مآخذ على منظمة الصليب الأحمر
قد تفعل "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" الكثير أو القليل عندما يتعلق الأمر بانتهاكات يرتكبها موظفون أو مسؤولون حكوميون من دول العالم الثالث. ولكن عندما يتعلق الأمر بانتهاكات ترتكبها الولايات المتحدة، فان الشيء الرئيسي الذي يمكن توقعه من هذه المنظمة "الانسانية" المزعومة هو: الصمت والخَرَس.
لماذا؟
1- لانها تخدم أغراض القوى العظمى التي تقف وراءها، لا حماية الضحايا، فتصمت على ما تراه من إعمالهم بزعم ان ميثاقها يلزمها على عدم الكشف عن الانتهاكات؛
2- ولانها منظمة تستطيع التعايش مع عار الفضيحة، من دون ان تقدم عونا فعليا لضحايا أعمال التعذيب والإغتصاب ينجيهم من تكرار الجرائم التي ترتكب ضدهم؛
3- ولانها منظمة تختار بنفسها ما تريد ان تراه؛ لا تقبل لوم أحد، ولا تعتذر لأحد، وفوق ذلك، تضفي على عجزها نوعا من القدسية تستمدها، بالضبط، من آلام ضحايا لا تريد لأي أحد ان يراهم، ليظلوا هناك، في عتمة السجون، يتعرضون لكل ما يتعرضون له من دون أمل بالخلاص.. دعك عنك معاقبة المجرمين.
فاذا ما بدا ان التقارير السرية التي تعدها هذه المنظمة، لا تغير شيئا في أوضاع الضحايا ولا تحد من الجرائم التي ترتكب ضدهم، أفلا يكون من الجائز التساؤل: ما نفع وجود منظمة خرساء، عرجاء وفي عينها عَوَر؟ وبطبيعة الحال، فان هذه المنظمة لن تتردد في الرد على جميع منتقديها، بلسان سليط أحيانا، الا انها لا تفعل الشيء نفسه تجاه مرتكبي الجرائم. فهؤلاء انما يدخلون في دائرة الحماية والسرية.
ولكن، لا بد من تمييز ضروري. فهذه المنظمة شيء، وموظفوها شيء آخر.
الصليب الأحمر الدولي، كمؤسسة، انما تمارس سياسات تستر أقل ما يقال فيها انها سياسات تجعلها منظمة خزي وعار دولي حقيقي. وهي اذ تنتصر للصمت بزعم انها تريد ان تحافظ على حقها في الوصول الى الضحايا، فانها لا تستطيع ان تفسر سبب الحاجة للوصول الى الضحايا اذا كان لا يمكنها انقاذهم من تكرار الجرائم التي ترتكب ضدهم.
مع ذلك، فلكي لا تجعل هذه المنظمة من عَوَرها، عمىً خالصا، فانها غالبا ما تكتفي بـ"الاعراب عن القلق" عما تراه، قبل ان يصيبها الخَرَس.
أما موظفو الصليب الأحمر فانهم ضحايا، كغيرهم، لسوء السياسات التي تتبعها منظمتهم. فهم يعملون في هذه المؤسسة بدوافع انسانية نبيلة، ولكنهم غالبا ما يجدون انفسهم عاجزين عن فعل أي شيء خارج القواعد الصارمة التي تفرضها المنظمة عليهم. ويستطيع المرء ان يفترض انهم ربما كانوا يتعرضون للتهديد بالطرد والمحاكمة اذا قالوا أو فعلوا شيئا ينزع السرية عما يرونه من انتهاكات.
لقد رأى صليب التواطؤ الأحمر الكثير من الجرائم التي ارتكبت ضد سجناء أبو غريب، وهي ما تزال ترى ما يرتكب من أعمال قتل وتعذيب وإغتصاب ضد عشرات الآلاف من الضحايا الذين ما يزالون يقبعون في سجون الاحتلال في العراق، وسجون المليشيات الطائفية التي تدير مراكز التعذيب والتحقيقات وتشرف على "فرق الموت"، الا انها لم تكشف أبدا عما رأته من قبل، ولا عما تراه الآن.
