تفعيل مبدأ اللاعنف في الإسلام
في وقت كانت الصراعات والحروب السمة الغالبة على القرن الماضي، حتى أطلق عليه البعض لقب «قرن الحرب الشاملة»، تتزايد حدة الاتهامات الموجهة الى الإسلام باعتباره محرضاً على العنف وداعياً إليه، مع أن الإسلام، كدين، لا شأن له بالحروب وموجات العنف، بما فيها تلك التي يشارك فيها المسلمون!
ويؤكد هذه الحقيقة أن 28 من بين 55 حرباً أهلية أو دولية شارك فيها المسلمون منذ بداية عقد الستينات، كانت حروباً داخلية، وفي غالبية الصراعات الأخرى، كانوا هم الطرف الأضعف أو المعتدى عليه من جانب الآخرين. وفي مطلع العام الحالي، كان ثمة 16 حرباً أهلية أو دولية أحد طرفيها مسلمون من بين 42 حرباً أهلية أو دولية على المستوى العالمي.
ويشهد على هذه الحقيقة أيضاً، أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة لم تكن الوحيدة التي زجت بدينها أو وظفته في صراعات سياسية دولية أو أهلية. ويكفي أن نشير في هذا الصدد، الى أن الحركة الصهيونية كانت سباقة إلى توظيف الدين في مشروع سياسي استعماري وفي خدمة سلسلة من الحروب الاستعمارية.
ويكفي أيضاً، أن ميليشيا عسكرية تسمي نفسها «جيش الرب» تيمنا بالسيد المسيح كانت، ولا تزال، مسؤولة عن موجة غير مسبوقة من العنف الهمجي في بلد أفريقي، كأوغندا، وأن رجال دين أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية شاركوا في واحدة من أكثر موجات الإبادة الجماعية قسوة في تاريخ العالم الحديث، تلك التي وقعت في رواندا وبورندي.
ومع أن الحروب العالمية راح ضحيتها أكثر من مئة مليون إنسان في النصف الأول منه فقط، إما في الحرب مباشرة أو متأثرين بجروحهم وبأمراض ما بعد الحرب، إلا أن حدة الهجمات ضد الإسلام في ازدياد مستمر، وبخاصة في دوائر اتخاذ القرار الأميركية والتي يهيمن عليها العقائديون الجدد. فها هو كينيث أولمان، عضو مجلس سياسة وزارة الدفاع الأميركية، يعلن في إحدى مقابلاته التلفزيونية أنه «ليس من السهل أن نقول بأن الإسلام دين مسالم. فإذا نظرت ملياً إليه لعرفت نزعته العسكرية، وعلى كل، فإن محمداً، المؤسس، كان محارباً ولم يكن داعية سلام مثل المسيح»!
وفي تعليقه على قرار بوش بخوض الحرب ضد الإرهاب، أكد بات روبرتسون، أحد مؤسسي التحالف المسيحي ومرشح سابق للرئاسة عن الحزب الجمهوري، دعمه لبوش قائلاًَ: «هذه خطوة حكيمة، إنها خطوة جيوسياسية، لأن الإسلام له عداء قوي لليهود، إنه دين عنيف حتى النخاع»!
ساهمت هذه التصريحات، وغيرها الكثير، في ظهور رد فعل إسلامي تمثل في ظهور اتجاه «اللاعنف»، والذي عول في تأصيله لللاعنف على العديد من الآيات القرآنية الكريمة والممارسات النبوية الشريفة، والتجارب الإنسانية الرائدة في الكفاح السلمي ضد المحتل، وعلى رأسها تجربة غاندي في الهند، بالإضافة إلى 14 تجربة تغييرية على امتداد قارات العالم.
ويمكن القول إن الإسلام يمتلك بالفعل كل الخصائص الضرورية لنجاح حركة اللاعنف في المجتمعات الإسلامية، بل والعالمية، كما يعكس القرآن رؤية خاصة في طبيعة الصراع واتجاهاته، والذي يعبر عنه بـ «الدفع»، كما في قوله تعالى «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» [البقرة: 251].
وفي هذا الإطار، يؤكد أصحاب هذا الاتجاه المتنامي أن المفهوم الغربي الخاطئ عن الجهاد الإسلامي، والذي يُعِده مرادفاً لأعمال انتحارية يائسة يقوم بها جماعات من المتشددين اللاعقلانيين يطمحون الى فرض عقيدتهم على العالم، ساهم بدوره في تغييب مبدأ اللاعنف الإسلامي على صعيدي كل من الفكر والممارسة معاً، وأن حركات المقاومة الإسلامية لا تزال بحاجة ماسة إلى تأسيس منهجي لـ «اللاعنف السياسي والاجتماعي».
ترتبط إشكالية العنف واللاعنف إذاً بمفهوم الجهاد، الأمر الذي يفرض إعادة طرح هذا المشكل مجدداً، ومحاولة تفكيكه وكشف الفوارق الواقعية بين مبادئ الإسلام وسلوكيات المسلمين. وفي الواقع، بسط الإسلام لشعوب القرنين السابع والثامن حياة أكثر حرية وأمناً وسلاماً من أي عصر مضى، وفي كثير من الأحوال حدث التحول الإرادي من جانب شعوب الأرض للإسلام نتيجة للخدمات الكبرى التي قدمها المسلمون أنفسهم دينياً وإدارياً وتعليمياً. وفي بعض المناطق النائية، خصوصاً في جنوب شرقي آسيا، جاء الإسلام كامتداد تاريخي للثقافات السابقة له وليس كنقيض لها.
ومن دون الغوص في تفسير عشرات الآيات القرآنية التي تحول دون إعمال العنف كمبدأ في الإسلام، وما أكثرها، يمكن القول إن مفهوم الجهاد في الإسلام يقع على النقيض من معنى الظلم، بل هو في الأساس آلية نضالية تكافح بها الشعوب الإسلامية الظلم الواقع عليها. إنه في جوهره مسعى لتحقيق العدل والحق كخيار أخير.
الجهاد بهذا المعنى لا يقتصر على الإسلام والمسلمين، ولكنه أمر عام. فالجهاد الداخلي، المتعارف عليه بالجهاد الأكبر، يقع في إطار الفرد. وهو في معناه الأوسع عبارة عن الكفاح ضد قوى الشر على المستوى الأممي، ويمكن النظر إليه بمعنى أكثر اتساعاً بوصفه كفاحاً في إطار ذلك القسم من البشرية الذي يؤمن بمبادئ السلم العالمي.
يضع الجهاد إذاً قضية الحرب والعنف في إطار أخلاقي محض، ومن ثم، فالهدف النهائي للجهاد إنما يتمثل في وضع حد للعنف البنيوي الذي يحكم علاقات البشر بعضهم بعضاً مع التأكيد على ضرورة ألا تخرج وسائل تحقيق هذا الهدف عن المنظومة الأخلاقية بأي حال من الأحوال. إذ لا يحارب المسلم أبداً من أجل مجده الشخصي، وإلا صار من شهداء الدنيا، أو من أجل السلب والنهب، كما لا يقتل بلا تمييز بين مدني وعسكري. ويتوجب عليه أيضا ألا يضر بالبيئة، فلا يقطع الأشجار أو الطرق أو يدمر البنية التحتية للأماكن الآهلة بالسكان، وإنما يجاهد في سبيل الدفاع عن النفس ضد خطر داهم.
وهكذا تكمن أخلاقية الحرب في الإسلام، من بين أمور أخرى، في إبقاء مجموعات معينة من البشر خارج النطاق المسموح به للحرب، بحيث لا يصبح قتل هؤلاء من بين أعمال الحرب المشروعة.
ومثل هذا الفهم إنما يتأتى من الإدراك العميق لنظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية باعتبارها أمراً مقدساً، وأن البشر جميعاً أسرة واحدة على رغم اختلاف اللون والجنس والدين، وأن كل حياة بشرية تساوي مجموع كل حيوات البشر. وعليه، فالمساس بها يعد انتهاكاً لقدسية الحياة الإنسانية بأسرها. يقول تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» [المائدة:32].
وما دامت الحياة الإنسانية مقدسة على مثل هذا النحو، فعلى الإنسان أن يحافظ عليها من الانتهاك أو المساس بكل ما يتعلق بها. ومن ناحية أخرى، على رغم أن القتال ضد الظلم لا يمكن تجنبه، إلا أن استخدام العنف في مجابهته يمكن تجنبه، فطالما أن البدائل اللاعنفية لا تزال قائمة، فلا خيار أمام المسلم سوى استخدامها والتعويل عليها حتى استنفادها كلياً.
يبدو اللاعنف، وفق الطرح السابق، وكأنه آلية أو نمط من أنماط الكفاح الإنساني. وفضلاً عن الاستشهاد بمبادئ الإسلام الحاكمة لاستخدام العنف، يستدعي اللاعنفويون - إن صحت التسمية، في مقارباتهم شواهد عصرية لحركات تحررية عولت على آلية اللاعنف في طرد المحتل. وتقع تجربة غاندي على رأس هذه الحركات اللاعنفية، ويمكننا أن نتلمس الخطوط الرئيسة في فلسفته من خلال مقولته: «إن الإيمان باللاعنف يقوم على افتراض أن الطبيعة البشرية في جوهرها واحدة، ولهذا تستجيب بالفطرة لسمو الحب. ولا يعتمد نجاح اللاعنف على حسن نية الطغاة، لأن المكافح يعتمد على وقوف الله الى جانبه. فالحقيقة واللاعنف مستحيلان من دون الإيمان بالله، تلكم القوة الخالدة الأبدية المطلقة».
وكان برتراند راسل سباقاً في تأكيد أهمية اللاعنف، والذي يعرفه بأنه «سلوك عقلاني يهدف إلى تفادي الصراع مع طرف واحد أو مجموعة أطراف بغية إحلال السلام والانسجام مع جهات التوتر وإقناع الآخرين بأن الحروب لا تؤدي إلا إلى مزيد من الدمار». وفي الإطار ذاته، يؤكد جين شارب أن القوة السياسية تتحلل عندما يكف الشعب عن تأييدها وطاعتها. ومع أن المعدات العسكرية ستبقى غير مدمرة، والجنود بلا إصابات، إلا أن كل شيء سرعان ما سيتغير حين يسحب الشعب من الحاكم مصدر قوته.
أما في ما يتعلق بأدوات اللاعنف، فيمكن القول إنها تتوزع بين وسائل الاحتجاج والمقاومة. فمن وسائل الاحتجاج: رسائل التأييد والمعارضة والبيانات الموقعة والعرائض والمطالب الجماهيرية واللافتات المناهضة لسياسة معينة. ومن أساليب المقاطعة: الانسحاب من النظام الاجتماعي، والعصيان المدني والبقاء في المنازل والإضراب عن العمل والهجرات الاحتجاجية... إلخ. وفي كل الأحوال، يجب أن تبقى الحركات والمنظمات محتفظة بوضع أخلاقي وقانوني سليم بما لا يضمن الاعتراض عليها قانونياً ودستورياً.
وفي النهاية، ثمة شروط خمسة تحكم نجاح حركة اللاعنف في أي مجتمع، يطلق عليها البعض «الأعمدة الخمسة لـ للاعنف في الإسلام»، أولها: إرادة الرفض والتحدي وعدم التبعية إلا للحق. وثانيها: الشجاعة واستعمال الصبر ضد القمع السياسي العنيف الذي غالباً ما تستخدمه الدولة لفض التظاهرات. وثالثها: التنظيم والتنسيق المحكم وعدم الاستسلام للرغبة النهمة في الانتقام. ورابعها: التكاتف والتعاضد وأن يكونوا على قلب رجل واحد يأتمنونه على قيادة قضيتهم وإدارة ملفاتها. أما خامسها: فيتمثل في الإيجابية وإعمال مبدأ المبادأة والمبادرة.
محمد حلمي عبد الوهاب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد