قمح في الصحراء: شهادة في تجربة كتابية
الجمل: ليس سهلا ان تكون شاعرًا من حلب وليس مطربا ، تلك المدينة التي تصنع عشرات الأصناف من الكبة، وما يوازيها من الأطعمة التي تُتخم رجالها وتزيد من بياض نسائها ، تلك المدينة التي تستقبل نهارها بأعذب أصوات مؤذني الفجر ، وتختتم ليلها بصباح فخري ، وبين هذا وذاك تتراكم ثروات وتمر مياه كثيرة في نهر حياتها لتصبح عراقتها ماركة عالمية ، وأصالتها بوابة وطنية تعزف عليها ذاكرة الغرباء الذين جاءوا إليها مستعذبين العيش في مقاهيها وحاراتها الضيقة والذين سرعان ما يكتشفون طريق دمشق أو بيروت ، مدينة تضرب عميقا في حيادها تجاه الحداثة و تقف موقفا حائرا بين الوله التركي وبين الجذر العروبي ، مدينة تعيش نهارا صوفياً وليلاً ملوناً من حياة لذيذة وشبه سرية .. من تلك المدينة وشروطها الفاحصة لم يكن سهلاً أو ممتعا ان تكتب قصيدة نثر و الكل حولك يغني ( قل للمليحة ) .
في جامعة حلب مطلع الثمانينات غامر مجموعة من الشبان لتأسيس تجمع أدبي أطلقوا عليه (ملتقى الجامعة) حيث مرت من تحت عباءته اسماء كثيرة هي اليوم في راهن المشهد الابداعي، في تلك الملتقيات حدثت المعادلة لمن لا يمتلكون صوتا جميلا ليصبحوا مطربين ، لكنهم كانوا يغنون بطريقتهم وكانت أصواتهم تتضح معالمها في ظل رعاية ناصعة للأب المؤسس الدكتور فؤاد مرعي ، الذي كان حاضرا معظم دورات الملتقى ، رفيقا و صديقاً للجميع على اختلاف ميولهم الفكرية و السياسية ، تجربة الملتقى تلك انتميتُ إلى بواكيرها وخضت في سهولها فاعلاً و منشطاً وواصلاً لتيارها كلما انقطع أو تراخى، مشجعاً ومناصراً قبل ان اذهب إلى لبنان جنديا ، لأشهد حربا لست طرفا فيها ولم أخضها ، ولكني خرجت منها بجرح روحي كبير عالجته بكتابي الأول ( قبل الحرب ، بعد الحرب ) حيث فاز بجائزة يوسف الخال للشعر مطلع التسعينيات عندما أغلقت خلفي باب المكان الأول مغادراً إلى الخليج.
بعيدا عن مؤثرات ترفع حرارة النص واصلت مغامرة الكتابة ولكن من منبر اخر، حيث دخلت الصحافة من بوابة الأدب ، محرراً و مراجعا و أميناً للتحرير ، وصولا ادارة التحرير مرورا بتجربة تلفزيونية و اخرى اذاعية فكانت حصيلة المكان بكل تجلياته الصاخبة و الغريبة كتابي الثاني ( خزانة الأهل ، سيرة الجدران) وفيه نصوص لها بعدها الجغرافي ، لكن التجربة الأهم عندما عملت على تأسيس ملحق متخصص لعروض الكتب العربية و الاجنبية منتصف عام 1997 بعنوان ( بيان الكتب ) في دبي حيث كان علامة فارقة في الصحافة الثقافية العربية،وبعد مضي عشر سنوات على صدوره أطلقت ملحق (مسارات) المعني بفن العيش أو بـ ( ثقافة العيش ) حيث تتجاور الثقافة والفنون و البصريات و مفردات الشارع و الرصيف لتؤلف نشيدا واحداً مغايراً للسائد ، وكانت تجربة جريدة البيان في إصدار الملحقين من التجارب التي ترفع لها القبعات .
طيلة تلك السنوات التي قاربت العشرين في الخليج سارت القصيدة على خط موازٍ للصحافة ، قصيدة نهلت من خزين الطفولة و تصالحت مع الحياة ولم تقاطعها لصالح بدائل اخرى فقد كانت طفولتي تكبر كلما ضربت الغربة بعيدا في جغرافيتها ، وقد أفرزت تلك المرحلة كتابي الثالث ( حديقة الغرباء ) وفيه تلك الصداقة مع المهمل والمتروك و العادي من يومياتنا ، صداقة وجدت فيها شعراً مليئاً بالعذوبة والحنان ، لقد كان المكان حاضنة سياحية وليس حاضنة أمومية لذلك قلّت تأتيراته شعريا ، وخاصة ان الذاكرة الأولى كانت تشتد خصوبة كلما امتد زمن الابتعاد .
في مطلع العام 2008 صدرت مجموعتي الشعرية الرابعة ( شامة ليل ) واصبح عمر التجربة ربع قرن ، لكن السؤال الذي يستحق ان نطرحه بجدية كبيرة أين الكتابة النقدية من كتابتنا، وهنا لا أتحدث عما هو ذاتي فقط بل عن مجمل تجربة الكتابة الجديدة سورياً وعربياً ، أو بين قوسين : قصيدة النثر الثانية ، الكتابة الشفوية ، الأنبياء الصغار أو الأنبياء الجدد و هي جمعيها مصطلحات للتداول السريع اعلاميا دون تأسيس قرائي منهجي ، لقد كانت كتب (البياض المهدور) لخضر الاغا و (مدائن الوهم) لعبد الواحد لؤلؤة و (استعادة المشترك الانساني) لعزت عمر على أهميتها صرخات متفرقة في أودية بعيدة لا تشكل صوتا قويا وواضحا لنقد يواكب التجارب الكتابية .
ولأن حياتنا العربية بلا نقد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي فاننأ نسير على طريق شديدة الوعورة ليس أدباً أو شعراً فقط .
نحن جيل بلا نقاد!
حسين درويش
شهادة شعرية قدمت في ملتقى الشعر بدمشق
إضافة تعليق جديد