أوروبـا علـى أبـواب الانشـطار إلـى معسـكريـن غـنـي وفقيـر
استباقاً لقمة كبرى الدول الصناعية المزمعة في نيسان المقبل في لندن، وضع زعماء دول الاتحاد الأوروبي خلال قمة اقتصادية في بروكسل أمس، اللمسات الأخيرة على خططهم لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية، وسط خلافات داخلية حادة، ومؤشرات على تقليص التضامن مع الأعضاء الأضعف، والتوجه نحو محاربة الحمائية، والتركيز على إعادة هيكلة أسواق العمل أكثر من أسواق المال، فضلاً عن محاولة استثمار السوق الأوروبية المشتركة.
وخيمت على القمة الأوروبية غيوم الخلافات الداخلية وعلى رأسها رفض طلب تقدمت به المجر، نيابة عن دول شرق ووسط أوروبا، وبدعم النمسا، بمعونات مالية جماعية قدرها 180 مليار يورو (228 مليار دولار)، تُضاف لمبلغ 24,5 مليار يورو نالتها مصارف هذه الدول من بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية والبنك الدولي، في27 شباط الماضي.
واحتدمت الخلافات إلى حد التهديد بتصدع صفوف الاتحاد، بين «كتلة» شرق أوروبا ووسطها من ناحية، و»كتلة» غربها من ناحية أخرى. وبرر رئيس الوزراء التشيكي ميريك توبولانيك، الذي تتولى بلاده حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، رفض الطلب المجري بالقول إن «هذه الفكرة القائلة بتقسيم أوروبا بين دول قديمة العضوية ودول حديثة العضوية، بين شرق وغرب... هي مقاربة رفضناها بوضوح». لكنه طمأن إلى ان المؤتمرين متفقون على أن «جميع الدول الأعضاء ستحصل على المساعدة اللازمة عند الاقتضاء... لن نترك أحداً على قارعة الطريق».
وأشار رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو إلى أن دول أوروبا الشرقية نفسها، باستثناء المجر، «لم ترد» إقرار خطة كهذه، نظراً لأن «الأوضاع متفاوتة للغاية» بين بلد وآخر ضمن دول أوروبا
الشرقية، وبالتالي «ما من سبب محدد لمعالجة منفصلة لمجموعة محددة من البلدان». من جهته، حذّر رئيس الوزراء المجري فيرنتش جيورتشاني من تشكّل «ستار حديدي جديد يقسم أوروبا إلى جزأين» غني وفقير.
وتبدّى الانقسام أيضاً في رفض دعوة المجر إلى تقليص فترة السنتين التمهيديتين للانضمام إلى منطقة اليورو. وتنتظر المجر وبولندا وبلغاريا ورومانيا وتشيكيا، ودول البلطيق الثلاث، نيل عضوية اليورو، التي يشترط لمنحها الخضوع لعامين من المراقبة المالية. وقال جيورتشاني إن الوقت حان لتوحيد أوروبا «مالياً واقتصادياً»، بعدما تمّ توحيدها سياسياً في أعقاب انهيار المعسكر الشيوعي في بداية التسعينات.
وحمل هذا الانقسام بولندا على الدعوة الى عقد اجتماع مسبق للقمة الجماعية، بمشاركة الدول التسع المنتمية للكتلة الأولى وحدها، انطلاقاً من مخاوفها أن تدير دول غرب أوروبا ظهرها لها، وسعيا للتدليل على وحدة موقفها ومطالبتها بتطبيق مبدأ التضامن. وذلك في وقت أعلن فيه توبولانك أن الرئيس الأميركي باراك أوباما وافق على المشاركة في قمة بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، تعقد في الخامس من نيسان المقبل في براغ.
لكن دول غرب أوروبا تتعلل بمشاكلها الخاصة في مواجهة الركود الاقتصادي، وإسعافها الباهظ الكلفة لمصارفها، ومعدلات البطالة المتعاظمة، والتدهور السريع في أسواقها المالية، واضطرارها لانتشال قطاعات إنتاجية كصناعة السيارات الذي تعتزم ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والسويد مساعدتها.
