“جيوبوليتيكال مونيتور”: إيران- أذربيجان.. حربٌ تلوحُ في الأفق
منى فرح:
بعد حرب كاراباخ الثانية، وهزيمة أرمينيا، أصبحت إيران أكثر عدوانية تجاه أذربيجان التي تعتبرها “جزءاً من الوطن ضلَّ الطريق، ويجب إستعادته”. بدورها، بدأت باكو في تضييق الخناق على كل من تشك في ولائهم لطهران، وأقامت شراكة إستراتيجية مع كل من إسرائيل وتركيا وتحالفت مع الغرب. ومع إشتعال التوتر بين البلدين يبدو أن الحرب بينهما باتت محتلمة، وفق تقرير “جيوبوليتيكال مونيتور”(*).
إيران هي إمبراطورية فارسية حديثة، حيث يمثل الأذربيجانيون ثُلث سكانها. وهناك أيضاً أقليات قومية أخرى بأعداد كبيرة. ومع ذلك، أصبحت أذربيجان حليفاً عريقاً لكل من روسيا وأرمينيا بسبب السياسة التي تتبعها إيران تجاهها. لطالما نظرت طهران إلى أذربيجان على أنها أرض إيرانية يجب إستعادتها، أو على الأقل يجب أن تكون ضمن نطاق نفوذها. وتعتبرها جزءاً من الوطن “ضلَّ الطريق، لكنه سيعود في يوم من الأيام”، (تماماً كما تنظر روسيا إلى أوكرانيا)، معتمدة بذلك على عوامل التاريخ والثقافة والديانة (الإسلام الشيعي). حرب كاراباخ الثانية خلال العقود الثلاثة الماضية، ولحين نشوب حرب كاراباخ الثانية في عام 2020، لم يكن نفوذ روسيا في القوقاز ليزعج إيران، ولا النزاعات المجمدة بطريقة مصطنعة في كل من أذربيجان وجورجيا. وهي كشفت أسلوب “المعايير المزدوجة” الذي تتبعه تجاه السلام الإقليمي من خلال دعم إحتلال أرمينيا لخُمس في أذربيجان والتظاهر بموقف “المتجاهل” لما يحدث، وهي “الشديدة الحساسية” إزاء التهديدات التي تطال وحدة أراضيها وأمنها الإقليمي. وبالطريقة نفسها، تدعم ضم روسيا لأراض أوكرانية. لذلك، تفضل كلٌ من إيران وروسيا، ومعهما أرمينيا أن تكون أذربيجان وأوكرانيا (المتحالفتين مع تركيا والغرب) ضعيفتين، وتبقيان كذلك. تتشارك إيران وروسيا الإهتمامات نفسها تجاه النزاعات المجمدة في المنطقة، من مبدأ أن إبقائها من دون حل يسمح لهما بمواصلة سياسة التقسيم والإحتفاظ بنفوذهما على منطقة القوقاز. فخلال حرب كاراباخ الثانية، غزَّت القوات الإيرانية الأراضي الأذربيجانية لفترة وجيزة. وكان الهدف الأساس إبقاء القوات العسكرية الأذربيجانية بعيدة عن الحدود الجنوبية، ومنعها من محاصرة القوات الأرمنية. لكن بعد الهزيمة العسكرية التي ألحقتها أذربيجان بأرمينيا، أصبحت إيران أكثر عدوانية، وشرعت تطلق التهديدات المتتالية، وتنظم مناورات عسكرية بالقرب من الحدود. كما أنها بادرت لتزويد أرمينيا وروسيا بطائرات مسيَّرة مقاتلة، إلى جانب توفير خدمات التدريب العسكري والدعم المالي والاستخباراتي للجماعات الإسلامية المسلحة في أذربيجان. بالمقابل، بدأت أذربيجان في تضييق الخناق على من تعتبرهم “خلايا شيعية متطرفة”، وطردت عدداً من رجال الدين الإيرانيين. ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2021، اعتقلت تسعة عشر شخصاً ينتمون إلى “حركة الوحدة الإسلامية” المحظورة، والتي تقول إن أفرادها يتلقون تدريبات عسكرية على يد قوات إيرانية في سوريا (…).
كذلك، كشف جهاز الأمن الأذربيجاني مجموعات خاصة، قال إنها تنشط عبر تطبيقات “واتس أب” ويديرها أذربيجانيون مقيمون في إيران، ومهمتها “تنفيذ تعليمات تتلقاها من المخابرات الإيرانية “والترويج لأفكار دينية راديكالية متطرفة، بهدف تغيير النظام”. وقال أيضاً إنه اعتقل خمسة أشخاص، “أعضاء في شبكة تجسس إيرانية“، تم تجنيدهم من قبل المخابرات الإيرانية لجمع معلومات حول المرافق الحيوية، ومنشآت الطاقة، ومراكز التدريب والأجهزة الأمنية، والمعدات العسكرية بما في ذلك الطائرات بدون طيار الإسرائيلية والتركية. ويؤكد جهاز الأمن الأذربيجاني أن طهران جنَّدت ضابطاً رفيع المستوى في أسطول نفط بحر قزوين، التابع لشركة النفط الحكومية (SOCAR) وذلك عندما كان يدرس في إحى الحوذات الدينية في مدينة قم الإيرانية. وأن هذا “القبطان جمع الكثير من المعلومات حول الشركات الأجنبية العاملة في أذربيجان، وأمكنة وأوقات التدريبات العسكرية للبحرية الأذربيجانية في بحر قزوين، والبضائع التي يتم تسليمها إلى منصات النفط البحرية”. تحالف غريب والواقع أن التحالف العسكري القائم بين إيران (التي تسعى إلى إعادة أذربيجان لدائرة نفوذها، وتثبيت حكم ثيوقراطي- شيعي فيها) وبين أرمينيا (البلد المسيحي) يُعد تحالفاً غريباً تم تعزيزه بثلاث طرق: الأول، عبر المساعدة التي تقدمها أرمينيا لإيران (ومؤخراً لروسيا) في التهرب من العقوبات الدولية. والثاني، هو العمل كـ”وسيط” في إمداد روسيا بالطائرات المسيَّرة والصواريخ الإيرانية التي تُستخدم اليوم لشن هجمات ضد أهداف مدنية أوكرانية. والثالث، الدعم الدبلوماسي الذي تقدمه أرمينيا لإيران في الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية الأخرى. لذلك، فرضت واشنطن عقوبات على عدد من الشركات الأرمينية، ووجهت لها تهمة “تشكيل شبكة عابرة للحدود” مهمتها تأمين المعدات والمعلومات التكنولوجية للمجمع الصناعي العسكري الروسي. وكانت شركة “ميلور للإلكترونيات” آخر شركة أرمينية تم فرض عقوبات عليها. الخوف من العزلة عدوانية إيران تجاه أذربيجان تزايدت بعد هزيمة حليفتها الوثيقة، أرمينيا، وكذلك بسبب الشراكة الإستراتيجية بين باكو واسطنبول، والتي تجلت في إعلان “شوشا” الصادر في حزيران/يونيو 2021. لذلك، تعمل إيران جاهدة لبناء تحالف وثيق مع كل من أرمينيا وروسيا، وربما الهند أيضاً، لمواجهة تركيا التي بدأت تفرض نفوذها في المنطقة بقوة، وفي الوقت نفسه إستعادة دورها في أذربيجان. فلم يكن بوسع إيران أن تغض الطرف عن الجانب العسكري في إعلان “شوشا”، الذي ينصَّ على أن “أذربيجان وتركيا في حلف مشترك، وأن البلدين على أتم الإستعداد للتصدي معاً لأي تهديد أو عمل عدواني من دولة ثالثة يطال استقلال أو سيادة أو سلامة وأمن حدود أي منهما” (…).
إذن، إيران غاضبة بشكل خاص مما تعتبره خسارة حدود مع أرمينيا، لذلك بدأ البلدان إيجاد طريق بديل يربط الشمال والجنوب جنباً إلى جنب مع الهند، كبديل لممر “زانجيزور”. لكن أياً من الطرفين لا يملك الإمكانيات المالية المطلوبة للإستثمار في مثل هذا المشروع الضخم. وعلى الرغم من أن ممر “زانجيزور” من شأنه أن يزيد من الفرص الاقتصادية والتجارية لها ولمنطقة جنوب القوقاز، فإن طهران تتعامل مع وجوده من منظور “جيوبوليتيك”، وتعتقد أنه سيقلّل من نفوذها كـ”حلقة وصل رئيسية بين مدينة ناختشيفان (450 كلم غرب باكو) التي تتمتع بحكم ذاتي والحكومة الأذربيجانية”. وأنه سيُفقدها كذلك دورها كـ”جسر وصل” بين تركيا ومنطقة آسيا الوسطى، وبسببه لن تكون إيران بنفس القدر من الأهمية بالنسبة لروابط النقل بين الشرق والغرب. أضف إلى ذلك، أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي تُعد أرمينيا عضواً فيه، وأبرمت معه إيران اتفاقية تجارة حرة، سيصبح أكثر عزلة. الجدير ذكره هنا أن إيران تعتبر أرمينيا “بوابتها” إلى روسيا وإلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. بينما تعتبر تركيا “منافساً قوياً” يزاحمها على النفوذ في آسيا الوسطى. وترى أن ممر “زانجيزور” سيوفر لأنقرة طريقاً بديلاً إلى قلب آسيا الوسطى من دون الحاجة للمرور في الأراضي الإيرانية. وهناك أيضاً الصين، الأكثر قوة اقتصاياً ومالياً، والأكثر قدرة على بسط نفوذها في آسيا الوسطى. وبذلك تكون روسيا هي الخاسر الأكبر في المنطقة. ففي الواقع، يشبه ممر “زانجيزور” مشروع ممر النقل بين أوروبا والقوقاز وآسيا(TRACECA) التابع للاتحاد الأوروبي. ويشبه أيضاً مشروع النقل على طريق الحرير بين تركيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى الذي تم تحديده في تسعينيات القرن الماضي. ومن القضايا الأخرى التي تعتبرها إيران تهديداً مباشراً لها هي “الشراكة الإستراتيجية” التي تقيمها أذربيجان مع إسرائيل (…). فإيران مقتنعة؛ دون إظهار أي دليل؛ بأن عمليات الاغتيالات التي طالت عدداً من كوادرها العسكرية والأمنية والعلمية (وفي مقدمتهم اللواء قاسم سليماني وعلماء نوويين) قد نفذتها عناصر إستخباراتية إسرائيلية تعمل من داخل الأراضي الأذربيجانية. لكن باكو تنفي ذلك. استثمار الحرب في أوكرانيا منذ أواخر آب/أغسطس، بدأت إيران (وبشكل شبه علني) بتزويد روسيا بطائرات حربية مسيَّرة وصواريخ، تأكيداً على توثيق “تحالف” تم تشكيله على أسس العداء المتبادل للغرب ولما يُسمى بـ”العالم أحادي القطب”. فإيران ستكسب في النهاية، سواء انتصرت روسيا في أوكرانيا (لأن هذا يعني أن “العالم أحادي القطب” لن يبقى موجوداً)، أو انهزمت، لأنها يمكن أن تأخذ مكان روسيا كقوة عُظمى رائدة.
تشكل كلٌ من إيران وروسيا عقبتين أمام السلام والتنمية الاقتصادية في منطقة جنوب القوقاز. وهما لن تكونا راضيتين إذا ما وقعت أذربيجان وأرمينيا معاهدة سلام بوساطة أوروبية. لذلك هما تفضلان أن تستمر “المفاوضات الوهمية”؛ كما حدث على مدى العقود الثلاثة الماضية. وفي الوقت نفسه يركزان جُلَّ اهتماماتهما وجهودهما لمراقبة تركيا، التي يتزايد نفوذها في المنطقة، والدليل كيف وظَّفت دبلوماسيتها بشأن تجارة الحبوب المحظورة من أوكرانيا في بيع المزيد من الأسلحة، لتكون المستفيد الأكبر من الحرب في أوكرانيا. إن الدعم العسكري الذي تقدمه إيران لروسيا اليوم، ما هو إلا استمرار لسياستها الأمنية المتبعة منذ ثلاثة عقود: الجمع بين الكراهية للغرب والانتهازية الاقتصادية. فهي تتصرف وفق قناعة قائمة على أنها ستكسب سواء هُزمت روسيا أو انتصرت في حربها ضد أوكرانيا. بدورها، تفضل أرمينيا (التي تتمتع اليوم بنظام ديموقراطي بعد وصول نيكول باشينيان إلى السلطة قبل أربع سنوات) أن تتبع أسلوب المناورة الإستراتيجية مع طهران، بدلاً من أن تستغل فرصة هزيمتها العسكرية لتأمين السلام والتقدم الاقتصادي. وهي ترى أن توقيع معاهدة سلام مع أذربيجان سيخدم مصالحها الوطنية، وأن استمرار التحالف العسكري مع إيران وروسيا هو مجرد وصفة لعقود أخرى من الركود والهجرة والعلاقات التوترة مع الغرب.
180Post
إضافة تعليق جديد