وما تزال ترتكب الكثير من اعمال التعذيب في السجون السرية لوكالة المخابرات المركزية الاميركية، او سجون الدول التي تقوم هذه الوكالة بترحيل الضحايا اليها، الا أن احدا لا يعرف عنهم شيئا، او ما اذا كانت التدخلات السرية للمنظمة سمحت بوقف الأعمال التي يتعرضون لها.
ولا حاجة لذكر أي شيء عن ضحايا معتقل غوانتانامو. فهؤلاء عالقون في وسط نفق مظلم، في فضاء مثالي لانعدام القانون، لا هم يعرفون متى يطلق سراحهم، ولا هم يعرفون من اجل ماذا، وبناء على أي دليل، يتم وضعهم في ذلك المُنعَزَل المخيف.
في فبراير/شباط 2004 اعدت المنظمة تقريرا عن الانتهاكات التي يمارسها جانب من قوات الاحتلال ضد المعتقلين العراقيين، ولكنها قدمته الى... قوات الاحتلال، لتجعل منها "الخصم والحكم" في آن واحد.
لم يسمع احد آخر بتلك الانتهاكات، ولم تجد قوات التحالف نفسها في وضع تضطر فيه الى وقفها. فالتقرير الذي قدمته المنظمة بقي سرا، حتى ليبدو انه قُدم ليس من اجل الضحايا الذين ظلوا يعانون من اعمال التعذيب وهتك الاعراض والقتل، وانما من اجل تنبيه الجاني الى ان قواته تمارس، حسب وصف المنظمة نفسها، "انتهاكات خطيرة للقانون الانساني الدولي"، مما يستدعي "الاهتمام والتصحيح.. اتساقا مع التزامات القانون الدولي".
ومن الواضح، وفقا لهذا السياق، ان غاية السرية كانت حماية قوات الاحتلال مما تفعله، وليس بالضرورة حماية الضحايا انفسهم.
ابعد من ذلك، فقد اعترفت المنظمة بانها تمكنت من توثيق الكثير من تلك الانتهاكات، وقالت انها "وفي بعض الاحيان تمت مشاهدتها عيانا اثناء زيارات للسجون والمساجين المدنيين وآخرين تحت حماية اتفاقية جنيف ما بين مارس/اذار ونوفمبر/تشرين الثاني 2003. وشملت تلك المشاهدات، في ما يبدو اعمالا من قبيل التعذيب النفسي والجسدي و"تعرض المقبوض عليهم لاعمال خطيرة على حياتهم"، و"احتجاز المقبوض عليهم في أماكن خطيرة حتى يكونوا معرضين للقصف"، و"الاستخدام المفرط للقوة مما يؤدي الى الوفاة او الاصابة اثناء فترة الاحتجاز."
والسؤال الذي لا بد ان يواجه كل ذي ضمير هو: كيف يمكن الصمت على أعمال كهذه؟ وكيف يمكن ابقاؤها سرا؟ وهل من قلب انساني واحد، في اربع زوايا الأرض، يمكنه ان يطيق صبراً على اعمال كهذه لنصف ساعة؟ فما بالك بالصمت لسنة أو أكثر؟
ولكن المنظمة لم تتحدث عن هذه الأعمال الا بعد ان كشف عنها ضابط في الجيش الاميركي (هو الجنرال انطونيو تاغوبا)، أصيب بالصدمة لما رأى. المنظمة حسب ذلك الاعتراف المروع ظلت تراقب تلك الانتهاكات على طول الفترة بين مارس/آذار ونوفمبر/تشرين الثاني عام 2003 من دون ان تكشف عن تلك الاعمال. وعندما حان الوقت لتقديم تقريرها في فبراير/شباط 2004، احتفظت به سرا.
ويمكن القول انه لو لم يتم الكشف عن تلك الانتهاكات من جانب قوات التحالف نفسها، لكانت المنظمة واصلت سياسة الصمت ذاتها تجاه الجريمة.
ولا شيء يدعو للعجب، فالانتهاكات ظلت تتواصل في العراق وغوانتانامو وفي الكثير من السجون التابعة لوكالة المخابرات المركزية، بما فيها السجون الخاضعة لسلطات حكومية تأتمر بأوامر الـ"سي.آي أيه"، من دون ان تكشف "الصليب الأحمر" عنها شيئا.
يثير هذا الموقف أسئلة كثيرة تضع مصداقية المنظمة على المحك: من هو الطرف الذي تقصد المنظمة خدمته أولا، أضحايا التعذيب، ام مرتكبيه؟ ثم لماذا تقوم منظمة يفترض ان اغراضها محض انسانية بتقديم تقرير سري عن الانتهاكات تصل الى حد القتل؟ وهل تعتبر الصليب الاحمر الدولي نفسها فرعا من فروع البنتاغون لكي تقدم تقاريرها اليه؟ ولماذا لم تجعل المنظمة تقريرها متاحا للأمم المتحدة او للدول الاعضاء في مجلس الأمن؟
وما الذي يلزم منظمة انسانية ان تواصل الصمت على انتهاكات تتكرر بعد ان تكون أعربت لمرتكبيها عن "قلقها الشديد" سرا؟ وحتى مع ابقاء تقارير المنظمة سرية، فلماذا لا تواصل المنظمة الضغط على الحكومات المعنية لوقف تلك الجرائم، طالما انها تنطوي على انتهاكات "خطيرة" للقانون الدولي؟
والحال، فان التقارير السرية التي تقدمها الصليب الأحمر ما تزال تسمح للحكومات المعنية (كما حصل بالفعل بالنسبة للولايات المتحدة وبريطانيا) بالزعم بانها لم تطلع عليها.
ان المؤدى العملي الوحيد للسرية هو استمرار الانتهاكات.
بابقائها ما تعرفه عن الجرائم سرا فان "الصليب الأحمر" يخذل الضحايا، كما يخذل نفسه، ويهزم مصداقيته ويسيء الى اغراضه الانسانية المزعومة، حتى ليجوز التساؤل عما اذا كانت المنظمة تستحق ان تلعب دورا في العراق او في أي مكان آخر.
لقد آن الأوان لحل هذه المنظمة ووقفها كليا عن العمل، وذلك طالما انها تمارس أعمالها كشريك موضوعي لمرتكبي الجرائم والانتهاكات ضد حقوق الإنسان.
لقد آن الأوان لايجاد منظمة انسانية دولية تضع حقوق الضحايا فوق كل إعتبار، وتعتبر حمايتهم واجبا مقدسا، وتجرؤ على ان تكشف الجريمة وتلاحق مرتكبيها حتى ولو كانوا زعماء وقادة ووزراء في "دول عظمى".
لقد آن الآوان لإيجاد منظمة تفرض لنفسها الاحترام بملاحقة الكبار قبل الصغار؛ منظمة تقول: كفى يعني كفى. لا أحد بحاجة لمنظمة "تعرب عن القلق" بخجل.
ولا أحد بحاجة الى منظمة خرساء، عرجاء وفي عينها عَوَر.
ان استمرار بقاء منظمة كهذه هو نفسه عار دولي؛ وهو نفسه دليل على الخذلان والشلل والمذلة حيال مجرمين ما يزال من الضروري ملاحقتهم.
إفعلوا شيئا لوقف منظمة العار الدولي هذه عن العمل لحساب مرتكبي الانتهاكات.
علي الصراف
المصدر: ميدل إيست أونلاين
إضافة تعليق جديد