رحلة بين صفحات مذكرات الشابي
"آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني،
وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية"
"المذكرات- الخميس 16 جانفي 1930"
أدب المذكرات أو اليوميات جنس أدبي ظهر في الغرب انطلاقا من القرن التاسع عشر، وشاع في القرن التاسع عشر، وشهد رواجا هائلا خلال القرن العشرين. وفي البداية لم تكن المذكرات أو اليوميات موجهة للجمهور العريض إذ أن أصحابها كانوا يبتغون من خلالها رسم صورة خاصة بهم وحدهم، لذا هم يسمحون لأنفسهم بالبوح بما يعتمل في نفوسهم من أفكار وهواجس، وفيها يكشفون عن أسرارهم، وعن نواقصهم، وعن أمراضهم النفسية، وعن عجزهم في هذا المجال أو ذاك. كما أنهم يعبرون عن أفكارهم وآرائهم في العديد من القضايا خصوصا عندما يكون الواقع السياسي مانعا من ذلك.
وقد مارس أدب المذكرات أو اليوميات كتاب وفنانون كبار من أمثال فلوبير ودستويفسكي واندريه جيد وشربان وتوماس مان وفرجينا وولف وستراندبارغ وكافكا وآخرين كثيرين.
أما في الأدب العربي فقد ظل هذا الفن الأدبي، أي أدب المذكرات أو اليوميات غير مرغوب فيه حتى من قبل أكثر الكتاب والشعراء دفاعا عن الحداثة. وفي أدبنا التونسي، يمكن أن نقول أن الشابي كان استثناء في هذا المجال، مجال أدب المذكرات أو اليوميات. فلا أحد من الأدباء القدماء أو المحدثين طرقه. ورغم قصرها، فإن مذكرات الشابي التي شرع في كتابتها يوم الإربعاء فاتح جانفي/يناير 1930، وأنهاها يوم 6 فيفري/شباط من العام ذاته، تشكل وثيقة رائعة من خلالها يمكن أن نفهم خفايا شخصية الشابي، ونتعرف على أفكاره وأرائه بخصوص الحياة الثقافية في بلادنا، وبكل ما يحيط بها من ملابسات، وما يتصل بها من قضايا تتعلق بالشعر والأدب عموما.
وأول ما نقوله هو أن الشابي تجلى لنا من خلال مذكراته شاعرا حداثيا بالمعنى الحقيقي للكلمة.
وممارسته لهذا اللون الأدبي في عالم عربي يجهله أو يتجاهله دليل قاطع على ذلك. لذا يمكن القول بأنه كان سباقا في هذا المجال. وبالرغم من أنه لم يكن يعرف لغة ثانية، أو كان "يحلق بجناح واحد" كما كان يحب أن يقول، فإن قراءتنا لمذكراته تجعلنا نستنتج أنه كان عارفا بهذا اللون الأدبي، أي أدب المذكرات، وملما بأصوله. لذا جاءت مذكراته متطابقة تمام التطابق مع مذكرات كبار الكتاب والشعراء الغربيين..
قلنا إن الشابي شرع في كتابة مذكراته فاتح شهر جانفي/يناير 1930. وقبل ذلك، وتحديدا في خريف عام 1929، فجع بوفاة والده الذي كان متعلقا به تعلقا شديدا. وقد سقط والده مريضا في صيف العام المذكور، فلازمه الشابي، وكان يكابد الآلام والغصص وهو ينظر إليه يذوي ويذبل أمامه. وكانت تلك الأيام سوداء كـ"قطع الليل". في رسالة بعث بها الى صديقه محمد الحليوي، يقول الشابي إنه لا يذكر أنه قد مرت عليه فيما سلف من عمره "أيام أنكد من تلك الأيام وأشد".
وعندما توفي والده، كتب إلى الحليوي يقول "إن المصاب قوي جسيم وإن قلبي الرازح بهموم البشر لأضعف من أن يضطلع بكل ما في الدنيا من مصائب. أين صبرك يا رب؟ فقد ضاق علي الوجود؟ وأين سلواك فقد مزقت صدري الزفرات؟".
وفي المذكرات، تحضر صورة الأب بقوة. وهذا ما يؤكد تعلق الشابي بوالده، وتكشف لنا الآلام والأوجاع التي ظل يكابدها بسبب ذلك. ففي مذكرات 12 جانفي 1930، كتب الشابي يقول "ولكنني أدري أنني لا أنام الا وبأجفاني خيالات الدموع وأشباح الأسى، سآوي الى فراشي وستتجاذبني الأحلام المخيفة المزعجة والذكريات الأليمة الدامية، ذكريات الأمل الضائع والقلب الصديع، وسأرى أبي، آه نعم.. ذلك الأب الذي قد شق له الناس لحده وسوروا عليه التراب، وبقيت بعده في الحياة آلم وألذ وأسر وأحزن". وبنغمة أشد حزنا وأسى، نغمة الشاعر الرومانسي المفجوع بالموت، يضيف الشابي قائلا "وأراه- أي والده- وقد شمله الموت براحته، فأصبح ساكن الطائر، متزن النفس، تخاله في حلم النائم المطمئن، والنساء يبكين في قلب الليل ويملأن فجاج الأفق برنات النياحة، وأنا كالطائر الذبيح أكاد أجن من الحزن والنحيب". ومخاطبا قلبه يقول الشابي في نفس المذكرات "لقد مات أبي أيها القلب! فماذا لك بعد في هذا العالم. مات أبي وظللت أنتحب وأنوح وأبكي بكاء النساء".
وتحضر صورة الأب مع صورة آخرين رحلوا عن الدنيا، أو فرقت بينهم سبل الحياة، في مذكرات فاتح جانفي/ يناير 1930. ويرى الشابي نفسه صبيا صغيرا ينظر إليه والده بـ"وجهه الباسم الضحوك، ومن عينيه تفيض عواطف الأبوة الراحمة الحنون". كما يراه وهو "يحادثه بصوته الهادئ الرزين". وتحضر في ذهنه جولة قام بها بصحبته في جبل زغوان حيث كان يعمل. وها هما يصعدان معا الجبل حيث أشجار الصنوبر ذي العطر الأريج. ثم يتوقف الأب ليشير بيده إلى السهول المخضرة المترامية، بينها تتناثر كثير من الأكواخ الجميلة والقصور الأنيقة التي تشابه حمامات بيضاء واقفة بين المروج.
وتسيطر النغمة الرومانسية الحزينة على جزء كبير من المذكرات، بل تكاد لا تخلو منها. وبهذه النغمة يفتتحها ويكتب قائلا "في سكون الليل، ها أنا جالس وحدي، في هاته الغرفة الصامتة على مكتبي الحزين، أفكر بأيامي الماضية التي كفنتها الدموع والأحزان.. وأستعرض رسوم الحياة الخالية التي تناثرت في شريط ليالي وأيامي، وذهبت بها صروف الوجود إلى أودية النسيان البعيدة النائية". ويضيف قائلا "أنا جالس وحدي في سكون الليل، أستعرض رسوم الحياة، وأفكر بأيامي الجميلة الضائعة، وأستشير أرواح الموتى من رموس الدهور. ها أنا أنظر إلى غيابات الماضي، وأحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب".
وعادة ما تكون هذه النغمة الرومانسية الحزينة مشوبة بالتفكير في الموت، موت الأب أو موت الأصدقاء. وها الشابي يفكر في هؤلاء، ويكتب قائلا "ها أنا انظر فلا أجد شيئا مما رأيت. لقد ذهبوا كلهم الى عالم الموت البعيد.. وتفرقوا شيعا في أودية المنون الصامتة. فما عدت أراهم حتى الأبد في مسالك هذا الوجود. وما عدت ألقاهم حتى الموت في صحراء هذه الحياة. لقد احتجبوا عني حتى الأبد وبقيت وحدي في هذا العالم. أناديهم من وراء الوجود. ولكن عبثا أدعو فإنهم بعيدون عني لا يسمعون نداء روحي، ولا صرخات قلبي الغريب.. لقد ذهبوا كلهم وبقيت ههنا وحدي أنا في وحدتي وانفرادي في سكون الظلام".
وتكشف لنا المذكرات إحساس الشابي بالغربة إنسانا وشاعرا. وهو يصف هذه الغربة بـ"الأليمة". ويقول إنها "غربة من يطوف مجاهل الأرض، ويجوب أقاصي المجهول، ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا".
ومن خلال المذكرات، ندرك أن الشابي كان يعلم أنه شاعر يختلف عن الشعراء الآخرين في الأسلوب، وفي رؤيته للشعر وللحياة عموما. لكنه يرفض التنازل عن المبادئ التي آمن بها حتى لو كلفه ذلك ثمنا غاليا. وفي مذكرات يوم الثلاثاء 7 جانفي/يناير 1930، يكتب قائلا "الآن أدركت أنني غريب بين أبناء بلادي. وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر، فترتل أغاني أرواح الشباب المستيقظة، وتدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغة مفكرة سيخلقها المستقبل البعيد". غير أن الأمل سرعان ما ينطفئ ومن جديد، يستبد اليأس بروح الشاعر الحزين، فيكتب في نفس المذكرات يقول "أما الآن فقد يئست، إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسه الجميلة، ولا يفقهون صورة واحدة من صور الحياة الكثيرة التي تتدفق بها موسيقى الوجود في اناشيده .الان ايقنت انني بلبل سماوي قذفت به يد الالوهية في جحيم الحياة فهو يبكي وينتحب بين أنصاب جامدة لا تدرك أشواق روحه، ولا تسمع أنات قلبه الغريب.. وتلك هي مأساة قلبي الدامية".
وذات يوم جلس الشابي إلى أديبين يعرفهما جيدا، وبعد أن استمع الى أرائهما في شعره، ازداد إحساسا بالغربة شاعرا وإنسانا، واستحوذت عليه سحابة سوداء من اليأس والقنوط. فقد أدرك أن هذين الأديبين لم يفهما شيئا من عالمه الشعري.. لذلك فضل البقاء صامتا، وهو يقول في نفسه "لست والله غير طائر غريب يترنم بين قوم لا يفهمون أغاني الطيور. ولكن هل يحفل الطائر بالوجود حين يترنم؟ هل يسأل الناس أيكم يفهم أغاني الطيور؟ كلا! يا قلبي.. كلا سر في سبيلك يا قلبي.. ولا تحفل بصفيرالابالسة .. فإن وراءنا أرواحنا تتبع خطاك".
أما الجانب الآخر الذي يتجلى لنا من خلالا المذكرات فهو شغف الشابي بالطبيعة. ومثل كل الشعراء الرومانسيين الذين اكتشفهم من خلال التراجم، وأيضا من خلال صديقه محمد الحليوي، هو يهرب إلى الطبيعة كلما اشتد إحساسه بالغربة، وإليها يلجأ فرارا من لغط الناس، وضجيج أشباه المثقفين الذين يهيمنون على المشهد الثقافي هيمنة تكاد تكون كاملة. وعادة ما تكون حديقة "البلفدير" المكان الطبيعي المحبب للشاعر، ففيها "يمتع نفسه بالطبيعة الجميلة الساحرة، وبأسراب الغواني المتبخطرات بين الأغصان الوارفة وخلال الخمائل التي تنمقها أوراد الأشجار البنفسجية". وفيها "يجلو عن نفسه ماران عليها من أقذاء الاجتماع وما علق بها من أباطيل الناس وأوهامهم وظلال الجدران الكئيبة العابسة".
وحين يكون الطقس جميلا، والشمس ساطعة، يحب الشابي أن يهرع الى الحقول مصطحبا معه كتابا أو صديقا. بل وأحيانا يأخذ معه ورقا وقلما ليسجل الخواطر والانطباعات التي تدور في ذهنه.وفي ذلك الوسط الشعري البديع هو لا يجلس منفردا على ربوة صغيرة تتصل بتلال كثيرة" ليفكر في أحلام الحياة، ويتملى جمال الوجود. وأحيانا تطوف بذهنه ذكريات متتالية كأسراب الطيور". وهو يتجنب قطف زهرة بل هو يعتبر ذلك جريمة منكرة فالزهرة بالنسبة اليه هي رمز الحياة وهي تشبه "الغانية على صدر عاشقها السعيد". وعندما تتحرك وريقاتها الصغيرة، هو يشعر كما لو أنها تهم بالكلام، أو لكأنها تحاول أن "ترتل أغنية الحب والجمال". وعندما يقف أمام زهرة متأملا نضارتها وجمالها، تتعمق رؤية الشابي للوجود وللحياة، ويكتب في مذكرات يوم السبت 4 جانفي/يناير قائلا "فقد كنت أحس بروح علوية تجعلني أحس بوحدة الحياة في هذا الوجود، وأشعر بأننا في هذه الدنيا سواء في تلك الزهرة الناضرة، او الموجة الزاخرة، أو الغادة اللعوب- لسنا سوى آلات وترية تحركها يد واحدة، فتحدث أنغاما مختلفة الرنات، ولكنها متحدة المعاني، أو بعبارة أخرى أننا وحدة عالمية تجيش بأمواج الحياة وإن اختلفت فينا قوالب هذا الوجود".
وتكشف لنا المذكرات اهتمامات الشابي الثقافية والفكرية، وغرامه الشديد بالمطالعة وكان يتردد على النوادي الأدبية، خصوصا نادي "قدماء الصادقية" ليتعرف على الثقافات الأخرى، خصوصا الثقافة الفرنسية، والثقافة الغربية بصفة عامة. وهو يتحدث عن لامارتين وعن انشتاين بتقدير كبير. بل لعله كان ملما بشيء من فلسفة برغسون "1859-1941" صاحب كتاب "التطور الخلاق" وكتاب "منبعا الأخلاق والدين" والذي اهتم في الكثير من بحوثه بالذاكرة، وبالعلاقة بين الجسم والروح. ومثل السورياليين، كان الشابي مهتما بعالم الأحلام، وهو يحاول تفسيرها، وعنها كتب يقول في مذكرات الثلاثاء 28 جانفي 1930 "إنني لا أظن الأحلام إلا ضربا من تعلات الحياة التي تكون لنا في يقظتنا آمالا وفي سباتنا أحلاما. فالعقل الباطن الذي نختزن فيه صورة من صور الآمال البعيدة، لا بد أن يحتال على إظهارها كشيء حقيقي، ولو في عالم الأحلام".
وعندما يعلمه أحد أصدقائه بأنه تمكن من حل مسألة هندسية غامضة في المنام، وكان قد عجز عن حلها في اليقظة أعلمه الشابي أنه كتب الشعر في حلم شاهد فيه منظرا طبيعيا ساحرا. وواصفا هذا المشهد، كتب يقول في مذكرات الثلاثاء 28 جانفي 1930 "رأيت أولا في الأفق قطعا من الغيوم منثورة، ويحيط بكل قطعة إطار من نور كلون الشفق، ثم تلاشى هذا المنظر، فإذا بي في قصر منفرد وبجانبي غادة رعبوب مرخاة الذوائب، وعلى السماء حجاب من غمامة كثيفة بيضاء. ثم انهل العطر من السماء وفاض في الأرض، ولكن بكيفية غريبة لم أشاهدها ولن أشاهدها. ذلك ان السماء لم تكن تمطر مطرا عاديا، ولكنه مطر يشابه رغوة الموج في بياضه، وكانت الأرض تفيض بمثل تلك الأمواج التي تخالط ما تنزله السماء. فكان اختلاطهما منظرا عجيبا رائعا لا أستطيع أن أصفه ولا أن أنساه".
وفي مذكراته، يعبر الشابي عن كرهه للوظائف وللأعمال الإدارية ذلك أنها تبعده عن عالم الشعر، وتحرمه من التحليق في الفضاءات الواسعة والعالية، وتقتل فيه الخيال والحلم والأمل، وتجعله كسيحا، عليلا غارقا في تفاهات الحياة اليومية حيث "البشر الجوف" بحسب تعبير ت. س. اليوت. وهو يصم أذنيه عندما يسمع البعض من أهله وأقاربه، ينصحونه بضرورة استغلال مكانة المرحوم والده، وشهرته، وعلاقاته بالأعيان وبالقصر للحصول على وظيفة سامية. ومرة اصطحب أحد أقاربه في زيارة إلى الوزير الأكبر الذي كان صديقا لوالده أيام الدراسة بجامع الزيتونة. وقد استقبله الوزير الأكبر استقبالا رائعا، ولامه كثيرا لأنه لم يزره بعد وفاة والده. مع ذلك تمسك الشابي بموقفه القديم، وأبى أن يستغل تلك الزيارة لأي غرض كان. وفي مذكرات يوم الأحد 26 جانفي 1930 كتب يقول "إنني شاعر وللشاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلا أو كثيرا مذاهب الناس فيها. وفي نفسي شيء من الشذوذ والغرابة أحس أنا به حين أكون بين الناس.. يجعلن أتبع سننا ورسوما تبحها نفسي، وربما لا يحبها الناس. وأفعل أفعالا قد لا يراها الناس شيئا محبوبا، والبس لبسة ربما يعدها الناس شاذة عن مألوفاتهم". وعلى نفس هذا النسق، يواصل الشابي الدفاع عن موقفه قائلا "أنا شاعر، والشاعر عبد نفسه وعبد ما توحي به اليه الحياة، لا ما يوحي إليه البشر ".." أنا شاعر والشاعر يحب أن يكون حرا كطائر في الغاب، والزهرة في الحقل، والموجة في البحار، وفي المناصب الشرعية بالأخص، خنق لروح النفس وقضاء على أغاني القلب، وإجهاز على راحة الضمير".
وضمن الشابي مذكراته العديد من آرائه وأفكاره حول قضايا تتصل بالأدب والشعر والنقد واللغة. وفي نقاش دار بينه وبين الأديب زين العابدين السنوسي صاحب مجلة "العالم" نرى أن الشابي كان يهتم باللغة الدارجة أو العامية. لكنه كان يرفض إدخال بعض الكلمات في الأقاصيص التي تهتم بالحياة الشعبية مثلما يفعل بعض الكتاب المصريين. وكان يرى أنه لا بد من تطوير اللغة العربية حتى تصبح قادرة على التعبير عن الحياة الشعبية. وفي مذكراته بتاريخ يوم الاثنين 13 جانفي 1930، كتب يقول موضحا موقفه هذا "على الأديب الشعبي الذي يريد أن يكون موفقا أن يخضع اللغة العربية وأساليبها لاحتمال المعاني الشعبية التي تحمل مطامح الشعب وميسمه. وبذلك تكون اللغة قد اكتسبت ثروة معنوية طارفة تضيفها إلى ما لها من كنز تليد. أو أن يدخل تعابير شعبية في اللغة العربية، على شرط أن لا تخل بروح العربية، ولا بقواعدها الأصلية. وبذلك يكون الأديب مخلصا للغة العربية، ومخلصا لفنه النزيه".
وردا على زين العابدين السنوسي الذي اتهمه بأنه يريد بعث "المذهب الرمزي" "Symbolisme" من مرقده، كتب الشابي في مذكرات الاثنين 20 جانفي 1930 يقول "لك أن تسمي طريقي بأي الأسماء تشاء، فأنا أعرف كيف أسمي، ولا يهمني معرفة أسمائها. وسواء علي أكانت تسميتها كما قلت أم خلافا له. وإنما الذي يهمني، والذي أود أن تعرفه هو أن أدعو الى الطريقة التي تسكن إليها نفسي، ويرتضيها ضميري ما استطعت إلى الدعوة سبيلا".
وعندما يتردد صديقه الحليوي في انتقاد كتابه "الخيال الشعري عند العرب"، يعيب عليه الشابي ذلك. وفي مذكرات يوم الثلاثاء 21 جانفي 1930، كتب يقول "كأنه يحسب، سامحه الله "يقصد محمد الحليوي" أن انتقاده علي ربما يثير حفيظتي، ويحرك في نفسي عوامل الغضب مع أنني لست من هاته الطائفة التي لا تفهم من النقد إلا عداء وسبابا، ولا ترفع قلمها إلا لغاية سافلة وغرض دنيء. لست والحمد لله من هاته الطائفة. ولكنني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ومن الذين يسرون بكل انتقاد لا تكون غايته غير الحقيقة ولا مصدره غير الإخلاص" ويرى الشابي أن الانتقاد ليس "شيطانا يبث بذور الشقاق وإنما هو ملاك يحمل سراج الحقيقة في سبيل الإنسان".
ومثلما فعل في الرسائل التي تبادلها مع صديقه محمد الحليوي، انتقد الشابي في مذكراته وبكثير من الحدة والعنف، خمول المثقفين التونسيين، وكسلهم، وتقاعسهم عن انجاز المشاريع التي يعدون بها الناس. وفي مذكرات يوم الاثنين 27 جانفي 1930، كتب يقول "لقد أصبحت يائسا من المشاريع التونسية، ناقما على التونسيين لانني اراهم يقولون كثيرا ولا يعملون الا قليلا.وانني اراهم نبغاء في بسط اراهم ونظرياتهم. والتحمس لها يدفعك إلى أن تؤمل الآمال الكبار، وتعتقد أنك تخاطب لوحا متجسدة في فكرة تلتهب، حتى إذا جاء دور العمل، تمزقت تلك البراقع، وخمدت تلك النزوات، وتكشف البرقع البراق عن وجه الحقيقة الأربد، وإنجاب طلاء الشباب ونضارة الفتوة المستعارة عن تجعدات الشيخوخة وقبور الخمول".
وفي مذكراته لا يخفي الشابي نفوره من المتطفلين على الثقافة والأدب، ومن المداحين الذين لا هدف لهم من وراء ما يقولونه أو يكتبونه إلا التمسح بأعتاب أصحاب الجاه، والثروة، ومن أصحاب البلاغة "المتقعرة"، من محدودي الآفاق، ومن الذين لا يتقنون غير النفاق والرياء والكذب على أنفسهم وعلى الناس. ويمكن القول إن العديد من القضايا الأدبية والثقافية التي أثارها الشابي في مذكراته لا تزال قائمة إلى حد هذه الساعة. كما أن العديد من الجوانب السلبية في ثقافتنا، والتي انتقدها في هذه المذكرات، لا تزال هي أيضا ماثلة للعيان على نفس الصورة التي كانت عليها قبل ثمانين عاما..
حسونة المصباحي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد