مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل (2)
خطيب بدلة: ذكرت لكم أن صديقتي السكرتيرة الجميلة خفيفة الظل أهدت إلي أوراقها المبعثرة التي تشبه المذكرات، وأذنت لي أن أقوم بترتيبها وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء، وإليكم الورقة الثانية من أوراقها.
(الثالث من أيار..):
دخلتُ مكتبي في الثامنة والنصف، كان "المعلم" قد طلب مني البارحة أن آتي مبكراً لمساعدته في التحضير لاستقبال وفد وزاري سيصل إلى مدينتنا خلال ثمان وأربعين ساعة. جلست وراء مكتبي ورحت أبحث عن قلم عريض لأكتب فيه عبارة وأعلقها على الباب تنص على أن المعلم اليوم مشغول ولا يمكن أن يستقبل أحداً.
ولكن المعلم وصل، وكان مسرعاً، وطلب مني أن ألحقه إلى مكتبه لكي نباشر العمل. وما إن دخل مكتبه وأغلقت الباب حتى سمعت أصوات عدة رجال في الخارج، وفهمت من أصواتهم المتداخلة أنهم قادمون برفقة رجل ذي شأن بينهم لزيارة "المعلم".
استأذنته وخرجت إليهم.
كان الرجل البارز بينهم في حوالي السبعين من عمره، طويلاً، محدودب الظهر، ذا شاربين كبيرين، يرتدي الزي البلدي، وعليه هيئة الوجاهة. وبمجرد ما أصبح في مكتبي ضرب الأرض بعكازه وقال:
- نريد مقابلة الأستاذ يا بنتي.
وقبل أن أبدأ بعرض ذرائعي التي تؤدي إلى الاعتذار عن تلبية طلبه قال:
- وقت وصل الأستاذ ونزل من سيارته شفناه. خليني أقابله وأنا بمقام عمه الكبير.
بعد قليل من الجدال خرج المعلم من مكتبه وسمح للرجل بالدخول، وغمزني بعينه غمزة فهمت منها أن أسارع إلى تقديم واجبة الضيافة له لكي يستعجل بالمغادرة.
اتصلت بالبوفيه وطلبت من أبي العبد أن يأتي بالقهوة المرة، وحينما أحضرها رافقته إلى مكتب المدير. الرجل شرب محتويات الفنجان وهزه إلى الأعلى دلالة على الاكتفاء. وقال: دايمة.
لاحظ المعلم أنه لا ينوي الانصراف بسهولة، فقال لأبي العبد: هات زهورات يا إبني.
أحضر أبو العبد الزهورات، شفط الرجل محتوياتها بسرعة فائقة، ثم وضع أصابعه فوق الكأس كناية عن أنه لا يرغب بالمزيد من الزهورات، وقال للمعلم:
- دايمة. إن شاء الله نشربها عندك وأنت في منصب أعلى من هذا المنصب. وأنا أعرف أن المنصب مهما كبر يبقى صغيراً على قدركم وقيمتكم.
ارتسمت ابتسامة قسرية على وجه "المعلم" وهو يسمع هذا الكلام، لأنه في الحقيقة لم (يعلِّق) نفسه في هذا العمل إلا بطلوع الروح، وبعد أن تعرض لمئة مذلة وخمسة آلاف إهانة، عدا عن تمسيح الجوخ.. و.. هل أقول الأحذية؟
شرب الرجل كأس الشاي الأخضر، بعد أن قدم له أبو العبد (دورين) آخرين من القهوة المرة، وغطى فوهة الكأس بأصابعه، وقال: دايمة.
وكرر عبارات المديح.
ههنا تفلتت براغي المعلم، فقال للرجل:
لا تواخذني عمي، أنا عندي شغل كثير، أرجوك قل لي بالمختصر، ماذا تريد مني؟
قال الرجل: الهيبة!
بدا المعلم وكأنه لم يفهم معنى الكلمة، فقال له باندهاش: الهيبة؟! شو بتقصد؟
قال الرجل: نسيت أن أعلمك أن الشباب، الله يطول عمرهم، ويقويهم، اتخذوا قراراً حكيماً بأن عينوني مختاراً لحارتنا. الآن، أريد من حضرتكم أن تحضروا لزيارتي في الحارة، في النهار وليس في الليل، وذلك لكي يراكم أهالي الحارة وأنتم قادمون، فتقع هيبتكم في نفوسهم، وبالتالي تكبر هيبتي أنا أيضاً في نفوسهم.
ضحك "المعلم" حتى كاد أن ينقلب على قفاه، وتمادى في الضحك حتى ظننت أن فيوزاً أو فيوزين من رأسه قد انضربا وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الجنون الصريح الذي يُقبل صاحبُه في العصفورية من دون تقديم (استدعا). ثم اقترب من الرجل وهمس له بكلام استطعت أن أتبين منه قوله:
- ورحمة الغوالي يا حجي.. (هيبتي) واقفة على شعرة، فلو نقصت مقدار أنملة لانتقلت زوجتي من مرحلة توبيخي على الطالعة والنازلة إلى مرحلة الضرب بالبابوج، وبالمليان، ولربما اقتدى بها موظفو الشركة.. وفهمكم كفاية!
المصدر: النور
إضافة تعليق جديد