صدور العدد التجريبي من مجلة «تراث» الفصلية
في خطوة ثقافية إعلامية مهمة ، صدر في دمشق عن مركز تريم للعمارة و التراث، العدد التجريبي من مجلة " تراث" الثقافية الفصلية.
وقد حوى العدد على افتتاحية لرئيسة التحرير المهندسة ريم فؤاد عبد الغني بعنوان " نواة الإبداع والتفرد " حيث عرضت غاية ورسالة المجلة بقولها :" يتلخص مشروع المجلة برمته في كلمة واحدة ..."الهوية " ...وهي ليست مجرد مجلة فصلية، بل رسالة ثقافية وطنية قومية ..دفاعاً عن حقنا في الوجود والاستمرار" .
وتختتم مقالتها بدعوة العلماء والباحثين العرب لتقديم إسهاماتهم ونتاجهم الفكري المتميز .
وأشارت إدارة التحرير إلى أهمية مثل هكذا مطبوعة في محاولة معرفية لإعادة إنتاج التراث وقراءته وفق روحية التآلف "فالولاء المجتمعي هو الوعاء الحضاري لكل الولاءات الاعتقادية ، وعبر هذه المجلة نسعى إلى حالة كشف للتراث الإنساني في سعي دءوب وتواصل مع كبار الباحثين العرب للإضاءة على المكامن الروحية والمادية لتجليات هذا التراث ".
حفل العدد بدراسات عديدة ، العمارة التراثية - البيئة والوظيفة للدكتور عفيف بهنسي .
و كتب الأستاذ محمد قجة عن الحداثة والتراث ،وعن تطور المسكن من المغارة إلى بداية العمارة كتب الدكتور بسام جاموس ،إضافة إلى مقال عن المشربيّة في العمارة العربية كمعطى وظيفي وجمالي .
كما حوى العدد على فسحة بصرية واستراحة لونية جمالية عن السجاد المغربي،و دراسة عن المخطوط العربي بين ماضيه وحاضره للأستاذ زياد الحسين .
أما الباحثة منى المؤذن فقد ناقشت بعض النصوص العربية في كنيسة دير مار موسى الحبشي، وثمة تحية في العدد للباحث والكاتب العراقي الراحل بلند الحيدري عبر تقديم دراسة منشورة له في كتابه " زمن لكل الأزمنة " عن العلاقة بين المعمار العربي والشعر العربي،بينما ناقش الدكتور بديع العابد في دراسة مهمة"الفكر المعماري عند إخوان الصفا ".
حوار العدد مع الدكتور محمد بهجت قبيسي أجراه الدكتور بشار خليف ، حيث تناقش المحاوران في التراث الكتابي واللغوي العربي في انطلاقاته الأولى .
وختام هذا العدد التجريبي مقالة لرئيسة التحرير بعنوان \ الأنف يعشق قبل العين أحيانا".
و الإخراج الفني للدكتور أحمد معلا .
\ تراث \ في عددها التجريبي مجلة واعدة تشي بومض معرفي مهم نأمل أن "يسد فراغا" في البنية الإعلامية المعرفية السورية والعربية .
افتتاحية رئيسة التحرير
أخيرا ... وصلتُ إليكم ..
بعد عامين.. كتب له أن يرى النور، ذلك الحلم الذي عاش طويلاً داخلي.. حتى قبل أن أعرفه..كان مختبئاً بين أحلام كثيرة ...يبتسم بصبر كلما باعد بيننا طوفان الانشغالات والطموحات.
و يبدو أنه بمرور الزمن, يتساقط ما ليس له جذور ضاربة في العمق ليستمر فقط ما هو نابع من أعماق الأعماق, لذلك بقي يطل بحنو كلما خلوت إلى نفسي في لحظات الصدق والصفاء.
في إحداها- وقد أيقنت أنه جزء حميم مني و رسالة أحققها فتحققني- قررت أن أبدأ رحلتي إليه، فبدأت بالاتصال ببعض الأصدقاء الذين أحترم خبرتهم في هذا المجال ،و حين أقلب اليوم محاضر اللقاءات والرسائل التي كُتبت في هذا السياق ،يغمرني التأثّر بفيض التشجيع والمحبة اللذين قوبلت بهما فكرة المجلة ،فعلى كثرة المجلات العربية الموجودة في الأسواق وتنوعها، قلة منها تتناول التراث والعمارة بأسلوب علمي جدي، و مازال التعطش كبيراً إلى هذا النوع من المجلات..
يتلخص مشروع المجلة برمّته في كلمة واحدة..."الهوية".
الهوية التي بدأت معالمها تبهت أو تتغيّر تحت وطأة الضغوطات المختلفة ،باسم "العولمة" و "الحداثة" و "المعاصرة" و "التكنولوجيا"...حتى صار كل جيل يعرف عنها أقلّ من سابقه ، كأن من يموتون يأخذون معهم بعضاً منها،سيّما في غياب عمليات التوثيق.
العديد من عاداتنا أخذ يختفي ، طعامنا فقد نكهته ، لباسنا و شؤون حياتنا تفرضها أفكار أمم أخرى، عمارتنا أُفرغت من مضمونها و استُبدلت بأخرى مشوهة مجتثّة من جذورها ، لغتنا اختُرقت و هُمّشت ، تاريخنا عرضة للنهب و التزوير ،أراضينا استُبيحت و وُزّعت بوعود بين من لا يملكونها ، نسينا مشيتنا ولم نتقن مشية الطاووس، و رويداً رويداً تفقد ملامحنا شكلها المميز لنصبح "لا أحد"، وحينما لا نكون "أحد" لا نحتاج أن ندافع عن وجود "أحد"،وأيّ سلاح أمضى لمحاربة أمة وإبادتها من محو ذاكرتها وهويتها وكيانها المستقل ؟.
هي إذاً ليست مجرد مجلة فصلية، بل رسالة ثقافية وطنية قومية، و كلمة حق تُقال -أضعف الإيمان- دفاعاً عن حقنا في الوجود و الاستمرار.
قبلتنا الهوية، تلك التي تنعكس في كل تفاصيل حياتنا..في رقرقة ماء النوافير .. في الزخارف فوق المشربية و على سجادة الصلاة و أطراف أثوابنا ..تتسلل في طعامنا..و ألفاظنا .. و أغانينا القديمة التي لا نذكر من أين عرفناها....في أصغر خط رسمه الزمن فوق جدران البيوت و زجاج الكنائس ومآذن المساجد..تنبسط بين أصغر حلية نلبسها و منحنيات حاراتنا وبيوتها المتعانقة .. و تنساب مع أريج الياسمين و الفل و الورد "البلدي" حتى رائحة السمن البلدي.. نصغي لصداها في نداء الباعة كما في صوت المؤذّن الدافئ الذي يؤذن من داخلنا. ..تذوب بين حنايا عقلنا الباطن.
لسنا بديلاً لأحد، أملنا أن نكون رافداً يُضاف إلى روافد نهر التراث العظيم الذي يستوعبنا جميعاً، طالما استوعبنا رقيّ موجاته و سلاستها.
فريقنا المتواضع يجمعه عشق صادق و حنين دائم لكل ما هو أصيل و حقيقي و إصرار على الأفضل، شعارنا:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
قناعتنا أن التعامل مع التراث يحتاج إلى وعي ومعرفة و رؤية واضحة ، فليس كل قديم تراثاً، ما ننشده في هذا الإطار يقابل مفهوم الانتقاء والإبداع ، أن نعرف كيف نختار وماذا نختار مما يزخر به التراث من قيم مازال الكثير منها حياً و صالحاً للاستمرار- و بمعزل عن العوائق التاريخية التي تراكمت نتيجة الغزو الثقافي الخارجي - ثم إعادة استخدامه بشكل خلاق ليواكب متطلبات العصر.
لقد أتى التراث- وهو تراكم خبرات آلاف السنين وعصارة تجارب و معاناة ملايين الناس- بحلول مبدعة من وحي الطبيعة والمناخ والبيئة و الثقافة والتقاليد ،و كلما توغلنا في شرايينه أدركنا جهلنا به، واستطعنا أن نحدد موقفاً أوضح مما يدعى "العولمة" ، التي تأتي لتلغي أسماءنا ولون أعيننا، محاولة إقناعنا بأن الحداثة تعني استيراد مفاهيم الآخرين وطريقة تفكيرهم ،تقليد سلوكهم وأسلوب بنائهم ،تجعلها مرادفاً للتنكّر للقيم والسير في ركب الموجات الحديثة دون فهم لأبعادها ، تحوّل قصور الشام والقاهرة وأوابدنا التي شهدت طفولة التاريخ إلى "عمارة الصمت"، فنمسي غرباء داخل بيوتنا.. بل وأجسادنا...و" الغربة في البيت أبشع أنواع الغربة".
أصغوا معنا إلى نبض الأولين في عمارتنا الأصيلة التي "تزوجت الأرض" و انبثقت منها كنبتة ، احترمت تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها... أدركت بفطرتها الصافية المعاني الحقيقية للعلاقة بالمحيط والبيئة، لبّت ببساطة حاجات الناس وعكست بصدق مفاهيمهم وأفكارهم وعتّقت خبراتهم وتجاربهم قرون طويلة.
يقولون: "من ليس له قديم.. ليس له جديد"، و بالعامّية "من فات قديمه تاه" .
أنا لا أدعو إلى تقيّد أعمى بالقديم، بل أتكلم عن فهمه بعمق واستنباط عبره ودروسه ، عن الأصالة والمعاصرة، أن يكون هذا المخزون الزاخر نقطة انطلاق للتحليق نحو الجمال والإتقان، دون أن يكون قيداً يكبلنا أو قانوناً تعسفياً يمنعنا من التعامل مع كل جديد،و شتّان بين أن يجعلنا أسراه و بين أن نجعل من روحه الملهمة نواة للإبداع والتفرد.
جزء من التحدي الكبير و مسؤولية المعماريين والمخططين التاريخية في هذه المرحلة، هو تكريس عمارة عربية حديثة تستمد قيمها ومزاياها من روح العمارة العربية الأصيلة، وتستفيد في ذات الوقت من تسهيلات التكنولوجيا لتُلبي احتياجاتنا العصرية ،و من هذا المنطلق ، و خلال تدرّجي في دراسة الهندسة المعمارية وصولاً إلى مرحلة الدكتوراه ، انصبّت دراساتي على العمارة العربية التقليدية ، فتخصصت في عمارة اليمن التقليدية وبالذات عمارة مدينة تريم الطينية الساحرة في وادي حضرموت ، والتي دفعتني أبحاثي الميدانية فيها على مدى سنوات إلى إطلاق اسمها على مؤسسة أسستها عام 2004 تحت اسم "مركز تريم للعمارة والتراث" ، الذي تنبثق عنه هذه المجلة .
و مركز تريم للعمارة والتراث هو مؤسسة غير حكومية لا تهدف إلى الربح ، تطمح إلى المساهمة في العناية بالتراث والعمارة التقليدية في العالم العربي من خلال التوثيق والدراسة والإنتاج الفني ونشر الترجمة وتنفيذ مشاريع الحفاظ والترميم وتبادل الخبرات مع المؤسسات والهيئات والمراكز النظيرة في العالم .
هدفنا -من خلال المجلة و المركز- أن نرفد صحوة تنامت أخيراً في إنعاش الهوية و التراث ، فالمؤتمرات و الندوات و مراكز الدراسات و المطبوعات والجوائز التي تُمنح للمشاريع التراثية ،كلها تلعب دوراً هاماً في التوعية بخطورة ما كاد ينقرض من حرف و ما ذبل من قيم و عادات و ما مات منّا مع أجيال غادرتنا .
و رغم أن هذا العدد التجريبي لا يعبر بدقة عن النوعية و المستوى الذي تصبو إليه المجلة ، فعليّ أن أشكر الأصدقاء الذين كان لهم فضل إصداره ضمن ظروف صعبة و في زمن قياسي، مؤكدة عميق تقديري ووعيي لمسؤولية الثقة التي مُنحناها بتخويلنا إصدار هذه المطبوعة من دمشق الفيحاء، أقدم حواضر العالم وأغناها تراثاً وأعرقها تاريخاً.
طموح المجلة-في أعدادها القادمة- أن تشكل إضافة نوعية، نريد لها شخصية واضحة متوازنة بمواضيع متميزة و كتّاب مختصين و محتوى غنيّ يحترم عقل قارئها، فتستحق أن تُقتنى في مكتبة يقرأها الأحفاد، و تبقى بعد أن نرحل، ليصل مضمونها الأجيال القادمة بجذورها.. بهويتها.... بمن رحلوا ومن سيأتون، و لعل أقصى ما نتمناه آنذاك أن يترحموا على من أسهم في تأسيسها ذات يوم، لأنها نجحت أن تكون "علم ينتفع به ".
ختاماً..أدعو السادة العلماء ومن يملكون نواصي المعارف و من لهم إسهاماتهم أو اهتمامهم بالتراث لرفدنا بما لديهم ، ونعوّل حقاً على موضوعيتكم في نقدنا، و تسامحكم مع عثراتنا، لنقدم ما يليق بحضارتنا العريقة ، بنا و بكم ، و في النهاية هي ليست مجلتنا بقدر ما هي مجلتكم .
رئيسة التحرير
ريم فؤاد عبد الغني
إضافة تعليق جديد