هذه النقطة الأخيرة أثارت بدورها موجة إضافية من الخلافات حول توجه أوروبا نحو حمائية جديدة ـ تتزعمها فرنسا وإيطاليا وسط غضّ طرف أوروبي ـ بين أعضائها من ناحية، وفي مواجهة الصناعات الأميركية من ناحية أخرى. لكن المؤتمرين الأوروبيين أكدوا، في بيان القمة الختامي، أن «الحمائية ليست الرد على الأزمة الحالية»، مطفئين بذلك فتيل سجال مستمر حول هذا الموضوع منذ أسابيع. أضاف البيان أن دول الاتحاد ستركّز على «استخدام السوق (الأوروبية المشتركة) إلى أقصى الحدود لدعم النموّ والعــــمل»، وهي سوق تضمن حرية حــركة البـــضائع والخدمات والأشخاص والرساميل.
ودار سجال عنيف خلال الأسابيع الماضية بين الرئاسة التشيكية للاتحاد الأوروبي، وفرنسا، اثر كشف باريس عن خطة لدعم قطاع السيارات صنفتها براغ في خانة الحمائية. وسعى رئيس الوزراء التشيكي أمس، إلى نزع فتيل هذه الأزمة، قائلاً «اتفقنا اليوم (أمس) على أن نقول انه ليست هناك أية حالة (بين دول الاتحاد) يمكننا اعتبارها إجراء حمائيا» يشكل «خرقا لقواعد التنافسية».
ويعلل قادة الدول الأوروبية الغنية خططهم هذه، بأن الاتحاد قد أنفق 2,5 تريليون يورو بشكل ضمانات لتغطية القروض المصرفية ونسبة من إيداعات المدخرين، وسبعة مليارات يورو كمساعدات إضافية للدول الحديثة العضوية، و25 مليارا كرزمة محفزات للدول الأعضاء التي لم تنضم بعد لمنطقة اليورو.
أما عن أسواق العمالة، وموجة الإضرابات العمالية التي اجتاحت فرنسا وتهدد إيطاليا ضمن دول أخرى، فقد ظهرت بوادر أوروبية لإعادة هيكلة شروط التعاقد، لإضفاء ما تصفه منظمات أرباب العمل بـ»المرونة» على هذه العقود، أي تسهيل إجراءات فصل العاملين والاستغناء عنهم من دون تعقيدات قانونية أو نقابية.
ولعلّ أكثر المقترحات إثارة للقلق والدهشة خلال القمة، اقتراح رئيس الحكومة الإيطالية سليفيو برلوسكوني بقوننة «الإضرابات الافتراضية»، أي بالسماح للعاملين بممارسة حقهم الدستوري في الإضراب، ولكن مع التزامهم بأداء عملهم أثناء فترة الإضراب وبصورة اعتيادية (!)، مع خصم ساعات أو أيام «الإضراب الافتراضي» من أجورهم، لصالح صندوق لخدمات اجتماعية غير محددة...
وفي نهج التأجيل الذي لوحظ في غير قمة اقتصادية مؤخراًَ، أعلن باروسو والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في ختام القمة، أن الاجتماع توصّل إلى «اتفاق شامل» حول «إطار مشترك... لمعالجة الأصول (المصرفية) المتعثرة» التي تعتبر مسؤولة عن الشلل الراهن في قطاع القروض، لكنه اتفاقٌ مؤجل الحسم إلى قمة الاتحاد المزمعة في بروكسل في 19 و20 آذار المقبل. وأوضح ساركوزي أن الاتفاق يترك لكل دولة «قدرا كبيرا من المرونة في تحديد الأصول المؤهلة» للمعالجة، مشيرا إلى انه سيتم وضع «إطار أوروبي لضمان حسن سير السوق الداخلية».
وأعلن ساركوزي ان مجموعة العشرين قد تدرج سويسرا على اللائحة السوداء للجنات الضريبية إذا طبقت عليها معايير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. وقال ردا على سؤال حول إمكانية إدراج سويسرا على اللائحة السوداء للجنات الضريبية التي تعدها حاليا مجموعة العشرين، ان هذا الامر «يتوقف على إجاباتهم». وأضاف «لكن في الوضع الراهن للامــــور وعلى اســـاس منظمة التعاون والتنمية الاقتصـــادية، فإن الجواب هو على الأرجح نعم».
كل هذا في وقت تبدو فيه أوروبا غير راغبة في فرض آليات تنظيم ورقابة صارمة على قواعد التعــــاملات المالية، رغم أن غياب آليات كهذه كان في أساس وقوع الأزمة المــــالية العارمة التي انطلـــقت من الغرب، وخاصة من الولايات المتحدة، وجرفت معها دول العالم كافة حتى أفقر فقرائها.
باهر كمال
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد