معارك المسلمين البحرية وجزر البحر الأبيض المتوسط
خرج العرب المسلمون من الجزيرة العربية فاتحين ينشرون دينهم وحضارتهم، ونجحوا في فتح أراضي الدولة الفارسية الساسانية، ثم بدأوا يستولون على أراضي الدولة البيزنطية، ففتحوا الشام ومصر، ومضوا في طريقهم حتى فتحوا شمال أفريقيا وأشرفوا على سواحل المحيط الأطلسي، وكانت الفتوح العربية الإسلامية كالأمواج يدافع بعضها بعضاً، فعبروا المضيق الذي يفصل أفريقيا عن أوروبا وبدأوا يضعون أقدامهم في القارة الأوروبية، وحازوا كثيراً من أقطارها ونجحوا في تثبيت أقدامهم فيها فترة طويلة من الزمن نشروا فيها دينهم الرشيد، وأرسوا قواعد حضارتهم العربية الزاهرة.
كانت بداية معارك المسلمين البحرية في استيلائهم على جزر كريت وقبرص وبعض الجزر المجاورة، بعد ذلك بدأوا يتجهون إلى غزو إسبانيا. سبق ذلك هجومهم على المراكز البيزنطية في كل من البحرين الأيوني والأدرياني. ولم يقف طموح العرب المسلمين عندما فتحوه من الجزر والبلدان والحصون في أوروبا، بل تعدوها إلى ما وراء ذلك.
فالتاريخ يحدثنا أنهم استولوا على عدة ولايات من جنوب إيطاليا وكانوا يطلقون على أراضي إيطاليا البر الطويل أو الأراضي الكبيرة، فأخذوا (فلوريه) واستولوا على (طارنت) و (باري) و (ريو) وغيرها من بلاد (لمبارديا) و (أبوليه). كانت الأجزاء الحيوية من أراضي ( أبوليه) و (فلوريه) تعد من أراضي الدولة البيزنطية واحتفظت الدوقيات الواقعة على البحر التيراني، وهي (جايتا ونابلي و أمالفي) باستقلالها فلم يكن لإمارة (نيفتو) سلطان عليها، وهي مرتبطة بالاسم بالدولة البيزنطية، واضطرت دوقية (نابلي) لدفع مطامع أمراء (بيفتو) عنها إلى أن تحالف المسلمون في صقلية عام 835 م واستمرت هذه المحالفة حتى عام 900 م. استقرت أقدام العرب المسلمين في إسبانيا وفي صقلية وغيرها من جزر البحر المتوسط. وحاولوا الاستقرار على سواحل البحر المتوسط في إيطاليا وفرنسا، واستطاعوا أن يكونوا إمارة مستقلة على سواحل إقليم بيروفانس، وازدادت قوتهم بما كان يصل إليهم من الإمدادات من بلاد الأندلس وأفريقية وجزيرة صقلية، وتمكنوا بذلك من إقامة المعاقل والحصون فوق المرتفعات المشرفة على خليج (غريحو) جنوب إقليم (بروفانس) وفي غابة (فراكسنيت). ومن ثم أطلق على هذه الدولة العربية الفراكسينئة. ولم يلبث هؤلاء العرب أن ألفوا سكنى الجبال والغابات والأحراش.
وما ساعد على ازدياد قوتهم قيام النزاع بين أمراء الإقطاع المجاورين الذين كانوا يطلبون منهم مساعدة بعضهم على بعض. ولم يكتفِ هؤلاء العرب المسلمون بما بلغوه من قوة وحازوه من ثروة، بل اعتبروا أنفسهم سادة هذه البلاد وأصحاب النفوذ المطلق فيها، واستطاعوا خلال القرن العاشر الميلادي أن يهددوا (تورينو) وينتشروا في نواحي (مونت فرانت وبيدمنت) ويستقروا في سهول نهر (البو) ثم تقدموا إلى حدود (ليجوريا) ودخلوا مدينة (جنوى) ووقعت في أيديهم ممرات جبال الألب الشاهقة وخاصة ممر (سان برنار) وفرضوا الضرائب على المسافرين.
يذكر المؤرخ فازيليف في كتابه «العرب والروم» أن العرب المسلمين لما ظهروا أمام صقلية كان يهدد إيطاليا الجنوبية خطر عظيم، ولا سيما بعد أن حالفوا (نابلي) نحو عام 830 م، وكان من أثر هذه المحالفة العربية الإسلامية أن لقيت إيطاليا في أحوالها الداخلية مشاكل كثيرة.
بدأ تفوق العرب المسلمين حينما نجحوا في استعمال الحراقات وهي السفن التي تقذف بلهب النفط ما مكنهم من مقاومة النار الإغريقية التي يستخدمها البيزنطيون، بدأ الهجوم العربي الإسلامي بالاستيلاء على (برنديزي) عام 838 م بأسطول من عرب كريت أو شمال أفريقيا أو منهما معاً، وقام من البندقية أسطول مكون من ستين قطعة حربية للدفاع عن هذا الإقليم، ولكنه عانى أهوالاً شديدة قرب (كروتوني) على خليج (طارنت) حيث حطمه المسلمون تماماً. ومن (بالرم) عاصمة جزيرة صقلية قام العرب المسلمون بغزو إيطاليا الشرقية فاحتلوا (برنديزي) عام 838 م، كما احتل عرب صقلية (طارنت) عام 840 م وهي قاعدة بحرية مهمة في بحر الأدرياتيك، وكان من نتائج انهزام البندقية، وتأسيس حكومة عربية إسلامية جديدة في (باري) واستيلاء عرب كريت على (طارنت) أن تعرض البحر الأدرياني لغارات الأساطيل العربية الإسلامية.
خاف البنادقة على تجارتهم ودفعهم الإمبراطور البيزنطي تيوفيل إلى قتال العرب المسلمين، فجهزوا أسطولاً مؤلفاً من ستين مركباً، فأقلع إلى صقلية والتقى بالأسطول العربي الإسلامي أمام (طارنت) فهلك معظم البنادقة وأسر من بقي على قيد الحياة، وتقدم المسلمون بأسطولهم إلى الجزء الشمالي من بحر الأدرياتيك وهاجموا (الماسيا) واجتازوا البحر وهاجموا (أنكونا) وأسروا عدداً كبيراً من أهلها وغنموا عدداً كبيراً من سفن البنادقة.
في حديثه عن هذه الأحداث ذكر المؤرخ ابن الأثير أن أسطول المسلمين سار إلى (فلوريه) وفتحها، ولقي أسطول صاحب القسطنطينية مهزوماً، فكان فتحاً عظيماً. ويقصد ابن الأثير بفلوريه الجزء الذي يسمى اليوم شبه جزيرة سالانتينا وهو الجزء الجنوبي من (أبوليا) وفيه (طازنت وبرنديزي).
حطم الأسطول العربي الإسلامي أسطولاً بيزنطياً مكوناً من أربعين سفينة تجاه ساحل (أبوليا)، وقد حركت هذه الخسائر القسطنطينية لبذل جهد بحري جديد، فأرسلت أسطولاً كبيراً من الشرق إلى (سرقوسة) عدته 300 سفينة، وعبر هذا الأسطول مضيق مسينا، والتقى الأسطولان العربي الإسلامي والبيزنطي تجاه الساحل الشمالي لصقلية، وانتصر العرب المسلمون انتصاراً حاسماً، وفقد البيزنطيون مئة سفينة.
ويعلق المؤرخ الأميركي المعاصر «أرشيبالد لويس» على هزيمة بيزنطية فيقول: إنه أشنع انكسار حاق ببيزنطية منذ عام 840 م، وتأكدت بذلك سيطرتهم الكاملة على المضايق الواقعة بين صقلية وأفريقية. ومكن امتلاك العرب لجزيرة صقلية وتحالفهم مع «نابلي» الواقعة على الساحل الغربي لإيطاليا من قيام العرب المسلمين بغارات ناجحة على وسط إيطاليا وجنوبها. وبدا الأمر وكأن مصير إيطاليا كلها على وشك الانتقال إلى أيدي العرب.
وأفزع هذا العمل لويس الثاني – حاكم إيطاليا فقرر أن يقوم بعمل ضد العرب المسلمين، لكنه لم يصب نجاحاً يعتد به، وكيف يستطيع وهو لا يملك أسطولاً يطرد به العرب المسلمين من مواقعهم الحصينة على الشاطئ، ومن هذه المواقع كانوا يوغلون بعيداً في غاراتهم الداخلية، وكان حصار لويس الثاني الطويل لمدينة (باري) عملاً عديم الجدوى بسبب سيطرة المسلمين على المسالك البحرية.
غزا العرب المسلمون روما مرتين الأولى عام 846 م وفيها ضربوا الحصار عليها فارتاع البابا سرجيوس واهتز الشعب الروماني رعباً، وبادر الإمبراطور لويس الثاني ملك الفرنجة بإرسال حملة لقتال الغزاة العرب المسلمين، وجهزت ثغور (نابلي وأمالفي وجانيا) حملة بحرية لقتال المسلمين ما اضطرهم لرفع الحصار بعد أن اقتتلوا مع جند الإمبراطور وسفن الثغور الإيطالية وعادوا مثقلين بالغنائم والأسرى.
أما الغزوة العربية الثانية لروما فكانت عام 870 م وقد نجحت نجاحاً تاماً. وأرسل البابا يوحنا الثامن إلى شارل الجسور وبيزنطية ومدن (أمالفي وجانيا ونابلي) ملتمساً لنفسه ولأملاكه الحماية، فلم يظفر إلا بنجاح ضئيل، وذلك لأن القسطنطينية لم تطمئن إلى تقرب البابا من الكارولنجين، ولأنها كانت مشغولة بأمر صقلية وبلاد الشرق، أما شارل الجسور فلم يكن لديه أسطول. وأما حلف مدن كمبانيا فلم يرغب في معاداة أصدقائه العرب المسلمين، لذا، لم تستطع الكنيسة في وسط إيطاليا أن تضمن الحماية إلا بعد دفع أتاوة قدرها 25 ألف قطعة فضية للعرب المسلمين كما ذكر أرسيبالد لويس.
وخلال القرن العاشر كانت غارات العرب المسلمين من إيطاليا وإسبانيا تمتد عبر ممرات الألب إلى وسط أوروبا. ويذكر فيليب حتي في كتابه «تاريخ العرب» أنه في جبال الألب عدد من القصور والأسوار يذكر أدلاء السياح أنها ترجع إلى عهد غزوات العرب، ولعل بعض أسماء الأماكن السويسرية مثل (Gaby) و (AlJaby) لعلها جابي الخراج التي يقرؤها في دليل (بديكر) عن سويسرا ترجع إلى أصل عربي. في عام 986 م أغارت القوات العربية الإسلامية على (فلوريه) ثانية ومدينة (جراتشه) و (كوسنزا) ثم هاجموا المناطق القريبة من (باري) عام 988م، ثم زاد ضغط العرب المسلمين بعد هزيمة البيزنطيين أمام الأساطيل الفاطمية العربية قرب الشواطئ السورية.
وفي عام 1002م أخذ المسلمون ينتشرون داخل إيطاليا في غارات واسعة النطاق، فاحتلوا باريب عام 1003م ثم راحوا يغيرون على البحر التيراني عام 1004م فهاجموا مدينة (بيزا) واستولوا على مدينة (كوسننرا). وبموت الإمبراطور أوتو الثالث وانشغال بيزنطية في حروبها مع البلغار لم يكن في هذه المناطق قوة تصد غارات العرب المسلمين، لذا، أغاروا على (بيتزا) وأمست إيطاليا مثلما كانت أواخر القرن التاسع الصيد السهل للعرب المسلمين. اعتبرت غارات العرب المسلمين على جزيرة صقلية ثم استيلاؤهم على جزيرة كريت عام 827 بداية عهد جديد في البحر المتوسط.
أخذت السيطرة على البحر المتوسط تنتقل إلى العرب المسلمين الذين انتشروا على الشواطئ الجنوبية لذلك البحر، ومن جبال طوروس إلى جبال البرانس. وكافح الرومان طويلاً، واستطاعوا أن يؤخروا إتمام فتح الأغالية لجزيرة صقلية من عام 902م، وتمكنوا من أن يجمعوا الأساطيل لحفظ نفوذهم في جنوب إيطاليا والبحر الأدرياني وحاولوا استرداد كريت دون جدوى، ولم يأتِ القرن العاشر إلا وقد انتقلت السيادة الكاملة في البحر المتوسط للعرب المسلمين.
تحدث ابن خلدون عن عظمة العرب المسلمين في البحر المتوسط فقال: «وقد كان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه». أما «آدم متنر» فتوقف عند عظمة البحرية العربية فقال» لم يكن لأوروبا سلطان على البحر المتوسط خلال القرن العاشر الميلادي، فقد كان بحراً عربياً، وكان لا بد لمن يريد أن يقضي لنفسه فيه أمراً من أن يخطب ود العرب كما فعلت نابلي وأمالفي ويظهر أن الملاحة الأوروبية نفسها كانت في ذلك العصر على حال يرثى لها من الضعف.
انتقلت الجزر الهامة في البحر المتوسط إلى أيدي العرب المسلمين، وكان لهذا الانتقال انعكاسات هامة على القوى البحرية في البحر المتوسط، نتيجة للسيطرة معظم الوقت على جزيرة كريت شرقاً وصقلية ومالطة وقوصرة في الوسط، وجزر البليار (ميورته ومينورته) غرباً ثم على جزيرتي سردينيا وقبرص المحايدتين، ولم يبقَ هناك سوى طريق واحد بعيد من خطر القواعد العربية الإسلامية في البحر والبر وهو الطريق الموصل بين البحر المتوسط وبين البندقية، عبر مياه البحرين الأيوني والأدرياني. وحتى هذا الطريق ظل مغلقاً مدة ثلاثين سنة لوجود قواعد عربية إسلامية في مدن باري وطارنت، واستمرت الحال كذلك إلى عام 875 م وهكذا سيطرت على مداخل البحر الضيقة جزيرة أو قاعدة أمامية واقعة في قبضة العرب المسلمين، فمثلاً سدت جزيرة كريت مدخل بحر «إيجة» وسدت جزيرة صقلية ومونت جادليانو مدخل البحر التيراني، وسدت جزر البليار وفراكسنيت العربية خليج «ليونز» وهكذا أصبحت الشعوب العربية الإسلامية كما يذكر المؤرخ الأميركي أرسيبالد لويس سيدة البحر المتوسط ومالكة زمام طرق التجارة الدولية فيه.
وخلال هذه السنوات حاول الروم البيزنطيون استرداد الجزر من العرب المسلمين دون جدوى، بل قامت السفن العربية الإسلامية بغارات على ساحل تراتيا وجزر السيكلاديز، وفي عام 839 م دمر عرب كريت الأسطول البيزنطي قرب جزيرة «تاسوس» وشعر البيزنطيون بعجزهم عن الهجوم على كريت، فقاموا بهجوم على دلتا وادي النيل ونهبوا مدينة دمياط واستولوا على أسلحة كانت معدة لإرسالها إلى عرب كريت. وفي عام 904م وجهت كريت أقسى ضرباتها على الإطلاق إذ اشترك ليو الطرابلسي مع بعض السفن الكريتية في القيام بغارة واسعة النطاق على (سالونيك) وهي المدينة الثانية في الإمبراطورية. وسارت قاذفات اللهب في طليعة الأسطول، ما جعل الغزو ناجحاً تماماً، وأسر العرب المسلمون من سكان المدن عدداً يبلغ 22000 شخص اقتيدوا إلى الأقطار العربية الإسلامية.
آلمت هذه الغارات القسطنطينية ودفعتها إلى القيام بعمل بحري يكون أشد انتقاماً، فتحركت حملة بحرية كبيرة عام 910م صوب كريت، ولكنها لاقت هي الأخرى المصير الفاشل الذي لقيته الحملات السابقة، وبقيت مدينة «كاندي» مركز تهديد مستمر للنفوذ البيزنطي في بحر «إيجة».
أنيس الأبيض
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد