مثاقفة مع الذهبي بخصوص حذاء الكيالي
يستحق منا الصحفي خالد سميسم الشكر والتحية لقاء مبادرته لإعداد حلقة خاصة عن الأديب الكبير الراحل حسيب كيالي ضمن برنامج "الهوا شمالي" على قناة المشرق الفضائية.. فالمبادرة بحد ذاتها تستحق التقدير، لأن حسيب كيالي، عدا عن كونه إدلبياً، قامة أدبية سورية، وعربية، وعالمية ذات خصوصية وفرادة، ومن الصعوبة، بل هو شيء أقرب إلى الاستحالة، أن تتكرر.
والحقيقة أن ظهور الروائي السوري خيري الذهبي ضمن الأدباء الذين تحدثوا لبرنامج "الهوا شمالي" عن أستاذنا حسيب قد سرني- لأول وهلة- فالأستاذ خيري كاتب ذو وزن اعتباري، وهو، من جهة أخرى، صديقي الشخصي، وقد احتفلنا معاً في إدلب (سنة 2005) بالراحل حسيب ضمن الندوة التي أقامتها وزارة الثقافة لتكريمه، ولم يعكر صفو صداقتنا شيء منذ أن تعرفت عليه قبل حوالي عشرين سنة وحتى الآن، وأدباء إدلب الآخرون ينظرون إليه بالسوية نفسها من المحبة والاحترام.
ولكن الأستاذ خيري فاجأنا، ضمن سياق حديثه عن حسيب، بعبارة مسرفة في غرابتها، وهي التالية:
- "كل أدباء إدلب الحاليين يتمنون أن يلبسوا حذاء حسيب كيالي!!!.."
وأراد أن يشدد على هذه المعلومة فأوضح قائلاً:
- "كلهم من دون أي استثناء.. من خطيب بدلة إلى تاج الدين الموسى إلى نجيب كيالي.. وهم ما يزالون بعيدين كل البعد عن هذا الأمر".. (يقصد أننا ما نزال أقلَّ عن مستوى لبس الحذاء)!..
ودقر لحظة متفكراً ثم قال:
- "اعذروني فإنني لا أتذكر بقية أسماء كتاب إدلب"!
هنا، وبالإذن من الأخ والصديق الروائي خيري الذهبي، أحب أن أسجل، على سبيل المثاقفة، بعض الملاحظات:
أولاً- أعتقد أن هذه العبارة تنتمي إلى جنس التعميمات المتسرعة، أو غير المسؤولة، أو اللامبالية التي يطلقها بعض المتحدثين إلى المحطات الفضائية الذين يُدْلُون بدلائهم في أي موضوع كان، مباشرة، ومن دون تحضير. ومن ثم يمكن القول على طريقة المخرجين التلفزيونين إن الأستاذ خيري (عَكّ في هذا المونولوج)، أو أن جملته (عاكّة)، وكان يجدر به، وهو المعروف بلباقته، أن يطلب من (الكاست) الفني إعادة تسجيل العبارة على نحو أقل إيذاء لنا، أو أن يأخذوا لها (take two).. يعني: أن يصوروها بطريقة أخرى ويبقى من حق المخرج أن يختار أحد التسجيلين.
ثانياً- إن هذه البهدلة التي كالها لنا الأستاذ خيري الذهبي، من دون داع أو مسوغ، ذكرتني بسلطانة الكوميديا العربية السيدة سهير البابلي حينما كانت تمثل دور (سُكَيْنَنَه) مقابل الفنان أحمد بدير الذي كان يلعب دور (عبد العال) في مسرحية (ريا وسكينة) إذ قالت له:
- الملافظ سعد يا عَبْعَال!
ثالثاً- إن الحديث عن كتلة أدبية اسمها (كتاب إدلب)، أو (أدباء إدلب) أو (قصاصو إدلب)، يصل هو الآخر إلى قمة الغرابة، ولو تفكرنا فيه قليلاً، على نحو نقدي، أو على نحو موضوعي، أو على نحو منطقي، لخرجنا بنتيجة مفادها أن هؤلاء الكتاب قد (ضُربوا زوم دهان، أو زومين) بلون واحد (طَلْس)، أو ربما (رُشُّوا) برشة (تيروليه) في واجهة كتلتهم، وكُتِبَتْ في الأعلى عبارة (الملك لله).. وهي العبارة التي يكتبها المؤمنون الحقيقيون في واجهات بيوتهم، ويكتبها، كذلك (الحرامية) الذين يعمرون بيوتهم وفيلاتهم من أموال الشعب المختلسة، على حد تعبير أديبنا المتميز "تاج الدين الموسى" في إحدى قصصه.
وإذا سمح لي الأستاذ خيري الذهبي فإنني سأتبع في هذه المسرودة طريقةَ (الشيء بالشيء يذكر)، التي برع فيها أساتذتنا الكبار الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وحسيب كيالي، وأخبرُ حضرة وجناب الأخوة القراء الأكارم بأننا نحن (كتاب إدلب) قد تعرضنا لمثل هذا الاستصغار الذي خصنا به "الذهبي" أكثر من مرة في السابق.
منها أن رجلاً جاء إلينا ذات مرة بمحاضرة أطول من نهار بلا خبز تحدث فيها نقدياً عن (كتاب القصة في إدلب) وألقاها علينا بوضعية (دراكاً)، وهي، كما تعلمون، أصعب من وضعية (رشاً) وأكثر إيلاماً وإيذاء.
إنها محاضرة تستحق الفرجة مثل الضبع والضبعة في بازار معرتمصرين- على حد تعبير أستاذنا الكبير حسيب كيالي نفسه- قال فيها (أقصد الناقد المحاضر لا الضبع) إن خطيب بدلة أصدر كذا مجموعة قصصية، الأولى عنوانها كذا كذا، أصدرها في السنة الفلانية، تقع في كذا صفحة من القطع المتوسط، تحتوي على تسع قصص، ثلاث منها طويلة تتجاوز الواحدة منها ألفي كلمة، وأربع منها متوسطة الطول (حوالي ألف كلمة) وقصتان قصيرتان لا يزيد عدد كلمات الواحدة منها عن ثلاثمئة كلمة، والمجموعة الثانية عنوانها كذا صدرت سنة كذا..
وبمجرد ما انتهى من (نقد تجربة خطيب بدلة) انتقل إلى تاج الدين الموسى، وذكر عناوين مجموعاته وتواريخ صدورها وعدد القصص في كل مجموعة وطول كل قصة، ثم (باشر) بنجيب كيالي.. (هون بيوجعك، هون ما بيوجعك).. إلخ. انتهت المحاضرة.
وبينما كان حضرتُه نازلاً فينا وفي الحاضرين لطماً وتبكسياً على الوجوه كيفما اتفق.. لاحظ أنني أتململ ولا أصغي جيداً، فزجرني زجر المحب المعاتب وقال لي:
- أهكذا يكون جزائي يا فلان؟.. أهذا لأنني كتبتُ نقداً عن أعمالكم القصصية وأتيت من آخر معامر الله إلى إدلب لكي أقرأه عليكم؟
فقلت له إن بإمكانه أن يكتب على ما كتبه (نقد) مثلما يفعل البقالون حينما يعلنون عن بضاعتهم بقصاصة مربعة من الكرتون عليها اسم البضاعة ومواصفاتها وسعرها ويغرزونها في قلب البضاعة في أعلى الكيس، لئلا (تنفضهم) دورية التموين (ضبطاً) لا تقوم لهم بعده قائمة!
رابعاً- إن للمرحوم حسيب مصطلحات لا يعرفها إلا أصدقاؤه الخلص، والداعي لك واحدهم، فقد كان يستخدم الفعل الماضي (توكل) بمعنى (مات)، وكذلك يستخدم جملة (وهذه كانت لها)، بمعنى أن هذه الحركة كانت آخر حركة تجريها المرحومة قبل أن (تتوكل). وقد أخبرني الأستاذ غازي أبو عقل أن حسيباً كان يقول حينما يستفزه أحدٌ ما:
- أخي، هذا الرجل، قررنا أن نكتب (بحقه)!
وهي مقتبسة من طريقة نسوان إدلب في الكلام، فإذا سألت إحداهن: لماذا أنت متزاعلة مع فلانة؟ تقول لك: لأنها حكت (بحقي) كلاماً، وأنا، وكسر الهاء وعقد اليمين، لم أقل (بحقها) كلمة واحدة!.. ولكنني بعد الآن لن أسكت عنها، وسأقول (بحقها) كل شي.
من هنا، وبالإشارة إلى ما قاله الأستاذ خيري الذهبي (بحقنا) نحن كتاب إدلب، سأسأل:
- كيف عرف الذهبي أن كتاب إدلب كلهم من دون استثناء يتمنون أن يلبسوا حذاء حسيب كيالي وهو لا يحفظ سوى أسماء ثلاثة منهم؟ هل يقصد أن الآخرين كائنا من كانوا هم من متمني لبس الحذاء، تحصيلاً لحاصل؟!
- هل يعقل أن يكون اسم الكاتب نجم الدين سمان من الأسماء التي لا يمكن حفظها بسهولة؟ ثم إن المرحوم أبا نجيب السمان، أقصد أبا نجم، كان حلبياً، والسيدة أم نجم إدلبية، فمع مَنْ يصنفه الأستاذ خيري الذهبي؟ لعله يقصد أن الشق الإدلبي من نجم يتمنى أن يلبس حذاء أستاذنا حسيب كيالي مثلنا! (إذا كان المقصود هو هذا فقد استقام المعنى!)
ثم: هل يعتقد الأستاذ ذهبي أن محمد قرانيا وعارف الخطيب وعبد الرحمن حلاق متأثرون بحسيب كيالي إلى درجة تمنيهم لبس حذائه مثلنا؟ أم أنه لا يعدهم قصاصين إدلبيين على الإطلاق؟! أم أنه لم يسمع بهم؟!
خامساً- كتب حسيب كيالي قصة ضمن مجموعته المخطوطة "حكايات أهل بلدة س" تحدث فيها عن البوسطة الوحيدة التي كانت تنقل الركاب بين إدلب وحلب، وكان بعض أهل البلد يعتقدون أن مكابحها مصنوعة من خيطان المصيص! وزعموا أنها تعرضت ذات مرة لحادث أدى إلى قص أحد جوانبها، فوجد الركاب أنفسهم (على القاشق!).. أي برزوا إلى الخلاء!
وقد صعد إلى البوسطة قبل مغادرتها بلدة إدلب سجينٌ مخفور بدركيين، وحينما عرف الركابُ أنه (قاتل قتيل) احتفوا به لقناعتهم أن الرجل لا يقتل إلا من أجل الشرف والعرض والشهامة.. السجين روى لهم قصته فقال إن القتيل كان صديقه من الروح للروح، وقد زاره وهو يبيع الموز على العربانة، ألقى القاتل سخانية (يعني: نكتة) فلم يضحك لها، فكركره بسكينة الموز في خاصرته، فكرت مصارينه!
تيقن الركاب من أن الرجل قتل صديقه من دون سبب مهم فازدروه، واحتقروه، وأداروا له ظهورهم! بينما سر الدركيان العتليتان لهذه النكتة وضحكا لها.
سادساً- الحقيقة هي أنني ذكرت هذه الحكاية لما فيها من معان عظيمة، أهمها قتل الصديق لصديقه (أو مجموعة من أصدقائه كما فعل خيري الذهبي) دون مسوغ.
وأما كلمة (سخانية) فهي مشتقة من السخونة، لأن أهل إدلب يقولون عن الرجل البارع في التنكيت (دمه سخن)، و(دمه يغلي غلي).. ويقولون للاختصار (مسخن).. ومنها اشتقت كلمة (سخانية)، بمعنى نكتة!
ذات مرة ألقى كاتب (مسخن) (سخانيةً) أمام كاتب مسخن آخر أراد منها أن يغمز من قناتنا نحن الثلاثة المذكورين أعلاه، ودون مسوغ أيضاً. ملخصها أن خطيب بدلة يكتب قصة من الأدب الضاحك، يقرؤها لتاج الدين الموسى ونجيب كيالي فيضحكان، وفي اليوم التالي يكتب نجيب كيالي قصة، فيضحك لها خطيب وتاج، ثم يكتب تاج فيضحك خطيب ونجيب.. وهكذا حتى اعتقدَ كل واحد من هؤلاء الثلاثة (المُستَخَفِّ بهم) أنه كاتب خفيف الظل!..
وحينما وصل الكاتب (المسخن)- يبلاه بقتله على قولة أهل حلب- إلى قفلة (سخانيته) ارتفعت نسبة التنكيت لديه فاستحضر طريقة أستاذنا الكبير زكريا تامر في إقفال القصة وقال: بقي هؤلاء الثلاثة يضحكون حتى ضحكت المدينة- بما معناه- إشفاقاً عليهم وعلى عقولهم السخيفة!
(ملاحظة: عند زكريا تامر تختفي الأقفاص، وتتحول الحلبة إلى مدينة، ويتحول النمور إلى مواطنين).
الكاتب الذي تلقى السخانية- يبلاه بقتله هو الآخر- لم يكن قصير حربة، فكتبها ووضع عليها اسمه ونشرها بعد أن رمز لأسمائنا بالأحرف: خ ب- ت م- ن ك.. ليس من باب اللباقة طبعاً، ولكن ربما من باب الخوف على مشاعرنا من الأذى، على عكس صديقنا الأستاذ خيري الذي بهدلنا بالأسماء الصريحة. وهذه في الحقيقة شجاعة تستحق الاحترام.
سابعاً- بالشجاعة ذاتها تحدث الأستاذ ذهبي عن إقدام السيد علي عقلة عرسان على فصل حسيب من اتحاد الكتاب العرب، وقد ذكر نقطة مهمة جداً، وصحيحة جداً، وهي أن السيد عرسان لم يكون يطيق وجود كتاب كبار في اتحاده..
هذه الأمر معروف للقاصي والداني، ومعروف أن عرسان كان يتعامل مع أي كاتب ذي رأي بإحدى الطريقتين التاليتين: إذا كان عضواً في الاتحاد منذ القدم سعى إلى فصله كما فعل مع أدونيس وهاني الراهب وحسيب كيالي، وإذا كان كاتباً صاعداً يريد الانتساب إلى الاتحاد كان يقاوم هذا الأمر بكل ما أوتي من سلطة، وبالأساليب الشائعة.
بيد أن الأستاذ الذهبي غالى كثيراً في الحديث عن هذه النقطة، وتوصل إلى أن حسيب لولا عرسان لكان له شأن آخر!
هذا الكلام- برأيي- غير صحيح على الإطلاق، لسبب بسيط أن الانتساب إلى اتحاد الكتاب العرب أو البقاء خارجه لا يكبر الكاتب ولا يصغره، وذات مرة كتب إلي حسيب ما معناه أنه ذكر أمام أحد الكتاب الفرنسيين أنه عضو في اتحاد الكتاب، فدهش الكاتب الفرنسي وقال له:
- وهل للكتاب اتحاد؟ إن الكتاب يا صديقي وجدوا ليختلفوا، لا ليتحدوا.
ثامناً- ثمة أمران دفع أحدُهما أو كلاهما الأستاذَ الذهبي لأن يدلي بذلك التصريح المؤذي لمشاعر كتاب إدلب.
أولهما أن "الذهبي" هو الأقل بين أدباء سورية ومثقفيها معرفةً بالكيمياء الإبداعية لحسيب كيالي، وربما أنه لم يقرأ له سوى شذرات قصصية، أو بعض "المداعبات" الصحفية التي اشتهر بها حسيب، وإن كان يعرف عنه شيئاً، فهو يعرف أنه كاتب مهم، وساخر، هكذا بشكل عام، دون أن يكون في جعبته عوامل ومقومات تؤيد كلامه، ولو كان لديه مثلها لما أخفاها أثناء تسجيل برنامج "الهوا شمالي".
ثانيهما، أنه لا يعرف شيئاً يستحق الذكر عن أي واحد من (كتلة أدباء إدلب المضروبة وجهين دهان طلس).. وربما أنه قرأ في يوم من الأيام قصصاً متفرقة لأحدنا، ولكنها، وبسبب كون كتابها قليلي الأهمية- كما أشار هو- لم يعلق منها شيء من ذهنه، وأنا مستعد الآن أن أراهن على أن ذلك الناقد الذي نقدنا بطريقة الإحصاء الحسابية يعرف عن حسيب كيالي وعن كتاب إدلب أكثر مما يعرفه الأستاذ خيري الذهبي! وهذا، أعني الجهل، ليس معيباً بحد ذاته، إن المعيب هو أن يصرح رجلٌ ذو تاريخ أدبي عريق بفكرة على هذا القدر الكبير من الخطورة والإيذاء.. وهو لا يقدر على إثبات صحتها ولو بجملتين!
خطيب بدلة
المصدر: النور
إضافة تعليق جديد