سامر عمران عن «المهاجران»: الرقابة في عقولنا
مغتربان متناقضان في كل شيء، أحدهما مثقف والآخر أمي، يعيشان في أحد أقبية الغرب، ويتقاسمان الخمر والخيبات والأحلام في ليلة رأس السنة، المثقف يرغب في تأليف كتاب عن الحرية والتغيير، والأمي يريد أن يجمع المال لشراء منزل في بلده، وبين هذا وذاك تتكاثف الدلالات التي تدين أحادية السلطة والتفكير، وهذه باختصار كانت المحاور الأساسية التي دارت حولها تفاصيل مسرحية «المهاجران» التي قدمتها أمانة دمشق عاصمة الثقافة العربية عن نص بالعنوان نفسه للكاتب البولوني سوافومير مروجيك، صدر أواسط سبعينيات القرن العشرين في أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وقام د. سامر عمران بنقله الى العربية واخراجه في مغامرة جريئة سعت نحو كسر المألوف، ونثر الحياة اليومية، بدءا من إنزال المتلقي الى ملجأ رطب ومعتم في حي القزازين كمكان للعرض، مرورا بالجلوس قبالة شخصين يتجاذبان أطراف الحديث لمدة ساعتين ونصف الساعة، انتهاء بفضاء فقير خال من أي مؤثرات جمالية، ومع ذلك فإن الاعداد المتقن الذي نقل الزمن الى اللحظة الراهنة وألغى الحواجز بين بيئة الشخصيات الأصلية والبيئة السورية، الى جانب الحوار الرشيق المتماسك والمحمل بالروامز، والأداء الجميل للمخرج والفنان محمد آل رشي، والسخرية السوداء التي سرت في كل التفاصيل، أمور جعلت من هذا العرض أحد أهم العروض التي قُدمت على المسرح السوري خلال العام الحالي ان كان على المستوى الفنى، أم على المستوى الفكري. وحول تفاصيل هذه التجربة المميزة كان لنا الحوار التالي مع المخرج السوري سامر عمران:
} «المهاجران» هي المسرحية الثانية على التوالي التي تخرجها عن نص للكاتب البولوني مروجيك، فلماذا هذا الكاتب بالذات؟
- عموما أنا أختار النص الذي يلامسني كإنسان فكريا وعاطفيا أولا وقبل أي شيء، كما هو الحب من النظرة الأولى، أختار النص الذي يمتلك بنية متماسكة وتكويناً فنياً وقيمة درامية عالية، والذي يفتح أمامي آفاقاً لتحويل لغته الأدبية الى لغة فنية موازية، مجسدة ومرئية. وقبل أن أتعامل مع نصوص مروجيك أخرجت نصوصا لكتاب آخرين «عشاء عيد ميلاد طويل» للكاتب الأميركي ثورنتون وايلدر، و«حسب تقديرك» للكاتب الايطالي بيرانديللو، وحين كنت أدرس الاخراج في بولونيا (1992-1998) قرأت مسرحيات كثيرة باللغة البولونية، لكني حين قرأت مروجيك اكتشفت كم يملك هذا الكاتب روحاً انسانية عالية، وكم بإمكان نصوصه أن تتواصل مع كل شعوب العالم، وحين قرأت له «المهاجران» أذكر انني قلت لأستاذي هذا الكاتب ليس من بولونيا إنه سوري، فقد لامس أعماقي. انه كاتب عالمي بحق، ولذلك ترجمت بعض مسرحيات مروجيك الى العربية وقدمته على المسرح السوري، ترجمت له «الأرامل»، كما ترجمت وأخرجت له مسرحيتي: «الحدث السعيد» و«المهاجران» وهذه لن تكون آخر محطاتي معه لما يتمتع به من فكر عميق، وقدرة هائلة على بناء نص فيه شخصيات من لحم ودم، تحمل فكرا، لكنها ليست مؤدلجة شعاراتيا.
} بماذا التزمت، وماذا حذفت أو أضفت أثناء ترجمة النص الى العربية واعداده؟
- النص كما هو بلغته الأم، لم يتغير، ولم أتصرف به، لكني تعرضت لإشكالية اللغة الفصيحة والمحكية عند ترجمته، فهذه الاشكالية ليست موجودة في اللغة البولونية، بينما في اللغة العربية الفصيحة موسوعة بحد ذاتها والعامية موسوعة هي الأخرى، واشكال النص أننا أمام شخصيتين متناقضتين، واحدة مثقفة جدا، والأخرى أمية جدا، فإذا ترجمت النص الى العامية، فسوف تتضرر شخصية المثقف، واذا نقلته الى الفصيحة سوف تتضرر شخصية الأمي، فاخترت الحل الوسط، اللهجة الدارجة، لكنها المتفصحنة بالنسبة الى المثقف، وكي يصل العمل ويلامسنا ويعنينا كان لابد من جعل بعض المفردات خاصة ببيئتنا، هذا كله حدث بالتعاون مع الدراماتورغ د. أسامة غنم الذي جاء بنسخة فرنسية عن نص «المهاجران» وعقدنا مقاربة بين النسختين الفرنسية والبولونية، وهذه المقاربة أعطتنا خيارات جديدة، وزادت من سوية اللغة المحكية، وكان لهذا التعاون أثره الايجابي في بلورة الرؤية الفنية والفكرية للعمل.
} ادخال الشتائم النابية ومفردات الشارع السوري الى بنية الحوار، كان بمثابة مغامرة جريئة جدا من قبلك، فهل هو النص الأصلي، أم هي الرغبة في تعميق احساس المشاهد بواقعية ما يرى؟
- هذه هي لغة الشخصيات كما جاءت في النص، هكذا كانت تتكلم، فلماذا علي أن أجعلها تتكلم بلغة مهذبة؟ حينها سوف تفقد الشخصية صدقيتها، ثم نحن في أحاديثنا اليومية ألا نأتي على ذكر الكثير من الألفاظ النابية، فلماذا علينا أن نحذف هذه الألفاظ من المسرح وهو ابن الآن. وهنا، اعتقد أن الرقابة موجودة في عقولنا أكثر مما هي موجودة على أرض الواقع، وقد تجاهلت هذه الرقابة لمصلحة الخروج بعرض حقيقي وصادق.
} اخترت قبوا مهجورا ورطبا كي يكون مكانا للعرض، فما هو سر هذا الخيار؟
- مكان العرض في النص الأصلي هو خشبة المسرح التقليدية، لكن الملجأ هو مقترحي الخاص، الذي تبلور في ذهني منذ أن بدأت العمل على العرض، بحثت عن هذا المكان لفترة طويلة، وعثرت عليه بمساعدة الأمانة العامة لاحتفالية دمشق. بالنسبة إلي لم يكن ممكنا أن يتم العرض خارج الملجأ لأنه مكان حقيقي، كان لا بد من انزال المشاهد، كي يعيش مع الشخصيتين في ظرفها الاستثنائي، ويشعر بمعاناتهما ويضحك معهما، لم يخطر ببالي أن أقدم العرض على المسرح، لأن البعد بين المتلقي والممثل سوف يفقد العرض معناه، كذلك لم أضع عناصر عرض بالمعنى التقليدي للكلمة، مجرد طاولة وسريرين وكرسيين وشمعة ولمبة، مع أنه في البداية كان لدي كم هائل من الصور والحلول التي استبعدتها لمصلحة تقديم عرض صادق، كانت مغامرتي بأن أكسر المألوف، أن أنزل المشاهد الى القاع من دون جماليات تقليدية أو فبركة. ففي هذا العصر، التكنولوجيا البصرية قادرة على خلق مشاهد بصرية مبهرة من حيث الشكل، أما في ما يخص المسرح فإن الانسان هو الأساس، وهو رهاني، وهذا أكثر ما جذبني الى النص، شعرت أن الاخراج في هذا العرض وفي غيره يعتمد بشكل مباشر على الممثل الانسان، وما عدا ذلك هو فبركة ممسرحة، أعتقد أنها باتت مملة.
} ربما هي المرة الأولى التي تؤدي فيها دور احدى الشخصيات في عرض لك، فلماذا كانت تلك الخطوة، ولماذا اخترت شخصية المثقف، وكيف تنظر الى شراكة المخرج لفريق التمثيل؟
- من حيث المبدأ أنا لا أحبذ عمل المخرج كممثل في عرضه، لان العرض يحتاج الى قائد من الخارج، لكن ما حدث أن الممثل الذي كان يقوم بدور المثقف تعرض الى ظروف صعبة اضطرته للانسحاب قبل خمسة وعشرين يوما من الافتتاح، ولم يكن أمامي حل لإنقاذ العرض سوى أن أقوم بأداء الدور، فدخلت اللعبة لأقصاها، وبالمصادفة كان الدور قريباً مني جدا، وفي البداية كنت أصور التدريبات كل يوم بالفيديو، وأشاهدها في نهاية اليوم، وأكتب ملاحظاتي حولها، وأعيد الأداء وفق الملاحظات.
} أبدى الفنان محمد آل رشي مقدرة لافتة على أداء دور الانسان البسيط بأدوات مختلفة تماما عما هو سائد في الدراما السورية، فهل هي الادارة الجيدة للمخرج، أم أنه اجتهاد الفنان؟
- منذ اللحظة الأولى عرفت أن محمد هو من سيقوم بهذا الدور بالشكل المطلوب، لكن اجتهاده وايمانه بما يقوم به كان غير عادي، ولا أستطيع أن أقول متى بدأ هو كممثل، ومتى بدأت أنا كمخرج، عملنا معا، ولولا ذلك لما وصلنا الى هذه السوية، لقد بلور شخصية مدهشة حقا، فاستطاع بعفوية مطلقة أن ينتج شخصية كان من الممكن ان تكون نمطية جدا، لكنها بدت غنية جدا رغم ضحالة فكرها، ومن قوانين المسرح أن الشخصية الضحلة تحتاج الى ممثل ذكي، والشخصية الفقيرة تحتاج الى ممثل غني من الداخل، وهذا ما قام به محمد، وأنا أعتقد بأنه ممثل استثنائي، يمتلك طاقات مذهلة لا يزال جزء كبير منها في حالة الكمون.
عموما أستطيع أن أقول أن سر نجاح هذا العمل هو الشراكة، كنا جماعة رائعة: أسامة غنم كدراماتورغ، ومحمد آل رشي ممثلا، ومحمد قزق منفذاً فنياً الديكور، ورامي فرح مخرجاً مساعداً، جميعنا عشقنا التجربة، وقدمنا أفضل ما لدينا، والمسرح بحد ذاته عمل جماعي، والنص يدين أحادية التفكير، وما كان بإمكاننا أن نصل حيث وصلنا الا بشكل جماعي.
} في «المهاجران» اكتشف الجمهور صوتك الجميل، حين غنيت (وترحل صرختي في واد...)، فما هي علاقتك بالموسيقى والغناء، وما هي شروط ادخال الأغنية الى العرض المسرحي؟
- منذ كنت في المدرسة وأنا على صلة بالموسيقى، أعزف العود وأؤلف، ولدي مكتبة موسيقية نادرة من المعزوفات العالمية والعربية، وان كنت لا أوافقك الرأي على أن صوتي جميل، فإن رأيك يثلج صدري، وليس من الضرورة أن يملك الممثل صوتا جميلا، لكن من الضروري أن يعرف كيف يغني، وعلى الأغنية ان دخلت العرض أن تحمل هدفا دراميا، وأن تكون كلماتها مرتبطة ببنية المسرحية، وأغنية (ترحل) لم تكن موجودة طبعا في النص الأصلي، لكن حين انكسرت كل الحواجز بين الشخصيتين في لحظة انسانية خاصة من لحظات رأس السنة، غنى الشخصان، ووظفت كلمات الأغنية في سياق مختلف، فالإخراج هو القدرة على اعادة صياغة العناصر من جديد.
} وهل كان لعلاقتك بالموسيقى أثرها على ضبط ايقاعات العرض المسرحي؟
- احساس المخرج بالإيقاع ليس مسألة نظم شكلية، وانما هو الاحساس بالصراع، فللصمت ايقاع، وللكلام ايقاع، والشخصية في حد ذاتها تملك ايقاعها الخاص، وعلى المخرج أن يستشعر كل هذه الايقاعات التي تشبه الى حد بعيد النبض، انها مثل صورة تخطيط القلب، خط متذبذب يصل الذروة ثم يعاود الهبوط.
} مقولة العرض أدانت السلطة الواحدة وعبادة الذات والقمع، وهي ادانة جاءت محمولة على روافع فنية حقيقية، فما هي العناوين الأساسية لخلق فن يوازي ما بين القيم الفكرية والقيم الجمالية؟
- لا أوافقك الرأي بأن المقولة تتعلق بالسلطة السياسية فقط، فالمقولة تدور حول أحادية التفكير عبر معاناة شخصيتين من نتاج هذه الأحادية، والسؤال بالنسبة الي كان لماذا يهاجر عامل بسيط الى الغرب كي يجمع المال، أليس المفترض أن يفعل ذلك في بلده؟ ولماذا يرحل المثقف عن بلده كي يكتب حول التغيير؟ لماذا لا يتم ذلك وهو في بلده؟ كي يعيش الاثنان في النهاية أسوأ عيشة ممكنة، هذا ناتج من أحادية التفكير التي تتجاوز مفهوم سلطة بعينها، فقد تكون سلطة الثقافة أو الدين، وأنا هنا لا أتحدث عن ديمقراطية وشعارات رنانة، وانما عن ضرورة وجود أكثر من رأي، في الفن في الدين في السياسة. المؤلم أن تكون محاولة هذا المثقف في تطوير هذا العامل وغيره عندما كان في بلده هي سبب هربه. أعتقد أن وضوح الصورة لدى المخرج ولما يريده من النص يؤدي الى وضوح وسائله وأدواته وأدوات تعبير العاملين معه، فيأتي الجمال كَلَبوس للمضمون، وليس شكلاً جمالياً مجردا.
بطاقة المخرج
سامر عمران من مواليد دمشق 1964. إجازة في التمثيل من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق. دكتوراه في الاخراج المسرحي من بولونيا. أدخل مادة الايماء التقليدي الى منهاج المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق (1998) وشغل منصب العميد في المعهد بين (1992-1996). أخرج أربع مسرحيات هي: «عشاء ميلاد طويل» (2000)، «حسب تقديرك» (2004)، «الحدث السعيد» (2006)، و«المهاجران» (2008).
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد