الجبنة المجانية ومصيدة المثقف
الجمل - أيهم ديب: لو كنت رب عمل و فاجاءك مهندسك بموقف لا يروقك و كنت تشعر بأن لا غنى لك عن خدماته , إن هذا سيهدد سيطرتك عليه. و ستكون ابسط خططك هي زج المزيد من المتدربين الى جانبه بغية تفكيك سلطته, و بالتالي يمكن عندها تحويل الجميع- تحت ضغط المنافسة - الى عمال امينين لأن امن لقمتهم رهن بمدى وعيهم للعلاقة التي تربطهم بك. هذا الى حد ما يفسر سبب كرم المؤسسات الغربية في ضخها للأموال في البيئة الثقافية. فهي تخشى تشكل قوى ثقافية منقطعة في أصولها مع الغريب مما يجعل منها قوى مستقلة و غير قابلة للضبط في لعبة السياسة الكبرى التي تأخذ بعين الاعتبارر اهمية المثقف على مر التاريخ في تحريك القوى الشعبية الى صناعة القرار السياسي. لهذا لا بد من تمييع المشهد الثقافي من خلال الاغراق. و من خلال خلق تنافس يتم لاحقاً خلق قيم تتحكم بمحرضاته و دوافعه. و هنا تأتي ظاهرة الجوائز و المهرجانات التي باتت تنتشر كالفطر و يتم تبادل الأسماء من خلالها بما يشبه النخاسة. مع اشاعة فكرة حق الكون و حرية الماهية بحيث يمكن وضع الضبع الى جانب النعامة تحت شعار تنوع أشكال التعبير. بحيث يصبح التنوع هو الهدف و ليس الرؤية. يمكن هنا الحديث عن الوضع السينمائي حيث يتورط الجميع بمهرجانات تقوم بتكريسهم اليوم هنا و غداً تكرس أحمقاً ما هناك , فيضطر السينمائي الذي فرح بالأمس و طبل و زمر بمديح مهرجان لا تاريخ و لا منطق له أن يخرس اليوم و هو يرى خنزيرا ما يحتفى به. اصبحت المهرجانات كالمورفين. الجرعة الأولى مجاناً. هكذا فإن جائزة تكلفتها لا تتعدى تكلفة قذيفة دبابة توفر على الدول الكبرى الحاجة الى حرب باهظة. الجميع مدعوون بالمجان لينامو في فنادق فخمة, و سيأكلون بقسائم و سيتفاخرون بما لا يقدرون شخصياً على انفاقه. كان الفنان ياكل على مائدة الملك و السلطان , اليوم ياكل على حساب الشركات المساهمة في تمويل الثقافة. الملفت هو في مجال الفيلم الوثائقي حيث أن جل ما ينتج اليوم لا يتعدى كونه تفريغا للحاجة عن البحث عن الحقيقة من خلال خلق اهداف وهمية او ثانوية. فنحن نرى افلام عن الأطفال و عن المرأة و افلام سياحية.... و نرى السباق لكسب ثقة الشركات المنتجة التي ما ان تشعر بإحكام سيطرتها حتى تبدا بفرض قيمها و حاجاتها و مواضيعها. و هكذا يتم تفريغ العمل الوثائقي من عناصره الحرة و التي أحد أهمها : البحث عن الحقيقة و العمل الى تحويلها الى قيمة اجتماعية او سياسية.
في الفن التشكيلي تأخذ الحال مناح تصل حد التفاهة. حيث يتحول الفنان الى شريك في عمليات تزوير و فبركة و الغاية النهائية هي ارضاء غروره و حاجته للسمعة و بعض الضمانات المالية. لا تتورع المؤسسات الغربية من المشاركة في اللعب لأنها تضع تصب أعينها سوقاً مهماً تريد كسبه كما فعلت في السوق الغربي و هو سوق البلاد النفطية. و لا مانع ايضاً من تبييض المال السياسي على هامش عمليات الغش و التلاعب. و هنا فقط للتاريخ لا ضرر من تنبيه مؤسسات التأمين في سوريا و الدول العربية الى حادثة طريفة شهدتها مدينة لندن : خلال التسعينات قام رجل الأعمال تشارلز ساتشي بشراء أعمال فنانين شباب – بالمتر و بالكيلو غرام- و كان يضع عليها أسعار عالية جداً و إشارات بيع وهمية و كان يقوم ببعض الدعاية من خلال المزادات الشهيرة في اوروبا و منها سوذبي- لندن- . السيد ساتشي وصل في لعبته الى طريق يبدو شبه مسدود بالنسبة لأن السوق الغربي لا يمكن ان يخدع بعملية بسيطة مثل وضع نقطة حمراء وهمية. فماذا فعل السيد ساتشي؟ اعلن عن رغبته بفتح مزاد كبير يعرض فيه معظم العمال المقتناة لديه للبيع. و فجأة يحترق المخزن الذي يحتوي هذه الأعمال. و ينجو السيد ساتشي من فضيحة المزاد الذي لم يكن من المتوقع له البيع أبداً. و بعد فترة تنتهي التحقيقات في الحريق و تدفع شركة التأمينات للسيد ساتشي أضعاف قيمة الموجودات وفق الأسعار المسجلة لديها. و هكذا باع السيد ساتشي كل لوحاته قبل المزاد من خلال بوالص التامين مرسلاً كل فن الفنانين الشباب الطموحين الى جهنم . هل الحريق مفتعل ام لا؟ لا احد يعرف.
لهذا يجب ان تمتنع الشركات الوطنية من تأمين هذا النوع من العمل او المقتنيات. لأن الشركات الوطنية فاسدة على العموم – تجربة المجرب؟ - اما الشركات الخاصة فعليها أن تفرض الخصائص التي يخزن فيها العمل الفني.
يتساءل البعض ما الذي يجعل رجل في الخليج يشتري فنان سوري بملايين في الوقت الذي يستطيع شراء أي فنان من العالم ؟ الجواب هو ان الخليجي ليس غبي ابداً فهو يغدق على العاهرة مثلما يغدق على الفنان. إنه يتسلى. و له مآرب أخرى. فهو يدفع ثمن صلة الرحم. بينما ينغمس فنانينا في الخداع الرخيص. و بالمناسبة فن و خداع ليسا أفضل صديقين.
اليوم نرى هذا الاختلاف الديمقراطي حول أبسط قيم الحياة الحرة. و نحن نرى كيف اننا نتحدث عن جرائم الشرف في وقت تنتهك فيه كرامة الذكور و الاناث بتبني اساليب اقتصادية و مبادء ثقافية تلقى ترحيباً من قبل المواطن المحتاج و الغربي الشديد التطلب. هذا كله و يعتقد البعض ان هناك حراك اقتصادي و حراك ثقافي. هل يشم احدكم رائحة جريمة؟
إضافة تعليق جديد