فيروز تعيد دبي الى ما قبل السبعينيات
كلما تصاعدت فيروز في الزمن، كلما أوغلت عميقاً في الصبا وحكايات الطفولة ودروب القرى الوادعة عند القمم والسفوح. كأني بتلك السيدة وهي تفتح خزانتها وتنتقي منها أغنيات حفلها في دبي الليلة قبل الماضية، تصر على استعادة تلك الأيام بأجوائها الشعرية التي تلامس الروح، وتلعب على أوتار القلب.
ويبدو أن فيروز بذلت جهداً وهي تنبش الذكريات، وتنقب عن الأحلى من جواهرها، وربما يكون ذلك لطبيعة الأمسية التي أقيمت دعماً لمركز دبي للتوحد، ورعاها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم والذي تقدم في كلمته الموجهة إلى الحفل بالشكر الجزيل إلى السيدة فيروز «سفيرة الفن المحترم والذوق الرفيع»، وإلى كل من ساهم في إنجاح هذا الحدث.
ولم تكن قاعة «أوديتوريوم» التابعة للجامعة الأميركية في دبي، التي احتضنت الحفل، تتسع لأكثر من ألف محب. إذ أن هؤلاء تهافتوا باكراً على شراء التذاكر المخصصة، فنفدت خلال فترة بسيطة، ما جعل المنظمين يضعون مقاعد إضافية لضيوف تمت دعوتهم قبيل الأمسية بأيام معدودة.
كانت الساعة تشير إلى التاسعة والربع، حين اكتمل النصاب، جمهور جاء من مختلف إمارات الدولة، انضم إليه عشاق صوت فيروز من دول خليجية مجاورة، وبلدان عربية أخرى.
بدأت أضواء القاعة بالخفوت ومضة ومضة، ليضاء بعدها المسرح مع دخول الفرقة، وكل منهم قصد مكانه، كانوا أكثر من أربعين عازفاً من لبنان وسوريا وهولندا وأرمينيا، اجتمعوا في حضرة السيدة فيروز مع قائدهم المايسترو الأرميني كارن دورغريان، بينما اتخذ كورال مؤلف من خمسة شبان وخمس فتيات ركناً يقع إلى الجهة اليمنى لنجمة الحفل.
في المستهل، حضرت الموسيقى، وربما الأثير لدى فيروز موسيقى مسرحيات نجلها زياد الرحباني التي تكررت كثيراً في حفلاتها على مدى السنوات الأخيرة. حيث عزفت الفرقة بتوزيع جديد المقدمة الموسيقية لمسرحية «سهرية» التي تعود للعام 1973، وهي باكورة أعمال زياد، وكان حينها لا يزال في السابعة عشرة من عمره.
ثم أطلت فيروز بفستانها الأصفر الذهبي، فقامت القاعة مصفقة بحرارة لدقائق عدة. بينما ابتسمت السيدة، وبادلت الجمهور بالتحية، محنية رأسها، لتبدأ بعدها بأغنية «سهر الليالي»، ويشاركها الجمهور: «كان عنا طاحون عانبع الميّ». بعدها راحت فيروز تشدو قصيدة جبران خليل جبران «أعطني الناي وغنِّ»، من ألحان الإعلامي اللبناني الراحل نجيب حنكش، وسط تفاعل جمهور من أجيال مختلفة طغى عليه الحضور الشبابي بشكل لافت.
ومرت فيروز على موزار وغنت «يا أنا يا أنا» من أنغام السمفونية الأربعين التي ألفتها الآذان في الشرق والغرب، لتتجه بعدها نحو الكواليس. فقد درجت السيدة فيروز خلال حفلاتها الأخيرة على توزيع فقراتها الغنائية، بحيث يشدو «الكورال» ما بينها عدداً من الاسكتشات والمقاطع الغنائية التي قدمها الرحابنة في مسرحياتهم العديدة. وهكذا قدم «الكورال» اسكتش «سيف المراجل»، و«شو بتقولي يا نسوم»، و«رجعت حليمة لعادتها القديمة»، ورافقته القاعة بالتصفيق والهتاف.
ومع ذلك، ظل الجمهور مصوباً النظر نحو تلك «الفتحة» في الستائر الزرقاء «الفيروزية»، التي خصصت لمرور السيدة خلال استراحاتها، بانتظار الأغنيات التالية. وما إن بدأ عزف موسيقى «عم يلعبوا الولاد» خرجت السيدة فيروز من خلف الستارة لتشدو بصوتها الحنون هذه الأغنية الرائعة التي لامست قلوب الحاضرين في القاعة، بينما كان عدد من الشبان والصبايا المتحمسين يصيحون في أنحاء مختلفة من القاعة «نحبك يا فيروز».
وتوالت أغنيات الأمسية، فشدت فيروز من قديمها الجميل «علموني» و«غيّروا أهل الهوى»، ثم قدم الكورال «شوها الأيام» من أعمال زياد الرحباني، تلتها «يا شيخ المشايخ»، و«هدوني» التي غناها نصري شمس الدين كواحدة من الأغنيات الخالدة في مسيرته الفنية المتميزة.
وعادت فيروز مجدداً عبر البساط الأحمر الممدود لخطواتها من الكواليس حتى الميكروفون، وغنت «يا قمر أنا وياك» و«شتي يا دنيي» و«احكيلي» التي صفق لها الجمهور طويلاً، إذ أنها لم تنشدها منذ فترة طويلة لتخرج بمرافقة التصفيق الحار منهية الفصل الأول من الأمسية.
بعد عشرين دقيقة، هي زمن الاستراحة، عادت الفرقة إلى المسرح، ورفع «المايسترو» عصاه ليبدأ العازفون بأداء المقدمة الموسيقية الرائعة لمسرحية زياد الرحباني «فيلم أميركي طويل» التي قدمت بتوزيع بديع، وكان ظاهراً خلالها تأثر المايسترو دورغريان، وهو يتمايل برشاقته المحببة التي أضفت نكهة أخرى مميزة على الحفل. ودخلت فيروز وهذه المرة بفستان عاجي مرصع، ومتشحة بوشاح حريري من اللون ذاته، لتغني «فايق يا هوى»، واتبعتها بأغنية «تلال الزراعين» برفقة الكورال، وفي هذا الوقت ارتفعت في القاعة المناديل التي لوح بها الأحبة. ثم غنى الكورال «يا شيخ المينا» ليعيد الناس إلى ذكريات الموانئ وتعب الصيادين.
ومع خفوت الإضاءة، تقدمت فيروز مرة أخرى، لتغني «سنرجع يوماً» من ألبوم «راجعون» الذي أصدره «الرحابنة» غداة نكسة العام 1967. فشهقت لها الصدور، ودمعت العيون. ثم أتبعتها بأغنية «يا ريت إنت وأنا بالبيت» فأذهلت الحاضرين بجمالية أدائها. وتلتها أغنية «حمرا سطيحاتك حمرا» التي تناجي فيها القرى الجبلية الهادئة، فظن كثيرون أنها أغنية جديدة، علماً أنها تعود لأكثر من خمسين سنة مضت. وصفق بعدها الجمهور طويلاً لأغنية «بعدنا من يقصد الكروم»، وواصلت فيروز شدوها، فغنت «اشتقتلك» من أعمال زياد الرحباني الأخيرة وهي الأغنية الوحيدة الجديدة في برنامج الأمسية، إذا ما نظرنا إلى تواريخ الأغنيات التي سبقت، فمعظمها يعود إلى ما قبل السبعينات.
واقترب ختام الحفل مع أغنية «أمي نامت عابكير» من مسرحية «بياع الخواتم»، لتتوارى بعدها فيروز خلف الستائر الزرقاء، لكن الجمهور وقف كله، يصفق بحرارة، فاستعادها للمرة الأولى فانحنت تحية حب ثم غنت «كان الزمان وكان» ثم «زوروني كل سنة مرة»، وتخرج، لكن الجمهور ظل يطلب المزيد بعد تصفيق لدقائق عدة، عادت فيروز ثانية، وحيت الجمهور بانحناءة حب أخرى، وعادت إلى الكواليس، بينما كان المايسترو والفرقة شاخصين الى إشارة من يدها، واستمر التصفيق يتصاعد بحرارة، لتطل السيدة للمرة الثالثة وتشير بيدها إلى المايسترو، وتغني للجميع أغنية «الوداع» منشدة «بكرة برجع بوقف معكم، إذا مش بكرا لبعده أكيد». ثم لوحت بيديها لجمهورها الذي تقبل هديتها الأخيرة، بينما كانت الابتسامة ترتسم على وجه هذه السيدة التي ألهبت المشاعر ومكامن الحنين إلى الطفولة والأمكنة الأولى.
البيان / إسماعيل حيدر
إضافة تعليق جديد