"صارخون" فيلم امريكي عن غضب الابرياء والمصالح المجرمة

يأتي الفيلم الوثائقي "صارخون"، للمخرجة الاميركية من أصل أرمني كارلا غارابيديان، تتويجاً لسلسلة أعمال وثائقية تناولت فيها جرائم ضد الانسانية حصلت في الشيشان أو كوريا الجنوبية أو ايران. هذه السينمائية الشابة التي سبق أن عملت مراسلة ومذيعة في كلّ من "أن بي سي" و"بي بي سي"، تنطلق هنا من قضية المجزرة الارمنية، أو ما يُعرف بأولى مجازر القرن العشرين، ذاهبةً صحبة فرقة موسيقية أطلقت على نفسها اسم "سيستام أوف اي داون"، لتلفّ العالم وتعيد صوغ مفهوم الابادة والمجزرة والتطهير العرقي، في ظلّ معطيات السياسات الجديدة، وهذا كله تسنده موسيقى الروك الصاخبة الى الفرقة المذكورة. في هذا المزيج المبهر الذي يتشكّل من "الفنّ الهادف" والملتزم والداعي الى الثورة والعصيان والانقلاب من جانب، والتحريض على القتل والعنف والبطش واستخدام القوة في سبيل الغطرسة من جانب آخر، يولد هذا العمل الذي يلملم شهادات شرقاً وغرباً في منحى تلقيني الى حدّ ما، لكنه مفيد وغير مدّعٍ.
تقتفي كاميرا غارابيديان خطى أعضاء فرقة الروك هذه، وهي فرقة ولد بعض اعضائها في لبنان قبل أن يهاجروا خلال طفولتهم الى الولايات المتحدة. نراها تصوّر الصرخة التي تخرج من حناجرهم وآلاتهم الموسيقية، غضباً بركانياً يحتوي على الكثير من الالم. لكنه غضب نظيف، غير ملطخ بأهداف سياسية أو عقائدية أو دينية. انه غضب علماني يطالب بإحقاق العدالة.
مقاربة المخرجة، رغم تورطها الاخلاقي العميق في الموضوع وقربها منه، تظلّ متماسكة ومقنعة على أكثر من صعيد: بصرياً، وجوهرياً، وتوليفياً. لكن الخيار الصائب في الفيلم، وفكرته الموفقة، يكمنان في واقع الانتقال من حادث واحد (الابادة الارمنية) الى مجموعة من الحوادث لا تلبث ان تكشف الترابط التيماتيكي في ما بينها. ثمة سؤال خفيّ في البدء يتعزز حضوره كلما اقترب الفيلم من نهايته: في عصر الفضاء المفتوح، ومع كل ما تملكه الانسانية من قوّة في كشف المستور، لماذا لا يزال المسؤولون عن هذا العالم يتغاضون عن المجازر والابادات التي ترتكب، ولماذا ينجو القاتل دوماً بفعلته؟ بيد ان الجواب عن هذا السؤال، سيكون تدريجياً، وستُمنح أجزاء منه، حتى الوصول الى الاستنتاج الآتي: المصالح والحسابات السياسية هي التي تتحكم بالعالم، لا القيم الاخلاقية والانسانية السامية.
من المجزرة الارمنية التي ذهب ضحيتها مليون ونصف مليون شخص، الى المحرقة اليهودية التي أودت بحياة ستة ملايين، مروراً بالمذابح الجماعية في كلّ من البوسنة وكمبوديا ورواندا وكوسوفو ودارفور وسواها من المذابح التي ارتكبتها أيدي صدام حسين أو "الخمير الحمر"، ينهمك الشريط في تعداد الضحايا من دون بكائيات لا تعيد الاموات من مقابرهم.
اللافت أن ما يجمع هذه الجرائم الفظيعة (والفيلم لا يبخل بالصور التي تظهر وحشيتها) أن مرتكبيها لم ينالوا عقابهم، وحتى ان البعض منهم، ولا سيما أدولف هتلر، اتخذ من الابادة الارمنية والنسيان الذي تعرضت له مثالاً يحتذى كي يؤسس لمحرقته، اذ قال قبل الشروع في جريمته: "من يتذكر الابادة الارمنية؟".
اذاً، ليس الفيلم محض تأليه أو تبجيل رومنطيقي بائس، على طريقة بعض الافلام الفلسطينية، لقضية محقة، أي المجازر الارمنية التي لا تعترف بها الدولة التركية، انما دراسة معمقة لفهم ما الذي يمنع الحكام والقادة الكبار من الحدّ من ظاهرة المجازر وصولاً الى عدم حصولها.
أسئلة كثيرة أساسية لفهم خلفيات المجازر المرتكبة في حقّ مدنيين أبرياء وعزّل، تجيب عنها عشرات الشهادات، من اساتذة جامعيين (سامانتا باور) وكتّاب وصحافيين وكذلك شهود عيان وناجين. بيد ان الشهادة الاكثر شخصانية وتعبيراً عن الالم المخزون والحرمان، هي تلك التي يدلي بها الجيل الثالث من الارمن المنصهرين في مجتمعات جديدة أنصهاراً كاملاً، وهذا الجيل تجسده هنا فرقة "سيستام أوف اي داون" بأعضاء يملك كلّ منهم أجداداً إما نجوا وإما قتلهم البرابرة في تصفيتهم العنصرية - الدينية التي كان يخطَّط لها بصمت ونجحت نتيجة تواطؤ أطراف عديدين.
يشرح الفيلم كذلك مسؤولية الدول العظمى في هذه الجرائم، ويتطرّق الى الادارات الاميركية المتعاقبة التي لا تأتي على ذكر هذه المجازر الا عندما يكون لها مصلحة ما في ذلك.
لا تعضّ غارابيديان على الجرح بل تسمّي الاشياء بمسمياتها وترينا كيف ان جورج بوش الاب وأعضاء ادارته كانوا متواطئين مع صدام حسين في ضربه للاكراد في حلبجة بغاز السانيت (لأن من يسكت على جريمة يشارك فيها)، ثم كيف راحوا ينبشون ماضيه باعثين دونالد رامسفيلد ليزور اهالي الضحايا هناك، وذلك عندما تبدّل موقفهم من الديكتاتور العراقي. واذا كان صحيحاً ان الفيلم لا يعجّ بمستندات كبيرة تثبت تورط هذا أو ذاك (ليست غارابيديان مايكل مور على الاطلاق ولا تملك حس الدعابة الذي يملكه صاحب "سيكو")، بيد ان "صارخون" يؤكد، اذا كان ثمة حاجة لذلك، أن الاعتراف بالمجازر وادانتها لا يزالان رهن المدّ والجزر السياسيين ومآرب المتعطشين للسلطة والمال، عرضة لاستغلال سياسي بغيض.
لا يكتفي الفيلم بشهادات بليدة من الارمن، بل يأتي ببعض ما يفسّر الاعتراف الخجول وغير الحاسم للادارة الاميركية بتلك المجازر، نظراً الى علاقتها بتركيا ومصالحها معها. في الانتقال الى الضفة الاخرى، ضفة الدولة التركية، التي ترفض حتى ذكر كلمة "إبادة"، نكتشف ان القمع هو سيد الموقف، وهو يمارَس حتى على أورهان باموق، الحائز جائزة نوبل للآداب. في هذا السياق، كم مؤثرة هي المقابلة مع الصحافي هرانت دينك الذي قتل على يد متطرف تركي، في مطلع العام الحالي، بعدما أثار قضية الابادة.
في موازاة الشهادات الديبلوماسية لأصحاب النفوذ في اقرار القوانين والتشريعات، من أمثال البارون كوكس واللورد شانون أو تشالرز تانوك، هناك أيضاً شهادات لأعضاء الفرقة، وهي كلمات أكثر عفوية من غيرها، وخصوصاً في اسلوب إدانة السياسة الاميركية التي يصعب عليها التلفظ بكلمة "مجرزة".
تقنياً، الفيلم مشغول على نحو جيّد، لكن في مرحلة أولى منه، تكثر القفزات والذهابات والايابات الخاطفة بين مختلف الشخصيات على نحو يشوش التفكير، وخصوصاً انه مصحوب بموسيقى روك صاخبة. هذا الضجيج الصوتي لا يلبث أن يتحوّل الى تلوث سمعي، تتيه فيه معاني الكلمات.
ثم ان القالب متين، والتقاط المشاهد بهيّ الصنع، علماً ان من جملة الاشياء المزعجة التكرار السلبي للخطاب في الثلث الاخير للفيلم، أو ترتيبه في سياق غير مناسب، وهذا ما جعل البنية التأليفية هشّة بعض الشيء. مأخذ أخر كان للبعض ازاء هذا الفيلم، هو الامتناع عن ذكر المجازر التي ارتكبتها اسرائيل في حقّ الشعبين الفلسطيني واللبناني. وهذا يفتح باب السجال وسيعاً، لأن غارابيديان أظهرت اليهود كضحية اثر تعرضهم للمحرقة، وكأميركية تريد لفيلمها انتشاراً واسعاً، كان من المحرج بالنسبة اليها أن تضيء على هذا الجانب وكيف تحولت الضحية الى جلاد. هذا الموضوع، لو نوقش، كان منح الفيلم بعداً جديداً، وخصوصاً ان غارابيديان لا تفعل الا ملامسته ومداعبته من بعيد، عبر وصلات توليفية توازي بين الموسيقى فناً محرضاً ومستفزاً، والطبيعة البشرية القادرة على الافضل والاسوأ، على الصراخ والسكوت. علماً ان صراخ الابرياء لا تسمع قافلة المصالح المجرمة...

هوفيك حبشيان
المصدر: النهار