احتفاءاً بـ «ألبير كامو» في ذكراه الخمسين
خمسون عاماً على غياب أمير العبث ألبر كامو
لو كان بيننا لظلّ يردّد: بئس عدالة من دون حرية !
يكاد يصعب في هذه الأيام تفادي لقاء ألبر كامو. ففي الاسبوع الاول من العام، كان الطقس الاحتفائي بالكاتب الفرنسي في اوجه، في الذكرى الخمسين لغيابه التي صادفت كرونولوجياً في الرابع من كانون الثاني. لم يتم انتظار انفضاض العام او تقدّمه بعض الشيء لمحاولة تلقف كامو رويدا. أُريد للذكرى ان تحلّ للتو في العجالة وان تُختزل بأيام لكأن الوقت آيل الى التآكل متسارعا ولن يترك متسعا من فسحة الى نهاية 2010. بيد ان الهرولة صوب كامو لها ما يبررها بالسياسة في فرنسا، حيث استبَقت رغبة الرئيس نيكولا ساركوزي في نقل رفاته من بروفانس الى البانتيون في باريس، والجلبة حولها، كل حدث آخر. للتمهّل المستعجل عند كامو مبرر اضافي مصدره "فعل تكفيري" مطبوع بغريزة عاطفية شعبيّة ازاء اسم يسعى الفرنسي العادي الى تأكيد تبنّيه له، بعدما ذبل الافتتان اللامشروط بجان بول سارتر، وصار جائزا ان توجَّه التحيّة الى صديقه اللدود. لا يعني القول ان كامو كان في يوم غيابه في اشهر حادث في الآداب الفرنسية، أديبا منتهيا. على نقيض ذلك، انصرف في تلك الحقبة الى اتمام جداريته عن الجزائر وروايته غير المنتهية "الرجل الاول"، في موازاة حماسة اندره مالرو الذي كان وجده كامو مستأهلا اكثر منه لنيل جائزة نوبل للآداب، لتسليمه مفاتيح مسرح "اتينيه" او "ريكامييه".
حكاية خصام كامو وسارتر العقائدي الإنساني، صارت من كلاسيكيات المشاحنات الأدبية التي لم توفّر الذمّ بالحرفة الكتابية، وحملت بسارتر على اعتبار "الانسان المتمرد" صنيع معرفة مستهلكة تمّت مراكمتها بسرعة. غير ان جان بول سارتر، وبعد يوم واحد على غياب كامو، استلّ القلم ليكتب ما يأتي: "كنا على خلاف، انا وهو، ليس الخلاف امرا بسيطا، ذلك اننا لم نعد نلتقي، كانت تلك طريقة اخرى للعيش معا من دون ان يضيّع احدنا الاخر في كنف عالم صغير مُنح لنا. لم يُثنني ذلك عن التفكير فيه، عن الشعور بنظرته تنزلق على صفحة كتاب او على صحيفة اعتاد قراءتها، وان اقول محدّثا نفسي: ماذا يجري معه في هذه اللحظة؟". اضافت التحية المتأخّرة: "كان يمثّل في هذا القرن وضد التاريخ، الوارث الراهن لسلالة من الاخلاقيين اعمالهم من الأكثر استثنائية في الآداب الفرنسية. اطلقت انسانيته العنيدة والضيقة والتقية والمتقشفة والحسية، صراعا مثيرا للريبة ضد الحوادث الكثيفة والمشوّهة في زمننا. غير انه اعاد في الوجهة المعاكسة وعبر رفضه العنيد والمتكرر، تأكيد وجود فعل اخلاقي في وسط حقبتنا، يناهض الماكيافيليين وعبودية الواقعية".
ولأن التندّم المرتبط بالمناسبات، غدا في هذه الأيام عملة سائدة، فإن وسائل الاعلام في فرنسا والدول المحاذية ثقافيا، لم تحد عنه، فهي التأمت في الأسبوعين المنصرمين ترصد كامو. حلّ جان ايف غيران ضيفاً على "اذاعة فرنسا الدولية" حاملا الى الستوديو "قاموس البر كامو" حيث فنّد في الف صفحة والى جانب ستة وخمسين اختصاصيا، تعابير تنفع بوصلةً لوجهة اعمال كامو، محاولا الاغلاق على الاسطورة بين مصرعي معجم. في الأمسية عينها استكمل الموعد مع وثائقي تلفزيوني على محطة "آرتي" الثقافية حيث اتّحدت الفرنسية بالألمانية لسرد كامو طفل الضواحي الفقير الذي سحر الأخرين واستحوذ عليهم، ومرّ بوظائف صغيرة في المسرح والسياسة والصحافة وحرّك الجيل الشاب ونظّم عمله كقائد فيلق وقصد باريس ليحتل الصفوف الأمامية. هذا قبل الالتقاء بكامو مجدداً في اليوم التالي في برنامج صباحي فرنسي حيث قدّم ممثل اختير ليشخّص الكاتب في فيلم تلفزيوني. وفيما لم يبد ان الوفاء بين المجسِّد والمجسَّد في المحصلة مسألة تستأهل الاطالة، الاهم في هذا المطرح ان كامو وأثره كانا المحتفى والمحتفى به.
في كل حال، لا ادري لماذا وفي كل مرة حضر كامو الى ذهني، اقترض هيئة رمادية من كليشيه عتيق حيث نراه في لقطة جانبية مواجهاً البحر. أكان البحر فعلا ام كانت فكرة البحر الذي ارتاده مورسو قبل ان تخرج من عنق مسدسه رصاصات قاتلة تردي العربي في "الغريب"، تحت اشعة الشمس الحارقة، في يوم غياب والدته، وفي غمرة نكران المشاعر والرغبة العارمة في البكاء؟ ام كان البحر الذي يذكره كامو في مطلع قصة "جوناس او الفنان خلال العمل" القصيرة من مجموعة "المنفى والمملكة"؟ اختار كامو هناك تسمية الرسام الذي "آمن بنجمته ولم يكن يؤمن بسواها"، جوناس بالفرنسية او يونان العهد القديم، في حين استهل السرد بآية من التوراة: "فقال لهم خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم لأنني عالم انه بسببي هذا النوء العظيم عليكم". كانت امثولة كامو الكبرى ان الأساطير صنعت لينفخ التخييل فيها شررا. وليس من باب المصادفة تاليا ان يشيّد ادبه تحت مظلّة اسطورة سيزيف المقدّر له بأمر من الآلهة ان يرفع الحجر الى ذروة الجبل قبل ان يسقط تحت ثقل وزنه الى ما لا نهاية، عقوبة قصوى للعمل غير المجدي والمفرغ من كل امل.
مؤلّفات عدة صدرت في الآونة الأخيرة لمرافقة الذكرى الخمسين لرحيل كامو، من بينها مجلّد، بين الصورة والوثيقة، لكاترين كامو، الوصية على تركة والدها بعنوان "البر كامو وحيد ومتضامن" (ميشال لافون)، ناهيك بسير ثلاث. غير ان القارئ الباحث عن نقد ادبي متمهّل او عن جذور العبث، لن يجد ما يحيل عليهما في هذه الكتب. في "الأيام الاخيرة في حياة ألبر كامو" (اكت سود) للصحافي الفرنسي السابق جوزيه لينزيني، استعادة لأغرب رحلة انجزها كامو من بروفانس الى باريس مدينة صارت تعاديه، على طريقة ومضات استعادية تخييلية تجتاز خواتيم حياته. اما "ألبر كامو، ابن الجزائر العاصمة" لألان فيركوندوليه (فايار) و"ألبر كامو" لفيرجيل تاناز (غاليمار) فأكثر اصطلاحية، وقد انجزتا بتأنٍّ كوصف تفصيلي للفرنسي المولود في الجزائر او بتعابير كامو "الطفل الفقير الصغير".
ثمة حضور ملازم عبر هذه العناوين لكلٍّ من طيف الجزائر وللوالدة كاترين. قبل ان يبلغ سنته الأولى فقد الطفل ألبر والده في معركة مارن الأولى، فربّت والدته الأمية والبكماء والأسرة المديدة من حولها، ابنيها في شقة صغيرة في الجزائر حيث لم يكن ثمة حمّام او مياه جارية. يكتب ألان فيركوندوليه على نحو مؤثر عن تلك "الحياة الضئيلة" في بيت حيث لا وجود لشيء سوى "شراشف بيض ويدَي والدته المطويتين ومحرمة ومشط صغير". غير ان نقاء السيدة وكرامتها طبعا ابنها ليكافح في ظل حرمان مماثل بغية مواجهة عاره الشخصي والخجل من ان يخجل، ويستقي من فراغ الضجيج عبرة تفيد ان "في رفقة من نحب، نتوقّف عن الكلام، وهذا ليس صمتا".
لم يكن الشاب ألبر ليرتاد الثانوية الفرنسية ثم الجامعة لولا نموذج جمهوري فرنسي اثبت جدواه. مكث المراسل الصحافي كامو ثم الكاتب والمسرحي في ارض حيث للوحدة والشك الذاتي وعناد الترحال والانتزاع السطوة الابرز، وحيث لم ينج كامو المرِح والمحِب والباحث عن وقت مستقطع بين نوبات السل، من حراك دائم بين مناخ المتوسط العفوي والمستحم بالشمس وبين باريس الرمادية.
يكتب جوزيه لينزيني في سيرته ان كامو "بقي غريبا على عالم الآداب ومحتجزا في مطهر وجودي لم يكن جزءا منه، ولن يكون يوما، وهم لم يفوتوا فرصة لإخباره بذلك". والحال ان كامو يعود في ذكراه ليطرح نفسه مؤسلبا وليس صاحب قضية فحسب، بعدما أُلقي في خانة اصحاب النمط المتكلّف والحذر والخجل، نمط رجال الشعب. وهذا تقويم ينفي دوره في مدّ حوار مؤثر ومنوّر مع القارئ من طريق عجب تخييله والتباساته المنمنمة، حيث قصّر ساتر الذي جعلنا نتحرّك فكريا، في حين تركنا على مستوى الحس الاخلاقي من جليد. رفض كامو تمجيد الموت والشغف بالتهلكة، رفض العنف الثوري وعنف الانظمة، لأنه اقتنع بأن العدالة من دون حرية، هي بئس عدالة ومسخ حرية.
في مؤلفه غير المنجز "الرجل الأول" استعاد كامو سماكة الأحاسيس وقدرة الألاعيب وشاعرية الطفولة بأسلوب على شيء من البروستيّة (نسبة الى مارسيل بروست). نجد فيه مشهدا من عشرينات القرن المنرصم حيث ألبر كامو (جاك في النص) تلميذ "الأستاذ برنار". يكتب كامو: "لم تكن المدرسة تأتيهم بفسحة الفرار من حياة العائلة فحسب. في حصة الاستاذ برنار كان يغذّى فيهم جوع اكثر جوهرية بالنسبة الى الطفل كما الرجل الراشد، وهو جوع الاكتشاف. في الحصص الأخرى كانوا يدرّسونهم اشياء كثيرة بلا ريب، ولكن تماما بطريقة تسمين الإوزّ. كان يقدَّم الى التلاميذ طعام جاهز ويرجونهم ابتلاعه. في حصة الاستاذ برنار وللمرة الأولى شعروا بأنهم موجودون وبأنهم يستحقون التقدير، ذلك انهم اعتبروهم مؤهّلين لاكتشاف العالم". عالم مشوّش بالقدر الكافي لكي يترك للفن فسحة ان ينوجد.
التحق بكامو مؤلّفون كثر اعتنقوا افكاره وكان في وسعهم تمديد جمله وتقاسم موانعه ومكامن حنينه. لم يتماهوا معه، كانوا مطابقين له. في قافلة هؤلاء، الصحافي والكاتب جان دانيال الذي رفع في عام 1953 سمّاعة الهاتف ليصله صوت من بعيد يسأل: "انا كامو هل تسمعني؟". كان ذاك صدى إله جيل بكامله وكاتب افتتاحية في مجلة "كفاح" يتلقّاه جان دانيال في مكالمة تبدأ بسؤال يشكل استهلالية عشر سنين من "احتفال صداقة"، سيتكسّر عند صخرة الاختلاف على القضية الجزائرية. وقد عاد دانيال الى الصداقة المحطمة في بحث بعنوان "في رفقة كامو"، محاولا فهم اسباب "اللجوء المذهل الى كامو" في ايامنا الراهنة، ومعرفة ما يمكن الكاتب ان يجلبه لنا اليوم في ظل كرة اعلامية منوطة بالصورة والدعاية والانترنت ايضا، "واغتصاب الحياة الخاصة المنادى فيه بإسم الشفافية وتفشي المطبوعات الحاملة فضائح الجنس والمال".
دانيال، هو من بين ثلة تقاسمت مع كامو سلّم الارتقاء الاخلاقي، وفكرة ان الاعلام النقدي يعني في المقام الاول الرهان على اثارة اهتمام القارئ وتأمين وفائه من خلال جعله يفكر، ومن دون التماثل مع حبّه للكسل والسوقية. نحتاج الى مطالعة كامو لنستطيع ان نفكّ سرّ عودته الى روزنامة القرن مفكرا ومقاوما لمرور الزمن. في مواجهة مسائل عصرنا الكبرى والنزاعات، ناهيك بأزمة الصحافة، لا محال من ان نسأل" ماذا كان ليقول كامو او ليفعل؟
كان كامو صحافيا بل كان سعيدا وفخورا بمهنة مارسها كما كان ليحددها فرنسوا مورياك "النوع الوحيد الذي يلائمه تعبير الأدب الملتزم". اما قيمته فمن قيمة الادب، ولا يمكن التفريق بينهما. حاجج كامو ان الصحافيين كانوا ليرفضوا كتابة أي شيء لو كان عندهم ادنى تقدير لمهنتهم. غير انه ينبغي اثارة الاعجاب، وعلى ما يبدو "بغية اثارة الاعجاب ينبغي الخنوع". احصى الفرنسي الجزائري الكوني من دون توقف، الانحرافات التي تدين الصحافة، الخضوع لسلطة المال والهجس بإعجاب الاخرين وتشويه الحقيقة من طريق ذريعة تجارية او عقائدية، اي ازدراء اولئك الذين نتوجه اليهم.
عندما دعي كامو الى اجراء تقويم لنجاحات تجربته وإخفاقاتها في مجلة "كفاح"، اجاب: "على الأقل، لم نكذب". التمرّد على الكذب عوضا من محاولة تحديد انفسنا تجاه الحقيقة الغامضة والمتوارية والقابلة للقهر دوما، انه نواة اخلاقيات كامو، تجعلنا نؤكد ومن دون تردّد انه معاصرنا.
ماهية الفن ودور الكاتب
حدد كامو في خطابه امام الأكاديمية الأسوجية عند تلقيه جائزة نوبل للآداب في عام 1957 ماهية الفن ودور الكاتب، واضعا ما يشبه الدستور الذي لا ضير من استعادته لإعادة تقويم مسار الابتكار:
سيدي سيدتي، اصحاب الجلالة، سيداتي سادتي،
من خلال نيل الامتياز الذي رغبت اكاديميتكم الحرة بتشرفي به، اشعر ان امتناني عميق وخصوصا اني اعي الى اي حد تتجاوز هذه الجائزة استحقاقي الشخصي.
ان كل انسان، وعلى وجه الخصوص كل فنان، راغب في ان يتم الاعتراف به. اتوق الى ذلك ايضا. غير اني لم استطع عندما وصلني قراركم سوى ان اقارن صدى هذا الخبر مع ما انا عليه فعلا. كيف يمكن رجلا شبه شاب، غنيّا بشكوكه فحسب وبإرث لا يزال يتكوّن، اعتاد العيش في وحدة العمل او في انسحاب الصداقة، الا يتلقى بنوع من الهلع حكما يرفعه في برهة، وحيدا ومتروكا لحاله، الى بؤرة الضوء الخام؟ بأي شعور يمكنه تلقي هذا الشرف في حين ثمة كتّاب من بين الاعظم في اوروبا مجبرون على الصمت وفيما يشهد مسقطه مأساة متواصلة؟
عرفت هذين التشوش والاضطراب الداخلي. بغية استعادة السلام انبغى لي، ان اتكيف مع مصير كثير السخاء. نظرا الى اني عاجز عن مضاهاته من خلال الاعتماد على استحقاقاتي فحسب، لم اجد لمساعدتي سوى مفهومي للفن ودور الكاتب اللذين سانداني على مر حياتي وفي اكثر الظروف معاكسة. اسمحوا لي فحسب مدفوعا بشعور العرفان والصداقة، ان افصّل لكم، بأبسط التعابير الممكنة ماهية هذه الفكرة.
لا يسعني العيش شخصيا إلا برفقة فني. غير اني لم اضع يوما هذا الفن ارفع من الامور الاخرى. على نقيض ذلك، نبعت ضرورته بالنسبة اليَّ من كونه لا ينفصل عن اي شخص ومن انه يمكّنني من العيش كما انا وبمستوى الجميع. ليس الفن في نظري ابتهاجاً فردياً. انه اسلوب للتأثير في أكبر عدد ممكن من الناس من خلال مدّهم بصورة امتيازية عن العذابات والافراح المشتركة. يُجبَر الفنان تاليا على عدم الانفصال عن المحيط ويُخضعه لحقيقة اكثر بساطة وكونية. على هذا النحو، فإن الشخص الذي اختار مصير الفن لأنه احس باختلافه، يدرك بسرعة انه لن يغذي فنه واختلافه بسوى الاقرار بأنه يشبه الجميع.
يتكوّن الفنان من الذهاب والاياب الدائمين منه والى الآخرين، في منتصف الطريق الى الجمال الذي لا يمكنه التخلي عنه، والى الجماعة التي لا يسعه الانفصال عنها. لهذا السبب لا يزدري الفنانون الحقيقيون اي شيء، يلزمون انفسهم الفهم عوضا من إصدار الاحكام. وإذا كان عليهم اتخاذ موقف في هذا العالم، فلا يمكنه ان يكون سوى موقف المجتمع، حيث ووفق نيشته، لن يحكم الدَيّان وانما الخالق، أكان عاملا ام مثقفا.
في الاطار عينه، لا ينفصل دور الكاتب عن المهمّات العسيرة. بحسب التعريف، لا يمكنه ان يكون في خدمة صانعي التاريخ، انه في خدمة اولئك الذين يتحملون عواقبها، والا صار وحيدا ومحروما من فنه. لن تستطيع جيوش الطغيان بملايينها، من انتشاله من الوحدة، وخصوصا اذا وافق على اتباع خطواته. ان صمت سجين مجهول، متروك الى الاذلالات في طرف العالم، يكفي لجعل الكاتب يخرج من منفاه في كل مرة، اذا استطاع الاّ ينسى هذا الصمت في وسط امتيازات الحرية وان يستبدله ليجعله يتردد عبر اساليب الفن.
ليس اي منا كبيرا بالقدر الكافي لدعوة مماثلة. غير ان الكاتب وفي جميع ظروف حياته المعتمة او الشهيرة موقتا، عندما يُلقى في حديد الطغيان او يحظى بحرية التعبير عن نفسه لفترة وجيزة، يمكنه ان يستعيد شعور المجموعة الحية التي تبرر افعاله. وذلك بشرط ان يقبل، وقدر ما يستطيع، المهمتين اللتين تُقيمان عظمة مهنته، وهما خدمة الحقيقة اولا وخدمة الحرية ثانيا.
نظرا الى ان دعوته تكمن في جمع اكبر عدد ممكن من الناس، لا يمكنها تاليا ان تتآلف مع الكذب والعبودية اللذين، أينما وُجدا، يمكنهما جعل العزلات تتفشى. اياً تكن نواقصنا الشخصيّة، فإن نبل مهنتنا تتجذر دوما في هذين الالتزامين اللذين يصعب المحافظة عليهما: رفض الكذب في شأن ما نعرفه، ومقاومة القمع.
خلال اكثر من عشرين عاما من تاريخ مختل المعايير وضائع من دون مساعدة، ساعدني احساس غامض بأن الكتابة شرف، لأن هذا الفعل يجبر على عدم الاكتفاء بالكتابة فحسب، شأني في ذلك شأن جميع الرجال في سنّي الذين ألقوا في اختلاجات الزمن. اجبرني خصوصا على ان احمل بحسب قواي، كما جميع اولئك الذين عاشوا القصة عينها، المأساة والامل اللذين تشاركناهما. هؤلاء الرجال ولدوا في بداية الحرب العالمية الاولى، وبلغوا العشرين عندما استتب الحكم الهتلري واولى المحاكمات الثورية، واضطروا بعدذاك ومن اجل تحسين تربيتهم، الى مواجهة الحرب الاسبانية والحرب العالمية الثانية، وعالم مخيمات الاعتقال واوروبا التعذيب والسجناء، اما اليوم فينبغي لهم تربية ابنائهم واعمالهم في عالم مهدد بالتدمير النووي.
لا يمكن احدهم على ما اظن ان يطلب منهم التحلي بالتفاؤل. اؤيد ايضا ضرورة ان نفهم من دون التوقف عن محاربتهم، غلطة اولئك الذين من خلال المزايدة في اليأس، طالبوا بالحق في الخزي، واندفعوا صوب عدميات تلك الحقبة. غير ان معظمنا في بلدي وفي اوروبا، رفضنا هذه العدمية وبدأنا نبحث عن شرعية. اضطررنا الى تكوين فن للعيش في ازمنة الكوارث. من اجل الانبعاث والنضال بعدذاك، كنا مكشوفي الوجه ازاء غريزة الموت الفاعلة في تاريخنا.
يظن كل جيل بلا ريب نفسه مرصودا لإعادة تشكيل العالم. غير ان جيلي يدرك انه لن يفعل ذلك، ومهمتي اكبر على الارجح. تقوم على منع العالم من ان يتفكك. ان هذا الجيل وارث تاريخ فاسد حيث تختلط الثورات المحبطة والتقنيات التي صارت مختلة والآلهة الميتون والعقائد المنهكة، وحيث يمكن السلطات التفهة اليوم ان تدمر كل شيء، فيما تعجز عن الاقناع، وتنحدر الفطنة الى درجة حيث تصير خادمة الحقد والقمع. كان على هذا الجيل أن يرمّم بنفسه وحول نفسه، بدءا من انكاراته، بعض ما تتكون منه كرامة العيش والموت. ازاء عالم مهدد بالتفتت، وحيث من شأن وارثي محاكم التفتيش العظماء ان يؤسسوا الى الابد ممالك الموت، يعرف هذا الجيل انه ينبغي له في نوع من السباق المحموم ضد الزمن، ان يرمم سلاما بين الأمم لا يكون سلام العبودية، وان يصالح من جديد بين العمل والثقافة، وان يعيد بالتعاون مع جميع الناس صنع سفينة مصالحة. ليس اكيدا ان هذا الجيل سيستطيع تحقيق هذه المهمة الهائلة، غير انه رفع بلا ريب وفي كل انحاء العالم، تحدّي الحقيقة والحرية المزدوج، ولا شك في انه ايضا، وعند الضرورة، يعرف الموت من اجل هذا التحدي ومن دون الحقد عليه. انه لمستحق تالياً التحية والتشجيع في كل مكان، وخصوصا حيث يضحّي بنفسه.
ارغب في ان أُمِرّ لهذا الجيل الشرف الذي منحتموني اياه للتو، وانا اكيد من موافقتكم العميقة على ذلك.
من خلال التحدث عن نبل مهنة الكتابة، اعدتُ وضع الكاتب في مكانه الحقيقي، ذلك انه لا يملك ألقابا اخرى سوى تلك التي يتقاسمها مع رفاق الكفاح. انه هش ولكن عنيد، مجحف ولكن مفتون بالعدالة، يبني عمله من دون خجل او غرور امام الجميع، وهو موزَّع دوما بين الالم والجمال، ومرصود في المحصلة الى ان يستنبط من شخصه المزدوج الابتكارات التي يحاول رفعها بعناد ضمن حركة التاريخ المدمرة.
من ينتظر منه بعدذاك حلولا جاهزة وعظات اخلاقية ساحرة؟ ان الحقيقة غامضة وهاربة وينبغي الفوز بها دوما. اما الحرية فخطيرة ويصعب العيش معها بقدر ما هي ملهمة.
ينبغي لنا المضي صوب هذين الهدفين، بصعوبة ولكن بتصميم. فأي كاتب سيجرؤ في اطار الوعي الصالح ان يتحول واعظاً للفضيلة؟ اما انا فينبغي لي ان اقول مرة اضافية اني لست اي شيء من هذا كله. لم استطع يوما ان ارفض النور، والحياة الحرة حيث نشأت. يفسر هذا الحنين الكثير من اغلاطي غير انه ساعدني من دون شك في فهم مهنتي على نحو افضل، ولا يزال يساعدني في ان ابقى عفويا الى جانب هؤلاء الصامتين في العالم الذي لا يتحملون الحياة التي رُصدت لهم لولا ذكرى سعادات وجيزة وحرة، او لولا العودة اليها.
بعدما اوضحتُ ما انا عليه فعلاً، وبيّنت محدودياتي وديوني وايماني العسير، اشعر بأني حر بأن أُظهر لكم كِبَر الجائزة التي منحتموني اياها، وكَرَمها. اشعر اني اكثر حرية بأن ابوح لكم ايضا برغبتي في تلقفها كتكريم موجَّه الى اولئك الذين يتقاسمون معي الكفاح عينه ولم ينالوا اي امتياز، غير انهم عرفوا، على عكسي، المأساة والاضطهاد. لا ينقص سوى ان اشكركم من اعماق القلب، وان اقطع امامكم، وعلنا، كشهادة عرفان شخصية، الوعد القديم عينه بالوفاء التي ينبغي لكل فنان حقيقي، ان يقطعه لنفسه في كل يوم، وفي الصمت.
رلى راشد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد