«الطاقة الداكنة» تشتّت أفلاك الكون وتحيلها فراغاً
بين عامي 1905 و1915 انجز العالم الشهير آلبرت أينشتاين نظريته الثورية عن النسبية الخاصة، والتي قلبت مفاهيم الفيزياء رأساً على عقب. وبعدها بنحو عشر سنوات، انتهى أينشتاين من صوغ الشق الثاني من تلك النظرية، وحملت اسم «النسبية العامة»، التي ركّزت على تفسير المظاهر الكونية مثل الجاذبية وسرعة الضوء وتجاذب المجرات وغيرها. وحينها، بدا وكأنه فرغ من صوغ نظرية متكاملة تتمتع بالانسجام والقدرة على إعطاء تفسير متناسق للكثير من المظاهر الطبيعية بما فيها تلك التي بدت غير مفهومة قبله. باختصار، بدت «نسبية» أينشتاين بنياناً متكاملاً، إلى حدّ أنه استعملها في حساب أبعاد الكون الذي بدا له شديد الاستقرار. ولم ينجّه ذلك من النقد؛ حتى انه فطن بنفسه الى ضرورة تغيير بعض استنتاجاته. فإذا كان الكون مستقراً، فكيف «يتحمل» أثر الجاذبية التي رأى أينشتاين أنها تنجم من انحناء «النسيج» الذي يضم الزمان والمكان؛ والذي يشار إليه أحياناً باسم «زمكان»؟ ولتلافي هذا التناقض الظاهري، أدخل الى نظريته عاملاً مفترضاً سماه «الثابت الكوني» Cosmological Constant؛ وتصوّر أنه قوة تعاكس الجاذبية فتُدخل الاستقرار الى الكون. ولم يثبت على رأيه، كما بالنسبة الى أشياء أخرى في نظرياته!
ففي عام 1929، برهن عالم الفلك الأميركي إدوين هابل، الذي أشرف على مرصد «ماونت ويلسون»، ان الكون يتوسع باستمرار. وزاره أينشتاين في السنة التالية، فأقنعه هابل بما لاحظه. وخرج أينشتاين لينتقد نفسه، ويعلن أن «الثابت الكوني»، باعتباره قوة كونية معاكسة للجاذبية، لم يكن سوى «غلطة كبيرة». وبعد عقود من وفاته، يبدو ذلك الإعلان أيضاً مخطئاً! ربما أن افتراضه لم يكن دقيقاً ولا أساس له؛ لكن الكون يحتوي فعلاً قوة ضخمة يعاكس فعلها قوة الجاذبية، بل أن طاقة تلك القوة تنتشر في أرجاء الكون الشاسع بأكثر مما تفعل الجاذبية أضعاف المرات! وسرعان ما أُطلق عليها اسم «الطاقة الداكنة» Dark Energy؛ لأن العلماء لم يتوصلوا لحد الآن الى فهمها.
وعلى عكس انتشارها العميم وتواجدها بكميات ضخمة، يميل العلماء الى القول بأنها تتألف من مكوّنات ضعيفة. فمثلاً، لو أن الأرض «قصفت» بوحدة من تلك الطاقة في السنتيمتر المربع، لما أمكن التثبّت من وجودها مخبرياً بطريقة مباشرة وواضحة؛ لذا تُدرج راهناً في فئة الأشياء الضعيفة التفاعل، على رغم ان هذه الصورة ربما تغيّرت عندما يتعرف الإنسان أكثر الى تلك الطاقة ويفهمها بوضوح.
وترتبط الجاذبية التي نعرفها بالمادة بالشكل الذي نألفه، أي أن لها كتلة ووزناً وشكلاً وأبعاداً وغيرها. ويميل علماء الفيزياء راهناً الى القول ان «الطاقة الداكنة» ترتبط أيضاً بنوع خاص من المادة تُغاير تلك التي نعرفها. ويسمونها «المادة الداكنة»، وكذلك فإنها... غير مفهومة راهناً!
وفي مطلع العام الحالي، عثر العلماء على دليل أول مباشر عن المادة الداكنة وطاقتها، والتي يتناولها المقالان التاليان بالشرح، في إطار ما تسمح به الكتابة الصحافية من مقاربة لموضوع على هذه الدرجة من الدقة والتعقيد.
يطلق أسم «الطاقة الداكنة» على شكل غير مُحدّد حالياً من أشكال الطاقة التي تتحكم بالكون. ويعتقد علماء الفلك، الذين يشيرون اليها أيضاً باسمي «الطاقة السوداء» و «الطاقة الشبح»؛ بوجود هذه القوة وبأنها تملأ الكون بنسبة عالية، وأنها تتمتع بضغط سلبي يعبّر عن نفسه باعتباره قوة تنافرية معاكسة للجاذبية الكونية.
وتُختبر هذه الطاقة بصورة غير مباشرة، من خلال المشاهدات الفلكية التي تحتسب سرعة تمدد الكون. وعلى رغم توافق العلماء على وجود «الطاقة الداكنة»، فإن عدم الوصول إلى الدقة الكافية في تحديد تسارع تمدد الكون، يحول دون تحديد دقيق لدور «الطاقة الداكنة» فيه، فتبقى لغزاً عصيّاً على العلماء.
ونستطيع القول أن «الطاقة الداكنة» حالياً ليست سوى ضرورة حسابية لازمة للشروح النظرية عن تمدد الكون، على رغم مرور 10 أعوام تقريباً على إطلاق مقولتها.
ويذكّر هذا الغموض ببدايات اكتشاف نواة الذرّة في الثلث الأول من القرن العشرين، حين رسم العلماء نماذج تفترض وجود نواة صلبة ومتناهية في الصغر في مركز الذرّة. واستتبع ذلك احتساب الطاقة الهائلة التي تحملها قوى مفترضة، حينها، لا يعرف كنهها. وسرعان ما تسارعت التجارب للاستفادة من هذه الطاقة الافتراضية لتثبت وجودها. ثم أثبتت عملقتها بفارق كبير عن الطاقات الكلاسيكية المعروفة، أثناء التفجيرات النووية في هيروشيما وناكازاكي.
في أواخر العشرينات من القرن العشرين، قاس العالم الفلكي إدوين هابل طول الموجة التي تصدر عن غاز الهيدروجين في الطيف المتأتي من الأفلاك القريبة والبعيدة، وكذلك درس انزياحها نحو الأحمر، وبالتالي احتسب سرعة ابتعادها عنّا وفقاً لـ «معادلة دوبلر».
وللتذكير، فإن تلك المعادلة تقول أن طول الموجة الضوئية التي ترسلها ذرّة ما في مجرّة ما، تتعرض للزيادة أو النقصان أثناء سفرها إلينا. فإذا كانت الموجة الملتقَطة على الأرض أطول من الموجة الأصلية المُرسَلة (التي يحددها علم أطياف الذرات)، فهذا يعني أن الذرات المرسِلة تبتعد عنا بسرعة تتناسب وهذا «الإنزياح نحو الأحمر». أما إذا كان طول الموجة الملتقَطة أقصر من طول الموجة عند إرسالها فهذا يعني أن الذرات المرسِلة تقترب منا بسرعة تتناسب وهذا «الانزياح نحو الأزرق».
ووجد هابل أن الأجرام البعيدة جداً تسرع بالابتعاد أكثر من الأجرام الأقل بعداً. لكن مقدار تسارع تمدد الكون لم يكن رقماً دقيقاً، ولو أنه انحصر بين 50 و100 كيلومتر في الثانية لكل مليون فرسخ من البعد. المعلوم أن الفرسخ يساوي 3.26 سنة ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، بسرعته الثابتة في الفراغ التي تقارب 300 ألف كيلومتر في الثانية.
في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أتاحت الأقمار الاصطناعية والتلسكوبات الفضائية، التوصل الى قياسات دقيقة لبقايا الضوء الخافت الناجم عن الانفجار العظيم «بيغ بانغ» Big Bang في اللحظة صفر من الزمن. وكذلك رُصدت الانفجارات النجمية البعيدة؛ وحُلّلت أضواؤها وعُرفت سرعة ابتعادها عنّا. وبات من قوانين العلم أن نقول بأن الأجرام الأبعد في الكون تبتعد عنا بسرعة تفوق تلك التي تبتعد بها الأجرام الأقرب، ما يعني أن الكون يتمدّد بسرعة متزايدة، وذلك ما قالت به «معادلة هابل».
إذا عدنا إلى قوانين نيوتن المعروفة عن الجاذبية الكونية، التي تصف حركة الأجرام الفضائية المختلفة، نرى أنها تفترض أن الأجرام الفلكية يجب أن تتباعد وفقاً لتسارع يخف مع الزمن بسبب التجاذب المتبادل بينها، وليس العكس. من هنا ولدت نظرية وجود طاقة كونية ما، غير معروفة وغير مرئية، تترافق مع الطاقة الجاذبة وتعاكسها بمفعولها التنافري.
وفي عام 1998، أنجز علماء الفيزياء الفلكية مدعومين بأجهزة كومبيوتر متطورة وبأرشيف فلكي غني، درس 40 مجرة. وتكوّنت لديهم صورة عن بحر عظيم من الطاقة تسبح فيه بلايين المجرات، وأطلقوا عليها إسم «الطاقة الداكنة».
بعد ذلك أصبحت «الطاقة الداكنة» عنواناً عريضاً تستظلّه نظريات متعددة، يفترض بعضها أنها تعمل على مساندة دور الجاذبية وفرملة تمدّد الكون، بينما يرى بعضها الآخر أنها على عكس الجاذبية تعمل على تسارع تمدد الكون بالضغط السلبي الذي تستولده.
وتعتبر أطروحات أخرى أن هذه الطاقة، ليست سوى «طاقة الفراغ الكمومية» التي تحاكي النموذج الرياضي لـ «الثابت الكوني» التي أدخلها أينشتاين الى نظريته في النسبية العامة. وتحتمل نظريات أخرى أن تكون «الطاقة الداكنة» تتعلق بوجود «المادة السوداء» غير القابلة للرصد في الكون وغيرها.
وتجدر الاشارة الى أن أينشتاين استعمل مصطلح «الثابت الكوني» كأول نموذج لـ «الطاقة الداكنة» في إطار نظريته، ومن أجل تصحيحها، عن «كون جامد»، بعد اكتشاف تمدد الكون من قبل هابل. وأضاف أينشتاين ذلك العنصر باعتبار أنه يؤدي دوراً معاكساً لدور الجاذبية، وبالتالي يعيد الانسجام بين نظرية النسبية والقول بتمدّد الكون. وقد اعترف أينشتاين حينها بخطئه أمام اكتشاف هابل قائلاً: «كانت الغلطة الأكبر في حياتي».
يتفق العلماء حالياً بناءً على الأرصاد والمشاهدات الفلكية المحققة، أن «الطاقة الداكنة» تشكل أكثر من 70 في المئة من كثافة حضور الطاقة في الكون، وبذلك تكون لها الغلبة في التحكم بمصير الكون وآفاق تمدده.
وإذا استمرت «الطاقة الداكنة» بهذا التحكم بميزان الطاقة الكونية، فإن التمدد المشهود سيستمر بالتسارع وفقاً لمعادلة هابل، أي أن سرعة ابتعاد الأفلاك تتزايد طرداً مع بعدها. لذلك فإن المجموعات الفلكية التي لا تترابط بقوة الجاذبية سيتزايد تسارعها حتى تتخطّى سرعة الضوء!
وتدور الأبحاث الفلكية المعمقة حالياً في شكل رئيسي حول تحديد طريقة تمدد الكون عبر تاريخه بشكل دقيق، بغية استنتاج صفات الطاقة الداكنة ودورها وكنهها والمادة التي تخضع لها، وبخاصة تغيّر كثافتها المحتمل مع الزمن. فإذا كانت كثافة هذه الطاقة ثابتة لا تتزايد مع الزمن، فإنها لا تهدد وجود الأنظمة الفلكية التي تعتمد على قوة الجاذبية، مثل المجرات والمجموعات النجمية والكواكب وغيرها. هكذا تبقى مثلاً المجموعة الشمسية أو مجرة «درب التبانة» في استقرار، بينما تتباعد أرجاء بقية الكون، خارج التجمعات النجمية.
أما إذا كانت الطاقة الداكنة تتزايد مع الزمن، فإن مشهداً آخر سيحل بالكون، وأُطلقت عليه تسمية «التمزق الأعظم»، بحيث تتشظى في النهاية كل المتحدات الكونية، حتى على مستوى الذرات نفسها، مخلفة كوناً لا متناهي الأبعاد، يحكمه فراغ كلي!
وثمة احتمال آخر، أن تفتر «الطاقة الداكنة» نفسها وتقل كثافتها مع الزمن، أو ربما تنقلب إلى طاقة تجاذبية! عند ذلك ستحكم الكون بأكمله قوة جاذبة تجعله يبدأ مسيرة التقلص على ذاته، في خطى معاكسة للتمدد الحالي الذي تلا «الانفجار الأعظم» منذ نحو 14 بليون سنة، حتى يصل بعد عشرات بلايين السنين من بدء التقلص إلى الانضغاط مجدداً في نقطة من الزمان والمكان حتى يختفي فيها، في عملية سمّيت «الانهيار الأعظم» تماماً كما يفترض أنه وُلد إثر «الانفجار الأعظم».
إن دقة المشاهدات الفلكية المرجوة للحسم في هذا الأمر لا تزال غير كافية. ويقول العلماء أن السيناريو الأخير، وفقاً للمعطيات الحاضرة، قليل الاحتمال. وعلى كل حال، فإن أيّ من السيناريوات المحتملة لمصير الكون ربما لا تشهده أعين البشر. فثمة احتمال أن كوكب الأرض قد تحرقه الشمس عندما تخمد وتتحول الى «جمرة» حمراء عملاقة؛ بعد نحو خمسة بلايين سنة.
وُلدت مقولة «المادة الداكنة» Dark Matter مع نظرية «النسبية العامة» لأينشتاين في الربع الأول من القرن العشرين. وعلى رغم الاختلاف حول كنهها وشكلها وتقدير مستوى وجودها، يسود شبه اتفاق، علمياً، مفاده أن المادة القابلة للرصد والرؤية لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من كتلة الكون. والمعلوم أن كتلة المادة، وفقاً لقوانين نيوتن، هي المسؤولة عن الجاذبية، والجاذبية المحتسبة وفقاً لكتلة الكون المرصودة تقل بأضعاف عن الجاذبية المفترضة التي تكبح انفلات توسّع الكون.
إذن هناك كتلة مفترضة مفقودة من الكون، لكنها لا ترى؛ وتتألف من «مادة داكنة» غريبة، تشترك مع «طاقة داكنة» لا تقل عنها غرابة وغموضاً. والأرجح انهما تشكلان 96 في المئة من الكون!
وعلى رغم هذا الرقم القوي، إلا أن حكاية «المادة الداكنة» لا تزال عرضة لآراء شتى، بل يرفض البعض القبول بوجودها.
إن ما هو «حقيقي» حتى الآن، أننا لم نرصد سوى 0.4 في المئة من طاقة الكون الكلية، وأن حصة الكتلة المرصودة في الكون من نجوم ومجرات وغبار كوني وغيرها، لا تزيد عن 3.6 في المئة.
وتمثل البقية وهي غير قابلة للرصد راهناً، مادة داكنة بنسبة 23 في المئة وطاقة داكنة بنسبة 73 في المئة تقريباً، بحسب رأي مجموعة كبيرة من علماء الفلك والفيزياء.
ومثلاً، يرى ريك غيتسكل، الباحث في فيزياء الفلك من جامعة «براون» الأميركية، أن المادة الداكنة يمكن أن تكون باردة، أي أنها تتألف من جزيئات بطيئة الحركة؛ وكذلك ربما حارة وغير مرئية، على رغم صدور نوع من «الضوء» عنها.
ويرفع البروفسور جورجي هاورد، من جامعة «هارفرد»، مستوى الغرابة باعتقاده أنها نوع من المادة التي تتمتع بكتلة ولكنها لا تتصرف بالطرق التي يعرفها العلم راهناً. ويطلق هاورد عليها اسم «اللاجزيئة». ويتوقع إمكان استشعارها في مسرّع عملاق للجزيئات، مثل «مُصادم الجزيئات العظيم» («لارج هادرُن كولايدر» LHC) الذي يملكه «المركز الأوروبي للأبحاث النووية» («سيرن» CERN) في سويسرا.
لكن من الصعب فهم كنه هذه الكتلة إذا كنت لا تستطيع رؤيتها، ويبقى كل ما نعرفه عنها نظرياً إلى أن نستطيع اختبارها عملياً. ويميل البروفسور هاورد الى القول: «ربما استطاع مصادم الجزيئات العظيم مشاهدة المادة الداكنة وحتى... إنتاجها أيضاً»!
من المعروف أن أي مجرة تترافق غالباً مع جسم كروي ضخم من غاز الهيدروجين البارد يغلفها ويدور حولها خلف حدودها المرئية. ويمكن استعمال سرعة دوران هذا الغاز من أجل احتساب حقل الجاذبية لهذه المجرة. ومن معرفة قيمة الجاذبية، يمكن تقدير الكتلة الجاذبة للمجرة.
إن سرعة دوران ذرّات الغاز هذه يمكن احتسابها بدقة استناداً إلى قياس الانزياح الموجي بواسطة «معادلة الدوبلر».
ويمكن تحديد الكتلة الإجمالية لمجرة ما استناداً إلى معادلة نيوتن للتوازن بين قوة جاذبية المجرة على ذرات الهيدروجين في تخوم هالة المجرة من جهة، وبين القوة الطاردة الناتجة من التسارع الدوراني لهذه الذرات. وتشير معظم الحسابات إلى أن الجاذبية المطلوبة لجعل هذا التوازن ممكناً في المجرة، يتطلب وجود كتلة أكبر بكثير من تلك المرصودة راهناً فيها.
وأخيراً، توصل علماء فلك من جامعة «جونز هوبكنز» الأميركية، الى رصد هالة داكنة حول إحدى المجرات البعيدة، واعتبروها دليلاً قوياً ومباشراً على «المادة الداكنة».
واكتشفوا أيضاً أن سرعة دوران الذرات في تخوم هالة المجرة لا تتغير مع بعد هذه الذرات عن مركزها. واستنتجوا أن كتلة المجرة تزداد بالتناسب مع انتفاخ هالة المجرة. وبما أن الكتلة المرصودة في المجرة لا تتيح هذا الاستنتاج المنطقي، فإن الفريق يعتقد بقوة بوجود مادة داكنة في هالة المجرّة، وأن كتلتها تصل إلى عشرة أضعاف كتلة نجوم المجرة مجتمعة!
هل تنتهي مقولة «المادة الداكنة» كما انتهى مفهوم «الأثير» باعتباره الوسط الذي افتُرِض طويلاً أنه ينقل الموجات الكهرومغناطيسية، والذي برهن إينشتاين أنه، وببساطة، غير موجود إطلاقاً؟
يطرح بعض الفيزيائيين، مثل دوغلاس شنايدر من جامعة «لوس أنجليس» في كاليفورنيا، مقاربة مختلفة لاحتساب الجاذبية الإضافية المطلوبة، ومن دون الحاجة لافتراض وجود كتلة «المادة الداكنة».
وبحسب رأيه، تقدم نظرية النسبية العامة لأينشتاين الوسائل اللازمة لتطوير فهم عمل حقل جاذب قوي في الكون. ويستعيد
المسألة الأساسية: إن ما يستحضر التفكير بـ «المادة الداكنة» هو مقدار الجاذبية الكونية المطلوبة لاكتمال معادلات تجاذب الأفلاك والانسجام مع تسارع ابتعادها عن بعضها بعضاً باطراد. فالجاذبية المحتسبة لكتلة المادة العادية المرصودة حالياً في الكون لا تكفي لشرح البطء في تمدده، وقد كان عليه أن يتمدد بأضعاف ما يفعله راهناً.
ويرى شنايدر أن المشكلة هي أن البعض أضاف «المادة الداكنة» ليضيف مقدار جاذبيتها إلى المعادلة السابقة. ويشير أيضاً الى أن إينشتاين نفسه طرح مفهوماً آخر للجاذبية في نظريته عن «النسبية العامة» عام 1916، لكن ... من دون أن يتخلّى عن «المادة الداكنة».
وناقش إينشتاين مثلاً وضعية رجل في غرفة واسعة افتراضية لا نوافذ فيها، وهي موضوعة في الفضاء بعيداً من الأجرام الجاذبة، كما أنها مربوطة بحبل يشدها نحو الأعلى وفقاً لتسارع ثابت.
ورأى أن الرجل في الغرفة يختبر جاذبية فعلية كما لو أنه على كوكب كبير؛ وكذلك فإن كل الاختبارات التي يقوم بها الرجل تجعله يستنتج وجود جاذبية فعلية كما لو أنه على كوكب الأرض. لكن بالنسبة الى مشاهد في الفضاء من مكان ثابت خارج الغرفة الافتراضية، فهو قادر على تفسير اختبارات رجل الغرفة وفقاً لقوانين نيوتن الميكانيكية، من دون التطرق إلى جاذبية إضافية مفترضة.
ولنأخذ مثلاً آخر: سائح في مركبة صاروخية فضائية مثلاً، تتسارع بقوة في أعماق الفضاء؛ هل يمكن إقناعه أن «الجاذبية» التي تشدّه بقوة إلى مقعده ليست موجودة؟
في كلا المثلين، ليست الجاذبية المستشعرة إلا نتيجة العلاقة بين نظام فيزيائي عائد للرجل (أو للسائح) وآخر يهيمن على الغرفة (أو المركبة الصاروخية).
وهذا ما يريد شنايدر توجيه الأبحاث نحوه، أن أطروحة «حقل الجاذبية» الكوني التي لأجلها احتاج أينشتاين إلى «المادة الداكنة»، قد لا تكون في جانب منها، سوى امتداد لنظرية «النسبية العامة» نفسها؛ وأن الجاذبية هنا إذن هي نتاج التسارع، ولا علاقة له بأي كتلة لمادة مفترضة!
ويستنتج أن الميزات الأساسية للنسبية العامة، تكفي لتقديم المفتاح لفهم الجاذبية الكونية؛ وأن لا لزوم للمادة الإضافية الخفية، بيضاء كانت أو سوداء أو داكنة.
ويبدو أن النقاش حول «المادة الداكنة» وطاقتها وجاذبيتها وأصلها، سيشغل علماء الفلك والفيزياء لعقود مقبلة.
أحمد مغربي- أحمد شعلان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد