أقنعة الثقافة العربية
تتناول منى فياض في كتابها "اقنعة الثقافة العربية" الصادر حديثا عن "دار الثقافة" المصرية ضمن "سلسلة العالم العربي والغرب"، جملة مسائل تتصل بالذهنية العربية السائدة واثرها في قضايا الثقافة والقيم العربية والسلوك الاجتماعي الغالب في المجتمعات العربية، حيث يشكل النمط السائد للذهنية العربية همّا اساسيا ومدخلا لفهم القضايا الملحة التي تعصف بالعقلية العربية السائدة .
تسود المواطن العربي ذهنية الانشداد الى الماضي والتقوقع داخل اسواره. فالمرحلة الاولى من العصور الاسلامية وعصور الازدهار الاولى تمثل للعربي ذروة الشخصية العالية المستوى التي تمكّنه من مقارنة متقاربة للتقدم الحضاري السائد في المراحل الراهنة من تطور المجتمعات العالمية. تشكل الاقامة في الماضي مقوما اساسيا في الذهنية العربية، وتكمن خطورتها في أن العربي يستخدمها للتغطية على واقع تخلف العرب وخروجهم المتوالي من التاريخ. يداري العربي عقدة نقصه برمي الاخر الغربي بموروثات الحضارة الاسلامية ومسؤوليتها عن تطور الغرب الحضاري، بدلا من ان يكلف نفسه الاجابة عن السؤال المطروح دائما وبقوة عن سبب اقامة العرب المتواصل في التخلف والاستبداد والعجز عن مواكبة التطور الحضاري للبشرية. وبالنظر الى سيادة هذه الذهنية، يبدو المواطن العربي كأنه يعيش نمطا واحدا من الحياة والتفكير هو انعكاس لنمط النظام العربي السائد وحدانيته واستبداده. الاسوأ من ذلك هو الشعور بعدم جدوى المطالبة بتحسين الحياة وعدم الفائدة من العمل السياسي او النضال في سبيل التغيير بعد كل التجارب التي شهدها العالم العربي. انه الاحساس المتفاقم باليأس والاحباط والخوف، وهي عناصر شعورية يكفي واحد منها لتحطيم الشخصية البشرية، فكيف والحال العربية تجمع هذه العناصر الثلاثة معا.
تحاول فياض ان ترصد النتائج السلبية لهذه الذهنية العربية على مستوى سياسي واجتماعي ابعد. يصدمها المآل الذي انحدرت اليه الدولة في العالم العربي. فبعدما شكّل قيام الدولة مظهرا من مظاهر مرحلة الاستقلال في معظم البلدان العربية، وبعدما خطا قيام الدولة خطوات اساسية في تجاوز البنى السائدة من قبليات وطوائفيات وعشائر، ها هي هزائم العرب العسكرية والسياسية والثقافية تنعكس ارتدادا عن مقوم اساسي للحداثة عبر الارتداد الى ما دون الدولة. يقف العالم العربي امام مشهد تتشابك فيه الصراعات القبلية بالطائفية والاثنية، وبانبعاث للعصبيات وكل موروثات الماضي ورموزه واستحضارها لتحدد مصير المواطن العربي وسلوكه. فبديلا من الانتماء الى الوطن والدولة الجامعة، بات الاساس الانتماء الى الجماعة، وبعدما كانت الدولة حامية الفرد تحولت الحماية الى الجماعة ايضا، سواء اكانت طائفة ام قبيلة ام عشيرة. بذلك خسر العرب ايضا ما كانوا بدأوا يحصّلونه من تبلور للفرد – المواطن على حساب الجماعة. في ظل هذا الوضع، ليس غريبا ان يجد المواطن نفسه وسط صراعات الجماعات الساعية كل منها الى الهيمنة على ما تيسّر لها من مقومات الدولة، ولو ادى ذلك الى ادخال الوطن والشعب في اتون حروب اهلية طائفية ومذهبية.
لا تجد منى فياض غرابة في ان ينعكس ذلك على العربي ازمةً في هويته الذاتية، فتلاحظ تضاعف هذه الازمة مع التطورات التي تعصف بالعالم بعد هجمات 11 ايلول 2001 في الولايات المتحدة والاثر الذي تركته على نظرة العالم الى العرب ثقافة ودينا ومجتمعا، والسمة التي الصقت بهم كمصدر للارهاب في العالم. لم يكن رد الفعل العربي بمستوى التطورات والحوادث وما ترتبه من مسؤوليات، بل كان اقرب الى جواب عدائي ترجم نفسه تقوقعا وتعصبا وانغلاقا على الاخر. تسربل العربي بهاجس الغزو الثقافي واقتلاع الهوية، وضاعف من هذه الهواجس ما بدأ يصدر في الغرب من مقولات صراع الحضارات والتناقض القائم بين الاسلام وحضارته والغرب وحضارته، وهي المقولات التي نظّر لها برنارد لويس وصموئيل هنتنغتون وفوكوياما، ما رسّخ صعوبات التطور الثقافي العربي الذي يستحيل عليه ان يترعرع في جو من الخوف والانغلاق.
لكن فياض لا تبرّئ البؤس العربي وانحطاط المستوى الثقافي من عاملين اساسيين، الاول يتصل بالنظام العربي القائم على الاستبداد والقمع، والذي يتخذ من القضايا القومية وخصوصاً القضية الفلسطينية ستارا لتأبيد استبداده وحجز تطور المجتمعات العربية عبر تقييد حرية العمل السياسي والتعبير عن الرأي الحر. اما العامل الثاني فترمي فيه فياض المسؤولية على النخب المثقفة التي انتهت الى التواطؤ مع الانظمة السائدة إما بالانضمام الى مؤسساتها وإما بالتنظير لمقولاتها والدفاع عن سياساتها، وهو دور يتنافى مع الوظيفة النقدية المفترضة للمثقف.
انطلاقا من ذلك ترى فياض معوقات اساسية تنتصب في وجه حرية الفكر في العالم العربي، ابرزها يتجلى في غياب الديموقراطية الذي يحجر على حرية الرأي والتعبير وعلى الحق في ممارسة المعارضة للسلطات القائمة. تترتب على غياب الديموقراطية سيادة انواع متعددة من الرقابة على الفكر، فهناك رقابة الاجهزة الامنية ذات الباع الطويل والخبرة غير المحدودة في كم افواه المعارضين وزجهم في غياهب السجون او في كتم انفاسهم الى الابد. لكن اخطر انواع الرقابة اليوم هي الرقابة الذاتية المفروضة على صاحب الرأي نفسه، لكونها تحوي معاناة داخلية وعذابا نفسيا وقهرا قد يكون احيانا كثيرة اصعب من القهر المادي لسلطات الاستبداد.
ويتميز العالم العربي بمعوق اساسي امام حرية الفكر والتعبير، تمثله السلطات الدينية التي باتت اليوم تلعب دورا خطيرا في تأبيد التخلف في العالم العربي عبر تدخلها في الانتاج الفكري وتحديد المسموح منه والممنوع، وتعريض المفكرين الى ضروب شتى من الارهاب من خلال تكفيرهم وإهدار دمهم احيانا، مما يضع معارضي السلطة الدينية في دائرة الخطر على الحياة، وما يجري في اكثر من مكان في العالم العربي خير دليل على الموقع الذي باتت المؤسسة الدينية تحتله على صعيد حرية الرأي. يزيد الامر سوءا، التمفصل والتقاطع بين السلطتين الدينية والسياسية في الرقابة على الكلمة وكم افواه المفكرين عندما تتعارض آراؤهم مع ما تريد السلطتان بثه بين الناس.
يبقى ان كتاب منى فياض يمثل صرخة في وجه التقليد ودعوة صريحة الى النقد الذاتي سبيلا الى ولوج الطريق الصحيح نحو الحداثة والتقدم، وهو نقد لا بد ان يطاول جميع اوجه الحياة، سياسية وثقافية ودينية واجتماعية، ومن دون استثناء.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد