مملكة الموتى الأحياء
هناء فتحي:
هل نحن موتى أم أحياء ؟ هل ندرك أننا مِتنا و بُعِثنا للحياة مرات عدة؟ هل نجرؤ على الإعتراف للمقربين منّا بأننا ميتون و لسنا أحياء و أن ما بيننا هو حوار موتى و حياة موتى ؟
ستعِنّ عليك كل تلك الأسئلة كثيرًا و أنت تقرأ رواية ( مملكة الموتى الأحياء ) و لسوف ينتابك الهلع والرهبة والعدمية ثم اليقين بأننا جميعًا في الحياة موتى و أن ثمة حيواتٍ أُخَر و ميْتاتٍ كثيرة قد عشناها و أن القبور هدنة لقيامة الموتى فى الدنيا و إلى الدنيا
فى رواية الكاتب العراقي الكبير "برهان شاوي" (فندق باب السماء ) بجزئها الأول و المعنون ب ( مملكة الموتى الأحياء) والصادرة عام 2020 عن دار "النخبة "و المكونة من 640 صفحة: ثمة تيمة واضحة منذ الصفحة الأولى متماسكة متواترة متصلة لا تنفصل عن الموت و الجنس ، الموت والجنس و ليس الموت والحب كعادة تيمات الروايات بشكل عام ، إذ أنك ستلحظ كثيرا من الموت ، كثيرًا من الجنس في طوره الأول الذي يتشابه مع ذات الفعل امل الحيوانا والزواخف والطيور قبل اختراع (الرومانسبة) ،قبل اختراع اللغة و الكلام وقبل اندماج البشر مع الطبيعة و تماهيها مع الفنون و القراءات ، و التيمة المتواترة التي يطرحها الكاتب عن الموت هي :أننا نعيش الموت مدركين أننا ميتون و ناكل و نعمل و نسافر و نمارس فعل الجنس في جاهليته الأولى و نحنُ أمواتًا ،و نحاول تذكر اننا كنا احياء ، و نسعى كىّ نحل ألغاز موتنا وتفاصيل حياتنا و الشخوص المحيطة بنا حيث تنجلي الحقايق بسهولة و نحنُ موتى بينما تُضَبّبْ و تُغَيّم و تُلَغّزْ و نحنُ أحياء . نحن نتعرف على ذواتنا حين نموت و ليس العكس .
والتيمة التي يطرحها الكاتب بقوة عن "الجنس " لا تخرج من و عن إطار ما أطلق عليه البشر الأحياء في حيواتهم السابقات المرتبطة بالعقائد و بالتقاليد ب (زنا المحارم) ،فكل أبطال السرد في الرواية يمارسون زنا المحارم دون استثناء و بلا خوف أو خجل أو تانيب ضمير ، و لسوف نجد أن المرأة في كل الحيوات و في كل الميتات و مع كل أبطال تيمة السرد في الرواية هي مفعول بها و ضعيفة و مهمشة و تحملن و حدها الوزر الأخلاقي و الديني و العُرفي و الذكوري ، أما الرجل فهو خارج هذهِ المعادلة الظالمة .
في الرواية ستعرف أن كل الأبطال أسماؤهم "آدم" و كل البطلات أسماؤهن "حواء" في إشارة و تأكيد للمعنى الفلسفي و الوجودي الذي ذهب المؤلف على تأكيده و هي فكرة حلول الأرواح في أجساد تشبه أجسادنا التي ماتت ، و بنفس الأسماء و في ظروف أسرية و بيئية و لغوية و سياسية واحدة . لذا ستعتمد الرواية كثيرًا على الحوار و على "الخطابة " بمعنى تَدَخُل المؤلف فيما تتفوه به السنة الشخصيات ، ستجد القليل جدًا من السرد ، و الكثير من المونولوج ،ستقترب الرواية الى حدٍ ما من الجنس الأدبي لاكتابة المسرحية التي تقوم على الحوار و الجدل و المونولوج و ليس علىٰ الأحداث و على سرد و تطور الأحداث عن طريق نمو و تطور الشخصيات ، فنحن نقرأ تطور الأحداث بألسنة الشخوص وهي تحادث بعضها أو تحادث نفسها في مونولوج فلسفي و جودي طارحة أفكارها الدينية المختلفة و المخالفة .
"برهان شاوي "كاتب و مبدع عراقي كبير لذا ستدور أحداث الرواية في أرض العراق و فى زمنيّ : "صدام حسين" و (الإحتلال الأميركي ) للبلد العريق ، هُنا سنشاهد العديد من القتلى الأحياء :قتلى المعتقلات و قتلى الحرب الأميركية البريطانية على الشعب ، ستُعَذّبُ الأرواحُ كثيرًا و لسوف تفرُ في أجسادها الأخرى حاملةً نفس روحها المشقوقة و المتشظية و النازفة بلا براء ، لا براءَ للأرواح .
نعم تلك التيمة تم اللعب بها و عليها في أعمال سابقة وائمة و سينمائية ، حكتها أحداث الفيلم الشهير (The Others) بطولة نيكول كيدمان ، و لِمَ لا و قصة الفيلم مأخوذة عن الرواية الشهيرة(The Turn of The Screw ) أو (دورة اللولب) للروائي البريطاني الأشهر "هنري جيمس " التي كتبها عام 1898 و تحكي عن الموتى الأحياء بذات التيمة ، الا أنها لا تتطرق ولا تغرق في التحليل والتفاصيل والجدل حول الجنس و حول حلول الأرواح كما جاءت في رواية برهان شاوي . بمعنى أن ثمة تيمة عن الموتى الأحياء في رواية هنري جيمس ، بينما تصبح رواية برهان شاوي كلها تيمة وليست شذرات متناثرة عبر النص .
(فندق الموتى الأحياء) هو القبر في صورته المخاتلة بالرواية ، هو المكان الذي يلتقي فيه الميتون جميعهم بعد أن يغادروا أجسادهم ، و هو محطة الإنطلاق إلى حيواتْ أُخَر بنفس الإسم و العُمُر والسيرة الذاتية ، كلهم و كلنا : آدم و حواء .
مجلة روز اليوسف
إضافة تعليق جديد