علي الجندي: حياته شعر وشعره الحياة
غاب الشاعر السوري علي الجندي عن 81 سنة، بسبب المرض الذي أقعده طريح الفراش في السنوات الأخيرة، وبغيابه تنطوي صفحة من حياة ثقافية بامتياز كان علي أحد أقطابها البارزين. هنا شهادات من زملاء كتاب وشعراء عرفوه.
^ شوقي بغدادي:
مَن يرثيني بعدك
لم يكن موتك يا عليّ مفاجأة، فأنت متّ منذ سنين. هل تذكر حين التقينا في اللاذقية لآخر مرة؟ كنتَ مريضاً ممنوعاً من شرب العرق والتدخين. وهذه كارثة بالنسبة لك أكثر من الموت.
لماذا قسوت على نفسك إلى هذه الدرجة يا عليّ، أيها الصديق الشاعر الظريف الحديث منذ أكثر من خمسين عاماً!
أتذكره الآن بكامل أوصافه، زميلاً في كلية الآداب في جامعة دمشق، شاباً وسيماً أنيقاً ساخراً ضاحكاً باستمرار. أتذكره الآن محاطاً بزميلاته المفتونات به. أتذكره الآن وقد غدا موظفاً في دولة «البعث» الجديدة، مديراً للدعاية والأنباء (وهي وظيفة مثل وزارة الإعلام الآن) وقد اجتمعنا في مكتبه لتأسيس اتحاد الكتاب العرب. أتذكره الآن بالسهرات العامرة، كيف كان يسيطر على الجلسة بمنادمته الحلوة والمثيرة دائماً. أتذكره الآن أكثر من أي وقت مضى، لا لشيء، إلا لأن علي الجندي يعلن الآن بموته انقراض جيل كامل من المبدعين والملهمين المجددين.
لم يتبق أحد يا عليّ سواي ليرثيك، مَن سيرثيني بعدك!
هل أقول فيك ما قاله شوقي في حافظ؟!
رحمة الله عليك يا عليّ.. إذا وجدت باب الجنة موصداً في وجهك فما عليك إلا أن تتعلق بركاب أحد الصحابة، وسوف يدخلونك بالواسطة فتمهل ولا تيأس من رحمته، وهناك لن يمنعوك من الشرب والتدخين بالتأكيد، أما الجواري الحسان فدعك منهن، فهن أصل بلائك. إلى اللقاء يا عليّ.
^ نبيل سليمان:
لست شيئاً غير إني كلمة
ذات مساء من ربيع 1970 رأيت ذلك الشاب الساحر أول مرة، إنه حقاً بايرون، تلصصت عليه من فرجة الباب، نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي كان قد تأسس للتوّ برئاسة المرحوم وزير التربية آنئذ سليمان الخش، أي أن الرئيس الفعلي كان علي الجندي، الذي لقّب نفسه بـ(أبو لهب). بعد أربع سنوات شرّفني وزوجته آنئذ – القاصة المرحومة دلال حاتم ـ بزيارة منزلي: من باب العمارة اتجه إلى القبو. قلت له: إلى الطابق الأخير. قال: طبعاً، أين سيسكن مثلك، في القبو أو في الملحق، وحين رآني لا أدخن وكأسي مترعة بالماء نهرني غاضباًَ: كيف تكتب إذاً؟
بعد سنوات ترك دمشق، التي طال مقامه فيها، وحلّ في اللاذقية حتى غيابه. وعلى الرغم من أن مئات الأمتار فقط تفصل بين منزلينا، فقد كان لقاؤنا ما قبل الأخير منذ سنوات، إما بحضور صديق عمره (اللدود كما كان يؤثر القول) ممدوح عدوان، وإما بحضور سعدي يوسف، ما عدتُ أذكر.
أما لقاؤنا الأخير فلن يكون، ما دمت أتهجد في شعره منذ العهد بالجامعة حين قرأت له «الراية المنكسة» و»في البدء كان الصمت» حتى هذه الساعة التي ستحمله على مآقينا من اللاذقية إلى السلمية، وهو يفضح:
آه إني كلمة
آه إني كلمة
لست شيئاً، غير أني كلمة
ثم يفضح:
إنني أمتد، أمتد، أغالي في انتشاري
إنني أورق، أنساح، أواري
^ منذر مصري:
متْ قبلي وسأكتب عنك قصيدة.
(حذار أن تششرب البيرة أمام عمّي أحمد) ـ يغمغم علي الجندي مفتتحاً دعاباته ـ يمدُ يده ليتناول زجاجة العرق التي تقدمها له، ثم يضعها بجانبه مهمهماً: (فاجتنبوه).
كان علي يأتي من دمشق إلى اللاذقية ـ في قرّ الشتاء ـ وقيظ الصيف ـ كذئبٍ وحيدٍ أغبر ـ صابراً على جلسات مجاعيص الشعراء ـ شاربي البيرة ـ من أمثالنا.
(الزمن هو عدوّي ـ يدوس جسدي مخبّصاً عليه بقدميه الحافيتين ـ ويجعلني أشيخ وأموت ـ الموت لا أخافه ولكــن أن نشـيخ ـ هو العار بذاته).
بعد صمتٍ طويلٍ ـ قلت له: (أشعر أنك تكرهني) ـ أجاب: (اطمئنْ، لا أكرهك أكثر من غيرك).
يقهقه ممدوح قائلاً: (متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة) ـ يردّ (علي) بضحكةٍ صفراء: (متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً).. ـ 28/7/1990
كلاهما.. ممدوح عدوان وعلي الجندي كانا هدفين جميلين للموت. ممدوح الأصغر /1941/ مات منذ خمسة أعوام، لكن علي /1928/ كان قد اختبأ في مكان ما، فبحث عنه الموت طويلاً حتى يئس من أن يجده، فنسيه، وتركه يموت لوحده. ـ 22/12/2004
^ عادل محمود:
زهور افتراضية
في شهر آذار، مارس 2009، نبشت في أوراقي صفحتين بخط علي الجندي، كُتبت في فندق تونسي وصفاً لبعض الشعراء والرسامين والكتاب الموجودين في جلسة من جلسات علي الحميمة والضاحكة. وقررت أن أنشر هذه الأوراق، فنشرتها في جريدة «تشرين» السورية/ الملحق الثقافي. وكان عليّ أن أكتب المقدمة التالية (أستميح العذر بنشرها الآن، حيث لم يعد علي بيننا أبداً)
ـ الشاعر علي الجندي سجل اختفاءه الصارم منذ عدة سنوات، والسبب التقدم في السن وفقدان الأمل.
كل من تعرف إلى هذا الشاعر أدرك أنه من الأشخاص الذين يتقصفون كأغصان الشجرة الضخمة غصناً وراء غصن، حتى يبدو عليها، فقط، أنها موجودة في المدى اللا مجدي لحقل الحياة، مؤكدة ـ لفرط رسوخها ـ كم كانت على قيد الحياة.
كلّ من تعرّف إليه أدرك أن جيلاً من الشعراء، الذين لم تعرف لهم مهنة إلا الشعر، سوف ينقرض، ويبقى في الذاكرة تلك الشخصيات الحريفة، الحادة، المتطاولة والجميلة.
كان علي شديد الاهتمام بمن/ وما يظهر على وجه الأرض من أزهار الشعر،.. والشر. ولذلك كان يحتفي بهذه الأزهار في برنامجه الإذاعي، المعمر طويلاً، بصوته الشجي، وهو يقرأ لسواه كأنما هو المؤلف.. كأنه شريك لحظة العاطفة.
وكان علي الجندي حاضراً دائماً كعلامة فاقعة وملونة دائمة الحضور، علامة على الحلم الجميل ببلاد جميلة وعادلة وبشر سعداء يمتنعون عن قطف النجوم احتفالاً بكونها أجمل وهي في سقف السماء، الحلم الذي أحياناً يلاحق امرأة، أو جمالاً غامضاً، أو ثقافة تتسع لكل الناس وتنشر ما يطمحون إليه من الحرية والاكتفاء، الاكتفاء الذي يجعل عفتهم عفة الشبعان، الممتن والشاكر.
ذات يوم قال لي: اسمع برنامجي اليوم. واستمعت إليه وهو يقرأ بصوته المنفعل والشجي، مقاطع شعرية وقصائد مختارة لي. وعندما انتهى البرنامج تلفنت له وقلت ممازحاً: علي، لمن هذه الأشعار؟!
كان صوته وطريقته في الإلقاء يجعل «أي شيء» شعراً!
إذ ننشر هذه هذا البورتريه المتبقي فلأنه، بالدرجة الأولى، لعلي الجندي الذي سجل اختفاءه الصارم حتى الآن. ولم يكن أحد يراه أو يزوره. ذلك لأن «مهنة الصداقة» أحياناًَ تقوم بوضع الزهور الافتراضية على قبر لم يحتو، بعد، صاحبه الحي!
اليوم.. مات علي الجندي. انبعث صوته في أذني متدرجاً طوال سنوات ثلاثين، كنا نسمعه في كل قصيدة وهو يدفع إلى المجهول كلماتِ وصفِهِ المعلومة. وانتشرت فجأة ضوضاؤه الفرحةُ في ذاكرتي، وهو يتطرف في قول ما يريد. ورنّت أشعارُه الحزينة، الحزينةُ دائماً، من صمت فراغ النبأ..
علي مات ليس من الشيخوخة وانعدام الأمل. في الحقيقة مات من الإهمال، من العنوان المعلق في فراغ الجدران في بيته: عنوان «المتروك وحيداً»، فالشيخوخة لا تهجم على الشاعر وحده، بل تصيب، أو تكون قد أصابت الحماسَ والتفتحَ والزهوَ في من حوله.
وانعدام الأمل ليس فرضية، أو صلاة يأس عميم، بل فكرة فروسية عن المهمة التي يقوم بها الشاعر.. بدلاً من الوطن، وقادة بؤسه وخرابه. فكرة الزمن وأفعال الزمن.
في رحلته الطويلة أصغى علي إلى ملذات الحياة وإلى أحلامها الكبرى وعندما نقصته الحياة قليلاً يوماً، شكاها في نص محتشد بالآلام، راثياً ما لم يكن سوى الموت. الموت أو الموات.
برحيله، أعتقد أننا أمام الوداع السحيق لأزمنة احتدام الشعر واحترام الشعر.
من يعرف علي الجندي من الصعب ألا يؤلمه أنه مات، ومن الصعب أن ينساه!
مرحباً، وليس وداعاً، أبا لهب!
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد