعود إلى زوجته ويكف عن المعاصي والفجور، وكان له ما أراد، فقد فارقه المرض وعاد معافًا، وذهب إلى زوجته وطلب غفرانها، وقضى باقي أيامه معها زوجًا صالحًا.
الحروب مع فرنسا
خلال الخمسة أعوام الأخيرة من حياته، كان ريتشارد في حرب مستمرة مع فيليب ملك فرنسا، لم يكف ولو لحظة عن كره فيليب وأراد الانتقام منه بأيّ شكل، وبالطبع شاركه فيليب نفس الشعور، فكان النزاع طويلاً ومدمرًّا، في العام الأول حقق انتصارات مبهرة، واستعاد مناطق كثيرة كان فيليب قد حصل عليها في غيابه، وبمساعدة جون، واستمرت الإنجازات الهائلة في العام الثاني، حيث أخضع Loches أحد اقوى المدن في ثلاث ساعات فقط، وأخذ منها 220 أسيرًا، حتى في المواجهة المباشرة الوحيدة بين الملكين، تمكن ريتشارد بذكاء وحنكة وخبرة السنين من محاصرة الفرنسيين والقضاء على خططهم، حتى وجد فيليب نفسه محاصرًا بكامل جيشه، فحاول إنقاذ سمعته بإرسال خطاب لريتشارد يتوعده بالحرب، يُقال إن ريتشارد رد بهدوء ووعد بالهجوم على منزله في باريس إذا لم يأتِ للحرب.
لكن فيليب أصيب بالذعر، فانسحب في اليوم التالي بخزيٍ وفضيحة، وطارده ريتشارد بضراوةٍ شديدة، ودمّر جزءًا كبير من جيشه، وحصل على كنوز عديدة بما فيها الخِتم الخاص بملك فرنسا، الذي هرب من الأسر بصعوبة بعد أن اختبأ في إحدى الكنائس الصغيرة على الطريق.
استمرت الحرب لثلاث سنوات أخرى، تمكن ريتشارد خلالهم من استعادة كل الأراضي المفقودة، وقام ببناء ما يسمى ‘Château Gaillard’، وهي قلعة ضخمة تعمل كمركز للحرب وتخطيط الهجمات تكلفت ما يقارب 12 مليار دولار حاليًا، بناها بالقرب من حدود مملكة فيليب، حتى أصبح الجنود الفرنسيين عاجزين عن الخروج من قلاعهم أو الاقتراب من قوات ريتشارد، وأيضًا مكّنته من شن هجمات مباشرة بأعداد كبيرة على فرنسا، وتمكّن بالفعل من الاستيلاء على بعض المدن حول المنطقة، وعندما حاول ملك فرنسا شن هجوم يرد به، سحقهم ريتشارد وطاردهم حتى قلعة Gisors القريبة من باريس، وبالكاد تمكّن فيليب من الهرب مرة أخرى، حتى اضطر للموافقة على معاهدة سلام في يناير 1199، تستمر لخمس سنوات، ويعترف بسلطة ريتشارد على كلّ الأراضي التي احتلها الأخير، لتظهر مرة أخرى وأخيرة عبقرية ريتشارد في ميادين القتال.
نهاية اسطورة قلب الأسد
لكن وفاة ريتشارد كانت من أغرب لحظات حياته على الإطلاق، تليق بوفاة ملك يطلق عليه “The Fairy Tale king” أو “ملك من قصص خيالية”.
خلال الحرب مع فرنسا، وصلته أخبار أو شائعات بعثور أحد الأشخاص على كنز، باب في الأرض يصل إلى غرفة مخفية، وضع فيها الرومان كنوزًا منذ مئات السنين، صدّق ريتشارد الشائعة واعتبر الكنز من حقه كونه حاكم المنطقة، فانتقل بجيشه وحاصر القلعة حيث الكنز المزعوم، وهدّد باقتحام القلعة وقتل من فيها لو لم يسلموه الكنز، ومهما حاول الجميع شرح أن كل ما عُثر عليه مجموعة من العملات القديمة، لم يصدق ريتشارد واستمر في الحصار.
على جدران القلعة، يُقال إنه كان شابًا صغيرًا أو طفلاً وربما أحد الفرسان، لا أحد يعلم بالضبط، رأى ريتشارد في الأسفل ليلاً يستكشف المكان، فقرّر إطلاق سهم تجاهه والقضاء عليه، لكنه فشل في التصويب، وأصاب كتفه إصابةً بسيطةً، لكن مع محاولات إخراج السهم من كتف الملك، ارتكب الأطباء خطأ طبيا، وتسببوا بانتشار عدوى في جسده، يُقال أن ريتشارد كانت آخر أوامره العفو عن الشاب، ووهبة قدر من المال، لكن ما أن مات ريتشارد، حتى قُبض عليه وتم إعدامه، ألا تبدو كقصة خيالية من إحدى الروايات؟
توفى ريتشارد قلب الأسد في 1199 بعمر ال 41 فقط، وتم دفنه بجوار والده هنري الثاني في Fontevraud، وانتهت معه مسيرة أحد أشهر الملوك في تاريخ البشرية، الذي امتدت شهرته إلى كلّ مكان بالعالم، ليترك إرثًا عظيمًا من الأعمال ومملكة ضخمة، لسوء الحظ تولاها شقيقه جون من بعده بعد أن قتل ابن شقيقه الأكبر، وأضاع كل شيء بالتدريج، حتى استحق لقب أسوأ ملك في تاريخ إنجلترا، بالرغم من مسيرة أخيه العظيمة.
ليكون الجزء الأكثر إشراقًا في شخصية ريتشارد هي مواهبه العسكرية، بالرغم من فشله الذريع ومصائبه كحاكم، لكن لم يصل أي رجل حتى في عصر القتال والفروسية، الشجاعة الشخصية والجرأة إلى نفس مستوى ريتشارد، وهذه الصفات أكسبته لقب قلب الأسد”Coeur de Lion”، كان يحب بشغف المجد العسكري؛ ولأن سلوكه في الميدان لم يكن كذلك أدنى من شجاعته، كان يمتلك كل المواهب اللازمة لتحقيق أهدافه على الأرض، وكان استياؤه عاليًا وكبرياؤه لا يقهر وغروره لا يعرف حدود، مما سبب له ولرعاياه وكذلك جيرانه المشاكل، بمشاهد متكررة من الدماء والعنف.
ويلاحظ أنه كان أول ملك من السلالة ملوك إنجلترا الفرنسيين الذي حمل له الناس أي احترام صادق لهم، مع أنه يعتبر من أسوئهم، فقد قضى ما يقرب من ستة أشهر فقط من حياته في تلك المملكة، وقضى في الحملة الصليبية قرابة ثلاث سنوات، وتم اعتقاله لمدة أربعة عشر شهرًا تقريبًا في الأسر؛ أما بقية حكمه إما في الحرب أو الاستعدادات للحرب ضد فرنسا، وكان في نيته الاستمرار في الحروب، والعودة لاستعادة القدس من جديد، لولا وفاته المفاجئة، لكن هكذا هو التاريخ “الصيت ولا الغنى”
المحطة
إضافة تعليق جديد